يعتبر إنزال مشروع الجهوية الموسعة على أرض الواقع من أبرز التحديات التي ستواجه هذا الورش التنموي؛ ذلك أن الأمر يظل مرتبطا باعتبارات ذاتية وموضوعية يأتي في مقدمتها مسألة نوعية النخب السياسية التي سيناط لها تدبير هذا المشروع الحيوي. لكن قبل ملامسة دور النخب السياسية في تفعيل الجهوية الموسعة يبرز سؤال مركزي ألا وهو "ماذا نعني بالنخبة؟". يشير معجم العلوم الاجتماعية إلى أن النخبة عبارة عن مجموعة من الأشخاص الذين يحتلون مركزا متميزا في المجتمع، وفي نطاق أضيق تدل على المجموعة التي اكتسبت شهرة في مجال معين، وتطلق على وجه التخصيص للإشارة إلى الأقلية الحاكمة أو إلى الفئات التي يختار منها أفراد هذه الطبقة، وقد وظفه بقوة مفكرون من طينة موسكا وماكس فيبر وباريتو وريمون أرون الذي نظر إليها باعتبارها "أقليات استراتيجية" توجد في مواقع متميزة داخل المجتمع بشكل يمكنها أن تتحكم في السلطة ليس فقط داخل مجالها الخاص، بل حتى فيمجال الشؤون العامة. فإلى أي حد يصدق هذا التصور على واقع النخب السياسية بالمغرب؟ تشكل النخب السياسية المغربية نوعا من الأقليات الإستراتيجية التي تستطيع لأسباب مختلفة، أن تؤثر في سلطة القرار على المستوى الوطني أو المحلي كما في مقدورها التدخل في عملية توزيع منافع الدولة ،وقد يرتبط نفوذها بشبكات الأتباع والأصدقاء ذوي النفوذ السياسي؛ وتضم هذه الشبكات كلا من الأحزاب السياسية والنقابات والجمعيات المهنية والمصالح الخاصة إلى جانب الأسر الكبرى والقبائل والضباط والعلماء والشرفاء ؛ وقد تتجاوز النخبة السياسية السلطة الحكومية لتشمل المعارضة المؤسساتية نظرا لاحتوائها اليوم على شبكة قوية من الأعيان دون أن ننسى المثقفين أو الأثرياء أو هما معا. فأي واقع يعتري عمل النخب السياسية بالمغرب؟ وما هي محددات عمل هذه النخبة؟وكيف يمكن مقاربة تصورها للشأن الجهوي؟ وإلى أي حد سيؤثر حضورها على كيفية إنزال مشروع الجهوية الموسعة على أرض الواقع؟ إن النخبة المحلية بالمغرب لم تستطع لحد الآن الانسلاخ عن السلوك السياسوي الذي ورثته ؛ فالأعيان الذين ظلوا يشكلون القاعدة الخلفية للأحزاب السياسية في مختلف الاستحقاقات الانتخابية عمدوا إلى التأقلم مع التحولات السياسية لا لشيء سوى الحفاظ على تواجدهم ، بالرغم من أن أعيان اليوم لم يعودوا مثل أعيان الأمس، إذ تغيروا بشكل ملحوظ حيث أصبح فيهم اليوم المقاول الجهوي والفلاح الجهوي. إن الإشكال المركزي الذي يعرفه الحقل السياسي في مغرب الآن لا يكمن في تواجد الأعيان لكن الإشكال الفعلي يتمثل في قدرتهم القوية على التأثير على نمذجة وبلورة الإطار السياسي الذي سيتشكل من خلاله مشروع الجهوية الموسعة، فأي حزب سياسي لا يمكنه اليوم أن يتجاهل قوة الأعيان باعتبارهم قوة سياسية قوية, لكن هذه الأحزاب تدرك أن مطالب النظام السياسي بدأت تتشكل وفق قاعدة العرض والطلب القائمة على الكفاءة والنزاهة , فتسيير مؤسسات الجهوية الموسعة يتطلب نخبا متنورة ذات كفاءة ونزاهة وقادرة على التواصل مع محيطها المجتمعي . إن أولى مداخل تحقيق الفعالية في عمل النخب السياسية هو تجديد نفسها ذلك أن مسألة تجديد النخب مسألة محورية في مسار أي مجتمع على اعتبار أنها تمثل إرهاصا معنويا وماديا يترجم بشكل أو بآخر حركية المجتمع من جهة ومعيارا تأطيريا للحظة تواجدها من جهة أخرى؛ فالحديث عن النخبة يغدو مؤشرا قويا يترجم مدى حيوية المجتمع ومدى قابلتيه لبلورة مشروع مجتمعي ديمقراطي حداثي لكون النخب بمثابة مشتل سياسي يبلور منظومة من القيم ومشاريع الأفكار التي تطبع هوية المجتمع برمته ؛ ذلك أن النخبة تبقى في نهاية المطاف مصنعا لإنتاج أفكار ومشاريع المجتمع. ثاني مداخل تحقيق الفعالية في عمل النخب المحلية يتمثل في طبيعة المهام الملقاة على عاتقها وهي مهام ترتبط بمفهوم القرب من المواطن، فالمحك الحقيقي على وجود أو عدم وجود ديمقراطية محلية هو تحقيق النخب السياسية لانتظارات المواطن في المجالات التعليم والصحة والشغل والبيئة... ثالث مداخل تحقيق الفعالية في عمل النخب السياسية يكمن في ضرورة أن تحرصا على تقسيم أدوارها بغية تدبير الشأن الجهوي نظرا لتعدد وتعقد مكونات هذا المجال: (مؤسسات وبنيات وعلاقات، وأنماطا معرفية وقيمية..الخ) بحيث يتطلب الأمر ما أمسى يعرف اليوم ب: "التخصص الوظيفي: Spécialisation Fonctionnelle" إذ أن كل فرد وكل جماعة أو جهة أو قطاع، أو مؤسسة أو مجال... يجب أن يكون له تخصص معين مضبوط ينتظر منه أن يشتغل في إطاره داخل حدود الأهداف والوظائف المرسومة في نطاق محيطه الجهوي. رابع مداخل نجاح النخب السياسية في أداء وظائفها هو ضرورة نهجها لمقاربة تشاركية ترتكز على الالتزام والتشاور والاعتماد على المواطنين المعنيين المباشرين في تحديد حاجياتهم وإيجاد حلول لقضاياهم العالقة. خامس هذه المداخل يتمثل في ضرورة تبني النخب السياسية لعنصري الوضوح والدقة في اتخاذ القرارات من خلال تبني جملة من المرتكزات: - إقرار مخطط استراتيجي واضح المعالم: يتم من خلاله وضع رؤية محددة وبرامج مدروسة في كل الميادين. - التأطير الشمولي للنخب السياسية: إن نجاح مشروع الجهوية الموسعة سيتوقف بشكل كبير على أداء النخب السياسية باعتبارها الأداة الفاعلة لبلورة هذا المشروع مما يتطلب من الأحزاب السياسية العمل على تجاوز ضعف التأطير السياسي لمناضليها واستقطاب النخب المغربية –على قلتها- لدمجها في هذا المشروع الحيوي. إن كل البرامج التنموية للمجالس الجهوية مسارها الفشل ما لم تواكبها هياكل مناسبة؛ والمقصود بالهياكل هنا تأهيل العنصر البشري المتميز بالكفاءة والمرونة والتكوين العالي والمستمر في كافة المجالات لتكون لديه الرؤية الشمولية؛ فالكثير من المتابعات القانونية التي دشنتها سلطة الوصاية في حق رؤساء المجالس المحلية المنتخبة أتت نتيجة لجهل هؤلاء الرؤساء بالمقتضيات القانونية المتعلقة بمهامهم. - التوفر على بنك للمعلومات يمكن النخب الجهوية من اتخاذ القرارات بكيفية عقلانية وشمولية. - التقييم المستمر لأداء النخب السياسية: EVALUATION: إن كل عمل مؤسساتي للنخب السياسية يجب أن يخضع للتقييم والمراقبة الداخلية باستمرار. إن النخب السياسية في تعاطيها مع مسألة الجهوية الموسعة ينبغي أن يسودها التدبير السليم والسلوك السياسي القويم والحرص على إشراك المواطن والاهتمام بقضاياه عن قرب في إطار ديمقراطية تشاركية وتشاورية مما يتطلب تقوية مسألة التقييم من قبل السلطة المركزية. أمام هذه المداخل الخمس سيصبح قانون الأحزاب السياسية ومدونة الانتخابات أمام محك حقيقي؛ إذ يقتضي وجود نخب مؤهلة ونزيهة ضرورة إعادة النظر في هاذين القانونين بما يمكن النخب المتنورة من تقلد مهام الشأن العام الجهوي ؛ كما يتطلب الأمر ضرورة تأهيل النخب المحلية على مستوى المؤسسات المحلية في العالم الحضري في حين يختفي مفهوم التأهيل بشكل شبه كلي في المؤسسات المحلية في العالم القروي؛ فإذا استثنينا الشريط الساحلي الممتد من الدارالبيضاء إلى القنيطرة فإنه يصعب هنا الحديث عن نخب مؤهلة على بلورة مشروع الجهوية الموسعة،بل حتى داخل هذا المدار يتطلب الأمر إعادة تأهيل هذه النخب بما يستجيب لطبيعة المرحلة القادمة.