من الصعب قراءة مذكرات توني بلير، رئيس الوزراء البريطاني السابق رحلة بعين محايدة لأنه لا يساعد قارئه على هذا الموقف، ففي فصوله الثلاث وبالتحديد عن العراق: العد التنازلي للحرب، والقرار، وعراق ما بعد الحرب، إضافة إلى الفصل عن هجمات سبتمبر 2001، والإطاحة بطالبان، فهو يمارس رحلته أو دفاعه عن الحرب من موقع المحامي، والأخلاقي المتمسك بفوقية أخلاقية تمنحه الحق باتخاذ قرارات من اجل شعوب، فهو يلح كثيرا على انه وإن عارض التدخلات العسكرية إلا أنها تظل حلا مقبولا وضروريا في أحيان كثيرة لإنقاذ الشعوب من ديكتاتوريات حكامها. في النصف الأول من ولايته يؤكد انه حرر كوسوفو يقول انه أطاح بميلوسوفيتش، رئيس صربيا السابق وحرر سيراليون من عصابات النهب المسلح والماس الملوث بالدم، وفي النصف الثاني من ولايته يقول انه أطاح بصدام حسين وحرر العراقيين من جمهورية الخوف، ومع تحرير العراق بدأ ينظر إلى الشرق الأوسط كمنطقة تحتاج إلى تحديث والمساعدة للتوصل إلى خطاب إسلامي قادر على التعبير عن فحوى للدين ((الإسلام) متوافق مع متطلبات العصر الجديد. ومن هنا تجب قراءة روايته عن العراق والإسلام والتطرف بعناية، لاننا نلحظ فيها مجموعة من الملامح، أهمها الهوس أو التركيز على صدام حسين وضرورة إراحة العالم من شروره، فقد أعطى بلير نفسه هذا الحق بصفته تقدمياً وللأسف او لحسن الحظ تلاقت رؤيته مع تحليلات رئيس محافظ هو جورج فالثنائي جورج وتوني تلاقيا في منتصف الطريق على أهمية وضرورة الإطاحة بصدام الذي نرى ان بلير يحاكمه على النوايا، وهذا ملمح آخر مهم في تقييم موقف المسؤول البريطاني لخطر صدام، أي أن الأخير أوقف مشاريعه للسلاح الشامل مؤقتا، وابقى على خلايا نائمة للمشروع احتفظ بالعلماء العراقيين ومختبرات سرية - من اجل التخلص من الحصار وبناء القدرة الاقتصادية لبلده اقتصاديا ومواجهة ايران والحفاظ على العراق كقوة إقليمية. أما الجانب الآخر والمهم في رواية بلير عن العراق فهي محاولته إقناع قارئه بأن قراره كان صائبا. أما الجانب المثير للمرض والقرف انه يحاول الاعتماد على لعبة الأرقام في منافسة من قتل أكثر من العراقيين صدام ام قوات التحالف الدولية التي غزت بلاده؟ وينجح بلير وفق حسبته في التوصل إلى ان صدام قتل أكثر من العراقيين اي أكثر مما قتلته بريطانيا وامريكا مجتمعتين، وللتدليل على هذا يحيلنا الكاتب بلير الى حروب صدام، ضد إيران والكويت، وما يعرف بالانتفاضة الشيعية في الجنوب وحملة الأنفال في الشمال والتي يرى أنها حروب أدت إلى مقتل ملايين العراقيين، بل يدخل بلير في لعبة جدل عقيمة ليقول ان صدام كان وراء مقتل الملايين من الأطفال العراقيين من اجل أن يظهر للعالم آثار الحصار الذي استمر أكثر من 13 عاما قبل الحرب. ويذهب بلير لمناقشة دعوى النظام العراقي عن اثر الحصار إلى القول أن صدام كانت لديه كل الإمكانات لشراء الأدوية والغذاء الذي يريده ضمن برنامج الغذاء مقابل النفط لكنه لم يفعل، بل فضل حشو جيوبه وجيوب رجاله بالمال على ان يشتري الأدوية اللازمة لتلقيح الأطفال ضد الأمراض المعدية، وهو ما فعلته أمريكا وبريطانيا عام 2007 عندما قامتا بتلقيح مليون طفل عراقي بعد الحرب. ويبدو بلير الذي يبدأ فصله عن العراق بالعودة الى ظهوره بداية هذا العام امام لجنة تشيلكوت غير واع للسياق العراقي، فهو وإن شعر بالحرج او المرض والاهانة عندما سئل امام تلك اللجنة التي تحقق في ظروف قرار الحرب فيما إن كان يشعر بالندم ام لا، بالنسبة له فالاجابة بنعم ام لا كانت تعني عناوين صحف وأخبارا رئيسية، اي حول اعتذار او استمرار للغطرسة، لكنه قرر ان يحرف الانتباه عن العناوين ونقل الجواب إلى اطار آخر وهو المسؤولية عن القرار وما جرى بعد الحرب من فوضى. ولا بد من التنبيه هنا إلى ان المسؤولية عند بلير نسبية فهو مؤمن لحد العجرفة بأحقيته بالتدخل في شؤون الدول وإملاء شروطه الحضارية عليها لكنه غير مسؤول في القراءة المعاكسة عمّا حدث، فالفوضى التي حدثت في العراق بعد الغزو وان كانت بسبب فقر في التخطيط الا أنها بسبب صدام الذي فتح سجن ابو غريب وافرغه من المجرمين والعتاة، وسببه أيضا انه سمح للقاعدة عام 2002 بالدخول إلى أراضيه وبناء خلايا فيها، وقرارات مثل اجتثاث البعث وحل الجيش وان كانت عاملا في الفوضى وعدم الاستقرار إلا أن آثارها قليلة نسبيا لان سقوط النظام أدى إلى حل وذوبان الجيش من دون انتظار قرار الحاكم العام الأمريكي بول بريمر لحله. ويبدو بلير، على الرغم من محاولته بناء رؤية اقناعية حول ضرورة التدخل عسكريا وتسليم الأمور للقوى الديمقراطية كي تحكم، غير واع بالتعقيدات في العالم العربي والعراق تحديدا، بل لا يفهم التعقيدات الإقليمية وظرف العراق فليس من حق الاخير ان يكون بلدا قويا في منطقة تننازع فيها الأنظمة على السيادة. والاشكالي في رواية بلير عن العراق والغزو هو محاولته الربط على المستوى العميق بين نظام صدام والحرب على الإرهاب، فهو وان قال ان لا أدلة توجد على ارتباط صدام بهجمات سبتمبر 2001 التي يقول انها كانت اعلانا للحرب من اطار متطرف في الإسلام على امريكا، وهي حرب إيديولوجية الطابع، لكنه يرى ان هناك جامعاً مشتركاً بين الارهاب والانظمة الديكتاتورية وهي كراهية الغرب، ففي تحليله لأزمة الاسلام المعاصر، وهو تحليل تبسيطي ساذج النزعة، يقول ان هناك ما يجمع نظام صدام حسين والقاعدة وهو: الإرهاب، فإضافة إلى فتح الباب أمام أبو مصعب الزرقاوي لدخول العراق، دعم صدام الجماعات الإرهابية الفلسطينية وقدم أموالا لدعم عائلات الانتحاريين الفلسطينيين. ويبدو بلير في تحليلاته التبسيطية لجذور ما يراه أزمة في الإسلام والحاجة لإصلاحه وتقديم خطاب متوافق مع متطلبات القرن الواحد والعشرين جاهلا او متجاهلا عن عمد الأسباب والعوامل التي تغذي التطرف. بلير في هذا السياق وان آمن بأن الحل في المنطقة مرتبط بالتوصل إلى تسوية عادلة للقضية الفلسطينية إلا انه في تحليله لجذور التطرف في الإسلام والصراع داخله يحاول التحايل على هذا العامل، وعوضا عن ذلك يرى أن أزمة الإسلام داخلية ونزاع بين قوى متطرفة ومعتدلة وأنظمة شمولية، فالقوى المعتدلة التي تجد نفسها متعاطفة مع القوى المتطرفة والشمولية تجبرها الاحتياجات المحلية على المشي وراء ما تريده الجماهير مع انها في العمق تريد الصلح والتعايش مع إسرائيل. وهنا لا بد من لفت الانتباه إلى انه عندما لعب بلير في مرحلة ما بعد الهجمات دور بطرس الناسك لتحشيد الدعم وراء الحملة ضد طالبان وزار باكستان وقابل رئيسها في ذلك الحين، برويز مشرف، كانت اول كلمة أطلقها الرئيس الباكستاني انه يجب على الغرب ان يحل مشكلة فلسطين في اعتراف ان القضية الفلسطينية وراء غضب ومظالم وتطرف قطاعات في العالم الإسلامي. وتحليله هنا لازمة الإسلام لا يفترق عن تحليلات الصحافيين الذين يقولون ان الكره والخوف من العولمة والغرب هما وراء التطرف. لكن بلير الذي علم بحجم الأزمة لم يكن مهموما الا بالتخلص من صدام الذي يقول انه الوحيد بين الدول العربية من لم يشعر بالتعاطف مع ضحايا الهجمات حيث بث التلفزيون العراقي أغنية تسقط امريكا. ويبدو بلير وكأنه ينقل من تقارير صحافية عندما يقول ان ياسر عرفات وإن شجب الهجمات الا ان فلسطينيين رقصوا فرحا وهو ما أوردته الصحافة الإسرائيلية. في العراق يكتب عن القرار الذي فشل في الأممالمتحدة لتشريع الحرب، ويقول ان التفكير الأمريكي بعد الهجمات التفت إلى العراق، حيث كان البلد هذا حاضرا في النقاشات التي دارت في بروكسل وان في الأرضية. المصدر: القدس العربي. 5 شتنبر 2010، بتصرف.