يوم الأربعاء فاتح شتنبر الجاري، انطلق، في المكتبات والأكشاك البريطانية والأمريكية، توزيع مذكرات توني بلير، رئيس الوزراء البريطاني الأسبق والمبعوث الحالي للجنة الرباعية لعملية السلام في الشرق الأوسط ، المذكرات التي صدرت تحت عنوان «رحلة» في 715 صفحة. وحسب مهندس «حزب العمال الجديد»، الذي فاز بفضله بثلاثة استحقاقات انتخابية متعاقبة، مما جعله أطول من تولى رئاسة عمالية في بريطانيا زمنيا، فإن كتابه عبارة عن سجل للأحداث التي واجهها، «كإنسان»، طوال العقد الذي قضاه خلف الباب الأسود الشهير للإقامة رقم 10 بداونينغ ستريت (1997 / 2007). بوش ، صدام حسين واجتياح العراق، الإسلام والحرب ضد الإرهاب، العلاقات العاصفية مع وزير ماليته وخلفه غوردن براون، والإعجاب بالأميرة ديانا، حروب أفغانستان والبوسنة وكوسوفو، السياسة الداخلية وعملية السلام في إيرلندا الشمالية... كل هذه عناوين، ضمن عناوين أخرى، قدم حولها بلير روايته، «بدون اللجوء إلى لغة الخشب» تعتبر «لوموند» الفرنسية، مثلما تتضمن المذكرات بعضا من تلك التفاصيل الصغيرة التي تبصم التاريخ وتصنعه. الكحول ملاذا ضد الضغوط ومن بين هذه التفاصيل، ثمة اعتراف الوزير الأول الأسبق للإمبراطورية التي لم تكن تغيب عنها الشمس ذات حقبة تاريخية، اعترافه لأول مرة بتعاطيه شرب الكحول»سبع ليال في الأسبوع» كملاذ من الضغوط التي كان يمارسها ضده غوردن براون، منافسه ونائبه ورفيقه في الحزب، بهدف تنحيته من الوزارة الأولى والحلول مكانه. في هذا السياق، يكتب توني بلير أنه كان يحتسي «كأسا من الويسكي أو من الجِين الممزوج بالتونيك لفتح الشهية، وقدحا أو قدحين من النبيذ، وأحيانا نصف قنينة» مع وجبة العشاء، وهو ما اعتبره أمرا «غير مبالغ فيه»، كاشفا أن زوجته كانت تعارض طقسه اليومي ذاك. ورغم تخوفه من بلوغ مرحلة الإدمان، فإنه اعترف باقتناعه بأن فوائد الخمر (الراحة) تفوق مضاره (الإدمان) لأن المشروبات الروحية «صارت هي الوحيدة التي تمكنني من أداء وظيفتي على النحو الذي أريد»، مستطردا «كلنا يكذب على نفسه عندما يتعلق الأمر بالحدود الآمنة لاستهلاك الكحول، لكنه يتعين علينا الإقرار بكونها عقارا مخّدِرا يقود إلى الإدمان، وما إن تحكم قبضتها علينا، يصبح من المستحيل ربما التخلص من هذه القبضة. كنت أعتقد أن استهلاكي الكحول يقع تحت سيطرتي، لكن هذا كان مجرد إيهام للنفس بالطبع». «الكابوس» العراقي في نصه، يدقق بلير، المحامي في الأصل، نجاحاته: تحديث الحزب العمالي، شهر العسل مع البلد والبريطانيين، عملية السلام في إيرلندا الشمالية... ويتوقف طويلا عند محطة غزو العراق، مخصصا لها حوالي مائة صفحة، فيعترف أنه لم يكن يتصور، عند انطلاق المواجهات، مدى «الكابوس» الذي ستولده الحرب بعد الإطاحة بنظام صدام حسين، وأن قوى التحالف لم تأخذ بعين الاعتبار دور القاعدة أو إيران في العراق أثناء التخطيط لاجتياحه. يصر رئيس الوزراء البريطاني الأسبق على أن قراره بمشاركة بلاده في الحرب كان قرارا صائبا، رغم أن الحرب تلك كانت «غير شعبية، يقودها رئيس جمهوري أمريكي غير شعبي بالمرة»، أي جورج بوش الذي «كنت أكن له الحب والاحترام نظرا لنزاهته»، ورغم أن قراره هذا لم يجعل شعبيته تتراجع فحسب، بل دفع أيضا الكثير من أقرب الناس إليه إلى النفور منه. ومع ذلك، يؤكد بلير: « على أساس ما كنا نعرفه، فأنا أظل على قناعة تامة بأن ترك صدام في السلطة كان ينطوي على خطر أكبر على أمننا من الإطاحة به. ورغم أن العواقب كانت رهيبة، فالحقيقة أن نتائج بقاء صدام وأبنائه في سدة الحكم بالعراق كانت ستكون أسوأ بكثير»، مقرا: «اعتقدنا أن هناك برنامج أسلحة دمار شامل نشط، لكن الأمر لم يكن كذلك». ويزعم صاحب «رحلة» أنه لم يقدم شيكا على بياض لبوش عبر دعم الخطط الأمريكية بدون قيد ولا شرط بمناسبة لقائهما في مزرعة الرئيس الأمريكي بولاية تكساس خلال شهر أبريل 2002، موضحا « لم أعط أي التزام من هذا القبيل، في الواقع أكدت على أن (الغزو) يجب أن يتم عن طريق الأممالمتحدة». لكن هذه الإشارة إلى وجوب صدور تفويض من طرف الهيئة الأممية يشرعن الحرب، لم تمنع بلير من الدفاع، في كتابه، عن «قرار إدارة بوش نشر مئات الآلاف من الجنود الأميركيين لضمان استقرار العراق، وعن الذهاب إلى الحرب بدون صدور قرار ثان من الأممالمتحدة يجيز الغزو». وكشف الكتاب أيضا عن إيمان مؤلفه إيمان العجائز ب»أن تنحية صدام شكلت خدمة للعالم، وعلى وجه الخصوص الشعب العراقي»، مثلما كشف أن ديك تشيني، نائب الرئيس بوش آنذاك «كان يُخطط لغزو بعض دول الشرق الأوسط بعد العراق ومن بينها سوريا.» وأشار الوزير الأول الأسبق، في مذكراته، أنه أدرك بسرعة الآثار التي ستنجم عن اصطدام طائرات الانتحاريين بمركز التجارة العالمي والبنتاغون في 11 شتنبر، وأن الخبر بلغ إلى علمه وهو يستعد لإلقاء كلمة أمام مؤتمر لنقابة العمال فى برايتون، ليقتنع وقتها أن الحرب الجديدة أيديولوجية، مؤكدا أنه لم يكن يفهم تماماً تاريخ الإسلام و أنه أساء تقدير تأثير التطرف الإسلامي. أسف، دموع وتبرع بريع الكتاب وبالمقابل، ورغم اعترافه أن حرب العراق جسدت كابوسا فعليا، فشل هو وبوش والحلفاء، في التنبؤ بمداه، فإن بلير لم ينتهز فرصة صدور مذكراته وابتعاده عن تدبير الشأن العام البريطاني، للقيام بما سبق للعديد من مناوئي قيادته للمملكة المتحدة إلى الحرب التي كان يعارضها الكثير من رعايا صاحبة الجلالة، لم ينتهز الفرصة للاعتذار عن قرار الحرب دون تفويض محدد من الأممالمتحدة، والاعتذار الشامل لعائلات ضحاياها البريطانيين من معطوبين وقتلى، علما أن زهاء 179 جنديا بريطانيا لقوا حتفهم في العراق كما قتل 331 جنديا في أفغانستان. اكتفت صفحات «رحيل»، الصادر عن دار النشر «راندوم هاوس»، بالإعراب عن أسف صاحبها الشديد على»الأرواح التي أزهقت» وعلى «الذين سقطوا في ريعان الشباب»، سواء كان الضحايا جنودا بريطانيين وحلفاء، أو كانوا مدنيين عراقيين أو دبلوماسيين أو رهائن جرت تصفيتهم. وأكدت الصفحات أن موقعها يشعر باستمرار ب»القلق» تجاه الأسر التي ضاعف من إحساسها بفقدان أعزائها الجدل الدائر حول أسباب وفاة أقاربها»، وأنه «آسف للقدر الظالم الذي جعل الخسارة تحيق بها دون غيرها». ولم يفت بلير، في المقام نفسه، التذكير بالتأثر العميق الذي اجتاحه وأوصله إلى «حد البكاء بمرارة» حين استقبل «أرملة شابة قتل زوجها الجندي في العراق أثناء الغزو». وبالمقابل، وتعبيرا عن حسن نواياه وعن حسه الإنساني، كتب الوزير الأول الأسبق أنه سيُخصص ما بقي من حياته العملية «لخدمة السلام في الشرق الأوسط»، كما أعلن أنه سيتبرع بريع مذكراته لصالح «العصبة الملكية البريطانية» العاملة في مجال رعاية قدماء المحاربين، بالإضافة إلى تسبيق الأتعاب الذي تقاضاها من ناشره والذي يبلغ 4.6 ملايين جنيه إسترليني (7.2 مليون دولار). ومن جهتها، أكدت الهيئة الخيرية أن هذه المبالغ ستوظف مباشرة في مشروع مستوصف «باتل باك تشالنج» الجديد الذي تموله، وهو المركز المتخصص في إعادة تأهيل جرحى حربي العراق وأفغانستان الذين لحقت بهم إصابات جسيمة. سحر شجاعة وذكاء بوش «رجل مثالي» يتمتع «بشخصية ذكية جدا» و»بساطة هائلة في الطريقة التي يرى بها العالم»، رئيس ذو «نزاهة حقيقية وشجاعة سياسية»، و»سواء كان على حق أو على باطل، فإنه أبان عن قيادة حاسمة، إنه يؤمن بصدق بنشر الحرية والديمقراطية». هكذا وصف توني بلير في مذكراته جورج بوش، متعرضا للعلاقات التي جمعتهما، وخاصة عقب هجمات 11 شتنبر وخلال الاستعدادات لحرب العراق في 2003 . يكتب البريطاني أن بداية علاقته المباشرة مع الأمريكي تعود إلى أول لقاء جمعهما في كامب ديفيد في فبراير 2001، معترفا أن اللقاء انطلق «على ما يرام، ولكن بحذر شديد إلى حد ما من الطرفين»، واحتضن خلافات عديدة لأن» بوش كان محافظا، وأنا كنت تقدميا». ووفق المذكرات دائما، فبوش «كان يتمتع بقدر كبير من الدعابة، وفي نفس الوقت من إنكار الذات»، أما مفتاح نجاح سياسته، فكان يكمن في ظهوره دائما على أنه «رجل عادٍ». وأطرى بلير على صديقه بوش ورؤيته الثاقبة وحساسيته الشديدة، كما لم يفته التذكير بأنه «كان مدركاً تماماً لعواقب غزو العراق عام 2003»، وأنه السياسي الوحيد في العالم الذي امتلك الشجاعة لمواجهة تنظيم القاعدة بعد هجمات 11 شتنبر. ونظرا لأن الإطناب لا يفسد للود قضية، بل يعمقه، فقد أوردت المذكرات أن صاحبها سُحر بشجاعة الرئيس الأمريكي وقوته وتفانيه، ووجد فيه صديقاً شديد الذكاء والبصيرة، وأن الأميركيين كانوا الوحيدين، بفضله، الذين امتلكوا رؤية فعّالة بشأن كيفية التعامل مع تنظيم القاعدة ونظام صدام حسين. ولأن رئاسته لحكومة صاحبة الجلالة تزامنت أيضا، في بدايتها، مع ولاية بيل كلينتون ، فقد تحدث عنه أيضا، معتبرا إياه «صديقا وشريكا، والسياسي الأكثر شراسة الذي واجهته في حياتي»، كما خصص بعض الصفحات للحديث عن علاقته مع مساعدته مونيكا لوينسكي، معتبرا انه «من الخطأ على الإطلاق إقامة علاقة مع من يعملون معك». ديانا الساحرة والمناورة وفي جزء خاص من المذكرات، يتعرض المقيم السابق في داونينغ ستريت لعلاقته بالأميرة ديانا، كاتبا «ديانا كانت مناورة مثلي»، أي أنهما معا كانا يمتلكان القدرة على إدراك مشاعر الآخرين، ويستطيعان «استغلالها» حدسيا. وحسبه، فأميرة ويلز كانت «متواضعة وساحرة الجمال وذكية. لكنها كانت أيضا عنيدة وعرضة للانفعال العاطفي الزائد، يصعب التنبؤ بما ستفعله في اللحظة التالية»، كما أنه أورد مجريات لقاء جمعهما أسابيع قليلة قبل وفاتها، فيقول إنهما خرجا سويا للتنزه في حديقة الإقامة الريفية المخصصة لرؤساء الحكومة البريطانية بتشيكرز ، فوجد الفرصة سانحة للتعبير لها عن قلقه الحقيقي من علاقتها بعماد (دودي) الفايد، شارحا لها أن هذه العلاقة «مشكلة مقلقة» في اعتقاده. ويتذكر الرجل الذي كان حينها قد تسلم الحكم منذ مدة وجيزة، والذي لم تكن علاقته حينها مع الملكة جيدة، إذ كانت تبدو له «متعالية»، يتذكر أنه استيقظ في الثانية صباحا من ليلة 31 غشت 1997 ، يتذكر أنه أستيقظ ليجد ضابطا يبلغه أن الأميرة أصيبت فى حادثة سير خطيرة بباريس، قبل أن يصله خبر وفاتها بعد ساعتين. عن تلك اللحظات، يكتب بلير: «حاولت ألا أبدو قاسيا، ولكن في نفس الوقت كان علي التماسك لإدارة الموقف والإعداد لمراسم الدفن (...)». وقد جعله، وقتها أيضا، صمت العائلة الملكية المطبق حول الحادث يعتبر الموقف خطيرا على المملكة، خاصة والحزن كان يعم البلاد. لذا، فقد بذل قصارى جهده، يكتب، رغم أن بعض أعضاء العائلة لم يرقهم ما كان يفعله، وتحدث مع أمير ويلز حول خطورة الموقف، فوافقه هذا الأخير الرأي وتحمل مهمة إخبار الملكة والطلب منها إصدار بيان حول الواقعة، وهو ما وافقت عليه. العلاقة المستحيلة مع غوردن براون استغل بلير مذكراته لتصفية الحساب مع خلفه براون، ساردا تفاصيل التفاصيل حول علاقتهما «المستحيلة»، ومعلنا على رؤوس الإشهاد أنه كان يعلم مسبقا أن تولي وزير ماليته السابق رئاسة الوزراء ستكون «وبالا على الحزب وعلى البلاد»، وأنه هوالسبب الأول والأخير في «كارثة خسارة حزب العمال للانتخابات الأخيرة رغم أنها كانت مضمونة النتائج، وذلك بفعل تخليه عن مبادئ الحزب». لا يعدم كتاب «رحلة» المصطلحات لسلخ جلد غوردن براون، فهو «مسبب للجنون»، «يفتقر تماما إلى الغريزة على المستوى الإنساني البحت. يتمتع بالقدرة على الحسابات السياسية الضيقة. لكن هل ينطبق الحكم نفسه عندما يتعلق الأمر بالمشاعر؟ الجواب هو: لا! هل يتمتع بالذكاء التحليلي؟ لا شك في ذلك. هل يتمتع بالذكاء العاطفي؟.. صفر!» واعترف بلير أن الرجل كان « قويا (...)، أقام لنفسه قاعدة في الحزب وفي الإعلام، وهذا وضع جعل من الصعب إزاحته من وزارة المالية»، مضيفا أنه كان «في حكم المستحيل» منعه من تسلم زمام الحكومة، حينما استقال هو من رئاستها في 2007، مبررا «عندما يقول البعض إنه كان علي إقالته من منصبه أو إزاحته إلى منصب أدنى، فإن أصحاب هذا القول لا يضعون في الحسبان حقيقة مفادها أنني لو كنت قد أقدمت على ذلك لكان الحزب والحكم قد اهتزا فورا وبشكل عنيف، وربما كان بلوغه إلى منصب رئيس الوزراء سيتم أسرع بكثير في تلك الحالة».