الدين الشعبي" سواء ما تعلق منه بالمعتقدات أو الخطابات أو الطقوس الدينية بشكل عام استوقفت علماء السوسيولوجيا و الأنتربولوجيا على حد سواء.إن ثمة الكثير من المفاهيم ذات الصبغة الدينية تجد مكانها – يؤكد علماء السوسيوأنتربولوجيا- في المخيال و الثقافة الشعبيتين.و في بلدنا المغرب قام العديد من الأنثربولوجيين بتسليط الأضواء على ما يسمى عندهم ب"الظاهرة الدينية"،و تعتبر الدراسات المستفيضة المعمقة للمستشرق "إدوارد فسترمارك" من الأبحاث الرائدة في هذا العلم الفتي،حيث أسفر التحري الميداني لهذا الأخير عن نتائج قيمة تثمّن له بخصوص الاعتقاد الديني بالمجتمع المغربي،و يمكن إجمالها قي ثلاثة محاور : 1-اختلاف الدين الشعبي للمغاربة عن الدين "الأرطودوكسي". 2-التداخل الصميمي بين الديني و السحري داخل الطقوس الدينية للمغاربة. 3-الحضور القوي للبقايا الوثنية داخل المعتقدات الدينية و الممارسات المرتبطة بها. و ما يهمنا في أطروحة فسترمارك هذا هو ما سماه باختلاف الدين الشعبي عن الأرطودوكسي،وبعبارة أخرى التمايز الجذري بين ممارسات المغاربة الدينية و ما هو منصوص عليه في "الإسلام الرسمي" أو "إسلام السلف الصالح"،و ما المحور الثالث المتعلق بحضور البقايا الوثنية في ممارسات المغاربة الدينية إلا فرع عن هذا الاختلاف وشكل من أشكاله،فعلى سبيل المثال اتخاذ الوسائط (عبادة الأضرحة و الأولياء..) غير مشروع في الإسلام الرسمي إلا أن هذه الظاهرة حاضرة بقوة في المعتقد الشعبي،و هو ما نجده مترجما في شكل طقوس و تقاليد يداوم عليها المغاربة من شد الرحال إلى الأضرحة و تقديس بعض الأماكن،و حتى محاولات العلماء و المصلحين للتحذير من هذه السلوكات التي تتعارض على طول الخط مع عقيدة التوحيد الإسلامية غالبا ما تبوء بالفشل،نظرا لتعلق المغاربة الشديد بهذه الطقوس الوثنية الغابرة التي ظلت "تتعايش" مع الدين الإسلامي،و قد أرجع "إدمون دوتي" سبب حضور التجسيد والأنتروبولاتريا anthropolatrie إلى كون الإسلام "غالى في التوحيد عندما باعد بين العابد و المعبود" على حد تعبيره و زعمه.و نشير إلى أن "إدوارد فسترمارك" لم ينفرد بالتنصيص على تلون الطقوس المغربية بطابع وثني،بل إن هذه النتيجة محورية في أبحاث جل الباحثين المنتمين لما يسميه البعض ب"السوسيولوجيا الكولونيالية". إن الدين الشعبي خاصة منه الحضور الوثني يمكن تفسيره بما يسمى عند الأنتروبولوجيين ب"النمو الجيولوجي" للأديان،فهذه الأخيرة لا تقضي على بعضها البعض و إنما التراكم الجيولوجي هو المبدأ الذي يحكم علاقات الأديان فيما بينهما،فالدين القديم إما أن يظل حيا جنبا إلى جنب مع الدين الجديد (الطقوس الوثنية في الإسلام الشعبي مثلا) و إما أن يدخل كعنصر في الدين الجديد (الهرمسية في الإسلام = التشيع)،ففي أي من الحالتين يمكن تصنيف التداول الشعبي المبالغ فيه للعبارات التي تحمل دلالات الجبر و القسر من قبيل "المكتوب" أو "المكتاب" و "الله غالب"...؟ لاشك أن الإجابة عن السؤال لا تستقيم دون إثبات لا مشروعية عقيدة الجبر و لن يتسنى لنا إقحامها كمعتقد في الدين الشعبي إذا لم نتأكد من كون الجبر إيديولوجيا دخيلة على الإسلام،و قبل ذلك لنسجل أن مثل هذه العبارات الجبرية التي ترددها الألسن عند النكبات و النكسات من أجل تحقيق بعض التوازن النفسي،و تبرير الفشل و التماس المعاذير بالتهرب من المسؤولية و رد ذلك كله إلى الإرادة و القدرة الإلهيتين،قد حملت –أي العبارات- بعض علماء "السوسيو-سيكولوجيا" الغير المتعمقين في مباحث الأنطولوجيا الفلسفية للقول بشئ من السطحية بإنسانية فكرة الإله و الفكر الديني بشكل عام و بأنه من إنتاج العقل البشري،حتى قال بعضهم : "إن الإنسان هو الذي خلق الله" أي حاجة الإنسان النفسانية إلى المطلق جعلتهم يخلقون في فكرهم فكرة الإله،و الفكرة ذاتها عبّر عنها علماء سوسيولوجيا الدين،فإيميل دوركهايم و هو رائد علم الاجتماع يرى أن الإله ضرورة اجتماعية،إنه يعتقد أن الآلهة صورة للمجتمع و ليست المجتمعات صور للآلهة و من هنا استمدت قدسيتها، و أن الغاية مما يسميه "الرموز الدينية" هو ترسيخ الإحساس بالتضامن الجماعي و نبذ النزعة الفردانية،فالدين الذي تمارس طقوسه بشكل جماعي إيجابي من هذه الزاوية لكونه ينمي الشعور بالانتماء إلى الجماعة و يعبر عن رفضه للانزواء و الانطواء على الذات،إن تشييع الجنازات تعبير عن ديمومة الجماعة حسب دوركهايم رغم رحيل فرد منها،و الحداد تعبير اجتماعي عن التضامن مع أهل الميت المفجوعين،فهو الآخر يؤكد فكرة الحاجة إلى الإله و الدين،لكن الهفوة و الفجوة التي تتخلل أبحاث المهتمين بحقل اجتماع الدين متمثلة في كونهم جعلوا من الدين كلاّ لا يتجزأ –نستثني أبحاث ماكس فيبر الذي لم يستكمل دراسته للإسلام-،فمثلا ليست كل الأديان تقول بوجود الإله الواحد أو الآلهة المتعددة،كالأديان الأخلافية( الكونفوشية،البوذية،الطاوية..)،كما أن دوركهايم لم يدرس إلا الأديان الطوطمية،و كارل ماركس لم يدرسها بالكلية، هذا فضلا عن أن الأبحاث السوسيولوجية لم تدرس جوهر الأديان بل درست المظاهر الدينية في المجتمع،إن ما يهم الباحث السوسيولوجي ليس الدين في حد ذاته فهو إذن ليس محل دراسة،بل التوظيف الإنساني للدين،لهذا فإن استقراء أبحاث علم اجتماع الدين تحيلنا على نقطتين مهمتين محوريتين،أو لنقل أن دراسة الدين في المجتمع تركزت على شيئين : وظيفة الدين في المجتمع أي كيف للدين أن يؤثر في المجتمع و يغير مساره و يساهم في التغيير الاجتماعي،فكارل ماركس يرى أن الأديان لا تساهم في تغيير حال المجتمعات بل إنها تخدر و تنوم الإنسان و تحوله إلى كائن ضعيف يرضى بالقمع الذي يمارس عليه و لا يتصدى له،وقد اشتهرت عنه القولة "الدين أفيون الشعوب"،و كارل ماركس ليس ضد الدين هكذا بإطلاقية كما هو شائع،بالعكس فهو يقول "إن الدين قلب في عالم لا قلب له"،و لكنه كما يقول بعض الباحثين لم يدرس الأديان بتفصيلية و إنما استقى أفكاره حول الموضوع من كتابات الباحثين و الفلاسفة خاصة كتاب لودفيغ فيورباخ "جوهر المسيحية"،بينما ماكس فيبر يرى أن ثمة نماذج من الأديان ساهمت في التغيير الاجتماعي و يستشهد بالبروتستانية لاسيما الاتجاه التطهري البيوريتاني الذي كان منبعا أساسيا للنظرة الرأسمالية الغربية الحديثة،و النقطة الثانية تتعلق بالعلاقة الجدلية بين الدين و المجتمع،أي كيف للدين أن يؤثر في سلوك الإنسان الاجتماعي و يوجهه ثم كيف لثقافة المجتمع أن توجه الدين و تحتويه. بعد هذه المقدمة لنعد إلى صلب الموضوع،إن القدر فعلا مسألة عويصة ضلت فيها أفهام و زلت أقدام أقوام عندما خاضوا فيها من غير علم و لا هدى،و تفرقت لأجلها الأمة الإسلامية إلى فرق متعددة،و غضب لإثارتها خير من دب على هذه الأرض محمد صلى الله عليه و سلم،بل إنه السؤال المحير الذي اشرأبت أعناق الحكماء لمعرفة حقيقته،و أسعد الناس بإدراك لطائفه من اهتدي بشمس الوحي و مشكاة العقل و أشقاهم بجهلها من رضي بما عنده من الباطل و المحال و أنواع الكفر و الضلال فهو بعد ذلك يحسب أنه يحسن صنعا و لسان حاله مع أهل الحق : "{أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ"،و مع طلوع فجر الإسلام و بزوغ شمسه ظهرت طائفتان إحداهما قالت إن الله لا يعلم الأشياء حتى تحدث فعطلت صفات الباري،و أخرى قالت إن حركة الإنسان كحركة الريشة في مهب الريح و كحركة الأمواج عند هيجانه،فأنكرت إرادة الإنسان،و الفرقتان تسميان في مراجعنا بالقدرية و الجبرية،و كلاهما عن الحق حائد و عن الصواب في جانب،و أما أهل الحق فعلموا أن القدر تقدير،و أن تقدير الله للأشياء مطلق،و أنه على مرتبتين علم و كتابة،فالله يعلم ما كان و ما سيكون و ما لم يكن لو كان كيف يكون بعلمه الأزلي المطلق الذي لا يسبقه جهل،ثم كتب ذلك بعد أن خلق القلم،فقال له اكتب مقادير الأشياء إلى أن تقوم الساعة،و الإنسان مخير في التكاليف التي يحاسب عليها،مسير في ما لا يحاسب عنه،فلا أنت مطالب بالإتيان بالشمس من مشرقها،و لا مسؤول عن طولك و لونك و أجلك،و الإنسان يميز بين حركة اليد و هي ترتعش لمرض الحمى،و حركتها و هي تكتب خطابا،فأما الأولى فقهرية قسرية لا تثريب عليك فيها،و أما الثانية فاختيارية مأجور أو موزور عليها.و أما مشيئة الله فعين حريتنا،فهو الذي شاء أن تكون لنا مشيئة مصداقا لقوله تعالى "و ما تشاؤون إلا أن يشاء الله" فمشيئتنا منحة منه و هبة من فضله و هي ضمن مشيئته،فلا إكراه و لا جبر و لا قسر "و لو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين"،و أن "لا إكراه في الدين"،و بهذا يكون قد تبين الرشد من الغي في مسائل القدر،و من شاء أن يتوسع فليعد إلى "شفاء العليل في مسائل القضاء و القدر و الحكمة و التعليل" للإمام المبجل شمس الدين ابن قيم الجوزية قدس الله روحه. و هذه العقيدة في القدر هي التي نص عليها القرآن الكريم،و لكن هذا الأخير كما قاتل المسلمون على تنزيله فإنهم تقاتلوا أكثر على تأويله،فالقرآن لأنه حمّال أوجه جعل البعض من ذلك قناة لتأويله على هواه،و اتهموا من أخذه على ظاهره بأنه أوله تأويلا غير مستساغ،و من هؤلاء من قال بالجبر و القسر فاحتمت من وراء هذه العقيدة الفاسدة دولة إسلامية جعلت منها إيديولوجيتها التي بررت بها سياسية العصا و الجزرة،فصارت تلك العقيدة جذرا للاستبداد السياسي في العقل العربي و ستارا يمارس من وراءه الحكام ما شاؤوا من قمع الشعوب و إخضاعهم و إذلالهم تحت غطاء فهم تيولوجي متعسف،و عندئذ يتحول "الدين" إلى إيديولوجيا و الفهم الديني المتعسف أفيونا للشعوب. إن روح الإيديولوجيا عندما تنفصل عن أجساد موظفيها تتشوق لحياة جديدة،و تبحث لها عن "كائن" جديد تندمج معه و تخترق لاشعوره،و بالفعل فإنها ترتمي في أحضان الثقافة الشعبية،و تصير جزءا من مكوناتها،فهذه الأخيرة أشبه بأطلال تشهد على وجود حضارات قديمة غابرة عبثت بها عاديات الزمن و أسدل عليها التاريخ ستار النسيان،فكذلك الثقافة الشعبية هي بقايا الإيديولوجيات التي فعل بها الدهر فعلته أو هي الوجه الآخر للإيديولوجيا و جثتها الهامدة. www.adiltahiri.maktoobblog.com http://www.adiltahiri.maktoobblog.com/