قبل سنوات كنت في زيارة إلى باريس، يومها حاول ضابط الجوازات في مطار شارل ديغول، التلطف معي فسألني بعد أن طالع جواز سفري هل أنت مصري؟، فكان ردي العفوي بنعم، ولكن باللغة الانجليزية ... قطب الرجل جبينه وقال غاضباً، قل نعم بالفرنسية، الرد أعاد إلى ذهني جزءاً من الانتباه، لأدرك أنني أمام ثقافة مغايرة، قوامها اعتزاز أصحابها بلغتهم، والتي لا يمكن التنازل عنها قيد أنملة، باعتبارها مكونا أصيلا لهوية بلد عرف عنه الاهتمام باللغة الأم، التي تشكل الوعاء الفكري لأبنائها والدفاع عنها . تذكرت هذا الموقف وأنا أتابع المعركة التي تدور في المغرب أقصى غرب الوطن العربي، والحملة التي جرت في شارع الحمرا في بيروت مؤخرا، دفاعا عن لغة الضاد التي تواجه بحملة خنق وحصار، لصالح لغات أجنبية، تغلغلت للأسف الشديد في عقول البعض ممزوجة بتعال إن لم يكن احتقارا للغة العربية . ففي المغرب حذر خبراء مما يعتبرونه خطرا يهدد كيان اللغة العربية ووجودها بسبب ما سمّوه (مؤامرة مفضوحة المعالم تنفذها جهات معينة) من أجل استبدالها باللغة الفرنسية في شتى مناحي الحياة . وقال هؤلاء الخبراء إن هناك حملات خطيرة يشنها أكاديميون وأساتذة جامعات من أجل جعل اللهجة المحلية (الدارجة العامية) لغة يتم تدريسها في المدارس بالمغرب . ووفقا لبعض المواقع الإخبارية المغربية سجل الدكتور عبد القادر الفاسي الفهري ، وهو من أبرز علماء اللسانيات العرب، الخطر الذي يهدد واقع اللغة العربية في المغرب على مستوى اتجاهين اثنين : الأول يتمثل في سحب اختيار التعدد اللغوي في التعليم التأهيلي والثانوي، بما فيه إمكانية تدريس المواد العلمية بالعربية وبلغة أجنبية قد تكون الفرنسية والإنجليزية . أما الاتجاه الثاني، حسب الخبير المغربي، فيتجسد في الحملات الهائلة التي يشنها خبراء وأساتذة جامعات من أجل جعل اللهجة المحلية، الدارجة العامية، لغة المدرسة في المراحل الأولى من التعليم. أما عبد الجليل بلحاج، المدير السابق لمعهد تنسيق التعريب التابع للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (الكسو)، وهي إحدى هيئات جامعة الدول العربية؛ فذهب إلى أن هناك «لوبي فرانكفوني» يهدد وجود وحياة اللغة العربية بالمغرب . وفي نفس الوقت تقريبا، كانت جمعية " فعل أمر " و" مؤسسة الفكر العربي " تدقان ناقوس الخطر في شوارع بيروت للدفاع عن اللغة العربية من خلال مهرجان حمل شعار " نحن لغتنا " بعد أن رصد القائمون على الحملة تراجع اللغة العربية في لبنان بعد أن اختار البعض وخاصة في أوساط الشباب التحدث بالانجليزية أو الفرنسية " . والأخطر في نظر رئيسة جمعية " فعل أمر " سوزان تلحوق هو " خجل الشباب العربي بلغته الأم، وعدم إيلائها الأهميّة اللازمة في المؤسسات وأماكن العمل . المعركة في المغرب وحملة الدفاع عن اللغة العربية في بيروت، تعكسان بلا شك قضية جد مهمة، ترقى إلى مستوى التحديات الكبرى التي يواجهها العرب في القرن الواحد والعشرين، فالأمر ليس ترفا فكريا أو رغبة في افتعال معارك، بعد أن فقدنا السيطرة على أنظمتنا التعليمية لصالح مناهج وطرق معلبة ربما تحقق لأصحابها ما يسعون إليه في الحفاظ على هويتهم وثقافاتهم . تراجع اللغة العربية، لها أسباب عديدة ومعقدة، لكنها لا تستعص على إبداع الحلول، وإيجاد الطرق الناجعة للتعامل معها، إذا كان أصحابها مدركين لخطر إضعافها، فأي لغة تنمو، ويشتد عودها بحرص الناطقين بها عليها ، باعتبارها الوعاء الذي يعكس شخصيتهم وكيانهم . واللغة العربية تستحق ، مثل هذا الاهتمام، ولا يجب الاكتفاء بمقولة إن العربية لن تختفي، لأنها لغة القرآن الكريم، وهذا حقيقي، غير أن اللغة كائن حي يمكن أن يمرض ويعتريه الهزال، إذا لم يجد من الرعاية ما يستحقه . هذه بالضرورة ليست دعوة لمقاطعة اللغات الأخرى لمواكبة تطورات العصر التي نفتقدها، بقدر التحريض على التمسك بلغتنا الأم، قبل أن تضيع ونضيع معها .