انتشر الحديث عن أزمة القراءة في العالم العربي وفي المغرب بخاصة بين الكتاب وبين أصحاب صناعة الكتاب بشكل كبير، وهو أمر لا يمكن لأحد أن ينكرهوينكر ربطه بمشاكل الأمية الأبجدية الثقافية، وبغياب الإرادات الرسمية في تشجيع المعرفة عموما وطغيان مشاكل الحياة العامة بما يجعل هاجس الكتاب والقراءة أمرا ثانويا إن لم يكن ترفا عند غالبية المهمومين بثقل العيش ومطالب الحياة. لكني أحسب أن هذه القراءة للظاهرة تظل قاصرة عن رصد كل الأبعاد في القضية، ذلك أنها تجعل من أزمة التفاعل مع الكتاب أزمة موضوعية خالصة يلصق فيها الإتهام بالمحيط الإجتماعي والسياسي وبالمواطن عموما، لكنها تنكر البعد الذاتي المتعلق بما يقدم موضوعا للقراءة ... هل الكتاب وصناع الكتاب الذين يشتكون من إهمال القراء يقدمون كتبا ذات مادة قابلة للقراءة حتى نتهم القراء بهجرة متعة القراءة وجهل إفادة الكتاب، وهل ما يشار إليه على أنه كتب ومنابر ذات بعد ثقافي وإبداعي متميز هي كذلك حتى يستحق محيطها كل اللوم... إن من بين أهم عناصر دفع الناس إلى هجر القراءة هو تقديم السلطة الثقافية الموجهة لذوق واختيارات الناس في هذا المجال ما لا يليق موضوعا للقراءة بشكل فقدت معه الثقة وتولد النفور بدل الإقبال.. كما أن النقد الذي يصاحب الكتب يطغى عليه الدرس الجامعي الغامض في مصطلحه والمتعالي في تحليله فلا يكاد نقاد الكتب التمييز بين ما يجب أن ينشر في منبر صحفي عام وما يجب أن يطرح كمرجع للباحث الجامعي المتخصص... ولعل للمنابر الإعلامية الثقافية نصيب في هذا الإبعاد للقراء عن أي علاقة بالكتب.. فالملاحق الثقافية المغربية ظلت على مدى عقود مجالا لعرض لغة جامعية يحاور فيها الكاتب نفسه في لغة مرموزة ومشفرة لا يفهمها إلا هو بل وفي أغلب الأحيان تكون لغة خشب تردد عبارات صالحة لتحليل كل عمل في كل مكان وزمان وتستعصي على القارئ وبالتالي تفشل في أن تخلق عنده شهية المغامرة لقراءة الكتاب المنقود أو المقدم... حينما نستطيع ردم الهوة بين الخطاب الجامعي المكرور والصحافة المقدمة للكتاب سنتمكن من رفع تحدي جلب أكبر عدد من القراء إلى فضاء القراءة الفسيح... الكتب تنتعش بالسهل الممتنع لا بالتعالي النقدي الفارع.. فكيف لنا أن نقرأ محمد برادة خارج فرضه فرضا على المقررات المدرسية وهو يقفز إلى إسقاط الدرس النقدي المرتبط بأواليات الرواية الجديدة على نصوص إبداعية مصطنعة.. في ذات المجال... يمكن أن نذكر تفاعل القراء مع الروايات التي كانت تقرر في المدارس الثانوية ضمن دراسة المؤلفات... أذكر في هذا المجال كيف أن تلاميذ الثانوي تفاعلوا بقوة وباستمتاع كبيرين مع رواية غسان كنفاني "عائد إلى حيفا" التي رصدت قصة ممتعة ومفيدة في قالب حكائي واضح، وكذلك كتاب "الأيام" لطه حسين، بينما لم يقرأ رواية "رفقة السلاح والقمر" لمبارك ربيع لتصنع كاتبها تعقيد الكتابة والقراءة من خلال نهج ما يدعى تقنيات الرواية الجديدة، المعتمدة على تكسير مصطنع للرواية التقليدية... على الكتاب أن يكتبوا كتبا جيدة وأن يكتبوها للناس بدل كتابتها لذواتهم أو للنقاد من أتباع نهجهم الغامض.. فحين ننتبه إلى أعداد الطبعات التي نفذت فيها رواية "عزازيل" المصرية لا يمكننا أن نتحدث عن أزمة خانقة للقراءة، وحينما ننتبه إلى كل الإقبال الذي يحظى به عمل باولو كويلهو "خيميائي" في مختلف ترجماته العربية لا يمكن أن ننكر أن هناك قارءا ينصت للنصوص، وحين نجد نص الخبز الحافي يعاد طبعه ويتداول بقوة لا يمكن أن نقول أنه ليس هناك قارئ... وحين نرى كاتبا مثل رشيد نيني في كتابه "يوميات مهاجر سري" وفي جريدته المساء يستقطب بانتظام عشرات الآلاف من القراء فلا يمكننا أن نكون بكل ذلك القدر من التشاؤم حول سوق الكتاب... فعشرات الآلاف من القراء المتابعين الصحف يوميا يمكنها أن تكون مشروعا لانتشار الكتاب لو قدم الكتاب ما يليق، وبالطريقة التي تليق، وبالثمن الذي لا يليق، وبالمصاحبة الإعلامية والنقدية التي تليق.. فلا يمكن أن نقبل أن يطبع كاتب رواية في مطبعة رديئة وبغلاف غير دي معنى وبورق لا يختلف عما تطبع فيه الدفاتر التجارية ويضع على غلافه ثمنا خياليا بالنسبة لبلد فقير ويدعو أصحابه النقاد أن يكيلوا المديح لعمله على الصفحات الثقافية وخلال اللقاءات... كيف لهذا الكاتب أن يقدم ما يفيد وما يستثير شهوة القرائة ورغبة المطالعة التين تعدان عنصرين من عناصر البناء للمشروع الثقافي... لم يعرف المغرب في تاريخه على ما أحسب كل هذا الجمهور من المغاربة المتعلمين وبالتالي من الجمهور المحتمل للقرأءة.. وبالتالي فالحديث عن أزمة القراءة أمر نسبي جدا.. ومستوى القراءة المتدني بالنسبة لما يجب أن يكون عليه لا يمكن تحميل المسؤولية فيه كاملا للقارئ والمجتمع، بل إن المقروء والكتاب يتحملون الجزء الأكبر في تنفير الناس من الرغبة في معانقة الكتاب.. إن القراء لا يقرؤون لأن الكتاب ربما لا يكتبون... أو في أحسن الحالات لا يكتبون للقارئ العام.. [email protected] mailto:[email protected]