قراصنة أمريكيون يتحدون الهيمنة الأمريكية احتفاء بثورات اجتماعية مرفوضة اليوم من "إجماع واشنطن" كتاب ممتع ذلك الذي أتحفنا به الأديب الباكستاني طارق علي، وجاء تحت عنوان "قراصنة أمريكا الجنوبية.. أبطال يتحدون الهيمنة الأمريكية: هوغو شافيز، فيدل كاسترو وإيفو موراليس" (صدر الكتاب عن شركة المطبوعات للتوزيع والنشر. بيروت)، وطارق علي للتذكير، معروف عنه التأليف في مجالات الرواية والمسرح وهو أيضا منتج أفلام، ويعيش منذ عدة أعوام في لندن ويرأس تحرير مجلة "نيولفت ريفيو" (مجلة اليسار الجديد). وله أكثر من عشرة كتب في السياسة والتاريخ، ومنها "صدام الأصوليات" و"بوش في بابل" و"سنوات حرب الشوارع" (كتاب مذكرات)، مع التذكير في هذا المقام، بأنه صدرت ترجمة للجزء الثاني من رائعة "صدام الأصوليات" تحت عنوان "مائة عام من العبودية"، وقد أشار طلعت مراد، مترجم الكتاب، إلى أن مشروع طارق علي لصدام الأصوليات "لا يعدو أن يكون قراءة عكسية لنهاية التاريخ عند فوكوياما، وصدام الحضارات صمويل هنتنغتون، فما الأصوليات المتصارعة التي يترصد خطواتها طارق علي إلا الأساس الأرثوذكسي للإيديولوجيات، وهي نفسها الحضارات إذ أنها تحمل أبجديتها وما بين هذه وتلك يكمن التعصب، لب الإيديولوجية والأصولية وراعي الحضارات وحارس بابها". والكتاب، كما هو جلي من عنوانه، يعرج على خلفيات صعود ثلاثة من ابرز الأسماء السياسية الوازنة في أمريكا الجنوبية، بدءا برمز كوبا الأشهر، فيدل كاسترو، ونهاية برئيس بوليفيا، إيفو موراليس، مرورا عبر هوغو شافيز، رئيس فنزويلا الحالي، والذي حظي بمكانة كبيرة في ثنايا هذا العمل، ملاحظا أولا أن انتخاب شافيز كان بمثابة انتقام المحرومين، وإلى أن حصل هذا، كانت واشنطن في الواقع تتجاهل أمريكا اللاتينية. صحيح أنه كانت ولا تزال هناك كوبا، لكن، مع وجود العقوبات الخانقة عليها، كان هناك إجماع على انتظار موت كاسترو (أو "القرصان الأول")، قبل القيام بخطوة جديدة. وبالنسبة إلى البقية، تم بعناية تحوير الديكتاتوريات إلى ديمقراطيات تمثيلية، في قارة تميز أداؤها السياسي بقمع اليسار، الذي عانى من هزائم مأساوية في كل بلد تقريبا، سواء عبر أسر تشي غيفارا وإعدامه في بوليفيا في 1967، أو عبر المصير المأساوي الذي حصده سلفادور أليندي في تشيلي، دون نسيان ما جرى لتوبامارو، الذي تم سحقهم بوحشية في الأوروغواي، وتعرض زعيمهم راوول سنديك ورفاقه لعذابات وجرائم في حق الإنسانية، أما في الأرجنتين، فقد أمرت المؤسسة العسكرية بتصفية مناوئيها، وبما أن ذلك كله، حسب المؤلف، كان يحظى بدعم وكالة الاستخبارات الأمريكية، لم يطالب أحد في تلك الأيام ب"تدخلات إنسانية" أو حتى ب"تغيير النظام". يؤمن الكاتب إيمانا جازما بأن واشنطن تنتظر موت كاسترو، وعندها، سيبدأ هجوم جديد، سيكون هجوما اقتصاديا وعسكريا، وسوف تقوم حينها بعرض المال بكميات غير محدودة لشراء ولاء شعب الجزيرة، واعدة إياه بجنة استهلاكية إلى الأبد. وإذا نجحت السياسة الأمريكية في ذلك، فسوف يشكل مأساة لكوبا وأمريكا اللاتينية. خلاصة طارق علي هذه، تتقاطع مع الخيط الناظم لكتابه الآخر، "الإمبراطورية والمقاومة"، والصادر عن دار الآداب البيروتية، عندما أكد على "أن السبب في نجاح الغرب في الإفلات بهذه التصورات الكاريكاتورية الفجة اتجاهنا على الخصوص يعود إلى تعرض التاريخ للانتقاص التام. ولهذا، فإننا اليوم إزاء شعوب في الغرب تمتلك ذاكرة قصيرة جدا. وأحد أسباب ذلك هو أنه في السنوات الخمس عشرة الأخيرة حصل تراجع كبير في التغطية التلفزيونية لبقية أرجاء العالم، وفي الوقت ذاته تم إنتاج سلسلة من الأفلام الوثائقية، التي لا تنتهي، عن الحرب العالمية الثانية. كما أن التاريخ الحديث يتم تجاهله عمليا من قبل المؤسسات الإعلامية الأمريكية، بحيث يقِل الاطلاع على ما يجري في باقي دول العالم: نحن حيال ثقافة ريفية جدا تنتج الجهل، ومثل هذا الجهل مفيد جدا في أوقات الحرب لأننا نستطيع إذاك أن نشعل غضبا سريعا في شعب فقير بالمعلومات وأن نشن حربا ضد أي بلد". بالعودة إلى سر شعبية شافيز، أو "القرصان الثاني"، يرى طارق علي، أن الذين صوتوا لصالح شافيز، تجاهلوا إشارات "المنع" الصادر عن "إجماع واشنطن" تكرر عبارة "إجماع واشنطن" كثيرا في خطب شافيز وهم يعلمون أنه إذا تَحَدّت حكومة ما، أولويات النظام العالمي باسم ديمقراطية قوية ودستور غاية في الديمقراطية، والأسوأ من ذلك، إذا استمر مواطنوها العنيدون في إعادة انتخابها، فستُشنّع وتُهاجَم، وتُتهم ب"التوتاليتارية" لرفضها التوافق مع "إجماع واشنطن"، وتصدر الأوامر بضرورة سحقها سياسيا، وإيديولوجيا، وبقوة السلاح إذا تطلب الأمر ذلك. هذا هو العالم الذي انتُخِب فيه هوغو شافيز للمرة الأولى رئيسا لفنزويلا في فبراير 1998، حيث كانت الغالبية التي خرجت للتصويت له غاضبة ومصمّمة. فقد تُركت جماهير الفنزويليين لعشرة أعوام من دون تمثيل، وغدرت بها الأحزاب التقليدية بفجور؛ وسُجن المنشقون، وعُذّبوا وقُتلوا. وقررت الأوليغارشية أن تكون الانتخابات مجرد دعابة، واختارت ملكة جمال الكون السابقة، إيرين سايز، مرشحة لها. أما "أم المشاكل" مع شافيز من وجهة نظر الإدارة الأمريكية طبعا، فتكمن في أنه كان دائم الاستعداد للعمل على جبهتين حاسمتين: ففي حين انبرى القائد والرمز التاريخي، سيمون بوليفار لمحاربة جبروت الإمبراطورية الإسبانية في القرن الثامن عشر، وحارب من أجل الاستقلال، فإن الفنزويلي الذي استعار إسم المحرر للحركة الجديدة، مصمم على القيام بالأمر نفسه حيال الولاياتالمتحدةالأمريكية. ومن بين جميع الزعماء الثوريين الذين امتطوا أوروبا والأمريكيتين في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، كان الهدف السياسي لبوليفار هو الأكثر جرأة. فلم يُطالب بأقل من تحرير كامل للقارة المتحدثة بالإسبانية وتوحيدها. (في عام 1825، صعد بوليفار إلى بوتوسي في أعالي البيرو، ورأي بأم العين مناجم الفضة التي لعبت، لنحو مئتي عام، دور خزانة الأمر الواقع لإسبانيا. وفي غضون أشهر، أعيدت تسمية أعالي البيرو، ببوليفيا، تيمنا باسمه)، ولهذا، يدقق الكاتب كثيرا في سمات ما يصفه ب"البوليفارية الجديدة" باعتبارها تجتهد في الدمج بين القومية القارية والإصلاحات الاجتماعية الديمقراطية التي ألهبها ارتفاع أسعار النفط. إنه هذا المزيج الذي أنتج العداء والتوتر بين الطرفين. ويمكن فقط حل التناقض السياسي من خلال تخويل السلطة للفقراء، ونشر التعليم وتطويره، وتوفير الصحة والمأوى للجميع، وبعبارات أخرى، من خلال عكس أولويات "إجماع واشنطن" رأسا على عقب. بالطبع، أغضب واشنطن المنحى الحادّ الذي اتخذه شافيز في السياسة الخارجية لبلاده، فور تسلّمه للسلطة. حيث طوّرت الجمهورية البوليفارية علاقات وطيدة مع كوبا، وبدأت بإرسال مساعدة حيوية لكسر العزلة الاقتصادية المفروضة عليها؛ ورفضت مقاطعة العراق، وهاجمت بشدة نظام العقوبات المفروضة من الأممالمتحدة؛ وأدانت صراحة اعتداءات نيويوركوواشنطن، لكنها عارضت، بالدرجة نفسها، غزو أفغانستان؛ وأحيت على الخصوص دعوة سيمون بوليفار إلى فدرالية أمريكا الجنوبية، لكن ليس ضد إسبانيا هذه المرة، وإنما ضد الولاياتالمتحدة. الطريف، أنه بعد انتخاب شافيز، أصبح يُنظر إلى دولة شبه مجهولة من العالم، على أنها مثال يُحتذَى. إحياء الأمل هذا وظهور بديل متواضع للوضع القائم، أفزعا واشنطن، ومن هنا التعمية المبرمجة التي تمارسها شبكات الإعلام المتحدة، التابعة ل"إجماع واشنطن"، ومن هنا، عنوان هذا الكتاب الممتع. نأتي "للقرصان" الثالث، أي إيفو موراليس، والذي سطع نجمه بعد فوزه في انتخابات 2005، فيما اعتبر حقبة جديدة في تاريخ بوليفيا المضطرب، فقبل ذلك، لم يقترب أي زعيم من السكان الأصليين من السلطة، فكيف بالحصول على الرئاسة. أما المقصود بحكم القانون للسكان الأصليين، فنطلع عليه في أحد ملاحق هذا الكتاب المُمتِع، وهو اقتباس من خطاب ألقاه موراليس في منتدى "دفاعا عن الإنسانية"، ونظم في مدينة مكسيكو، بتاريخ 25 أكتوبر 2003، ويقصد به "حكم الفقراء والمهمشين والمستبعَدين، وحكم الاغتيالات المدبرة والمجازر الجماعية التي عانى منها الشعب البوليفي". ومباشرة بعد فوزه في الاستحقاق الرئاسي، سافر موراليس إلى هافانا حيث استٌقبل استقبال الأبطال، وأعقبت ذلك حصة دراسية طويلة مع فيدل كاسترو حول السلطة، وفي طريق عودته توقف أيضا في محطة أخرى: كاراكاس. وهنا أيضا استقبله هوغو شافيز بحرارة، وقد سُرّ سرورا عظيما، فنحن ببساطة بصدد ثلاث حكومات في القارة ملتزمة بفكرة الاتحاد البولفاري. وكما في حالة فنزويلا، ما يتم اقتراحه في بوليفيا ليس ثورة على الطريقة الكوبية، بل نوع من الديمقراطية الاجتماعية الراديكالية، مرفوضة اليوم من "إجماع واشنطن" ومؤسساته. أما الملحق الذي خُصِّصَ لأحد أهم مداخلات شافيز، وجاءت تحديدا في خطاب له ألقاه بمقر هيئة الأممالمتحدة في 16 سبتمبر 2005، فنقرأ فيه إدانة صريحة للإرهاب، مطالبا بحتمية التصدي له، ولكن، رغم ذلك، يضيف شافيز، "لا يجب استخدامه ذريعة لشن حروب عدائية عسكرية لا مبرر لها، وتقوم على انتهاك سلطة القانون"، ومؤكدا لمروجي "إجماع واشنطن"، أنه "لا يُعقل، من الناحية العملية والأخلاقية، التضحية بالجنس البشري، عبر الترويج، في شكل جنوني، لفعالية نموذج اقتصادي اجتماعي يملك قدرة تدميرية سريعة الاستفحال. ومن الانتحار نشره وفرضه بوصفه علاجا لا يخطئ لكل الشرور التي نتجت عنه بالتحديد". إن الانتصارات في كاراكاس ولاباز هي من طراز مختلف اليوم، إلا أنها، في عالم بدأت الثورة فيه تصبح سفيهة إلى حد ما، تحدد نهاية مرحلة الهزائم والتراجعات، وبداية مسيرة جديدة إلى الأمام في ظروف صعبة. وفي الأخير، يخلص الكاتب إلى أن أمريكا الجنوبية تخطو إلى الأمام، مقدمة الأمل إلى عالم يعيش إما في سبات ليبرالي جديد عميق، وإما يعاني يوميا النهب العسكري والاقتصادي للنظام العالمي الجديد. والقارة ملأى بأصداء الكفاحات الماضية، والموجة الجديدة من الزعماء والناشطين تعي أهميتها. صحيح أنه لا يمكن تكرار التاريخ، كما أنه لا يجب إغفاله، بل يجب أن يتم استعادته وفهمه، ومن ينكر، أن الراحل سيمون بوليفار، أوصى نفسه دائما بعدم اليأس أو الاستسلام السياسي. وجادل بأنه، إذا لزم الأمر، يجب قلب الصفحة والبدء من جديد، وهو ما أخذ يحدث مجددّا في القارة. +++++++++++++++++++++++++