يبعث الشاعر علي المتقي في ديوانه "بريد العالم السفلي" الصادر حديثا ضمن منشورات المطبعة والوراقة الوطنية، رسائل ذات نفس شعري ومعرفي، كما يقيم حوارات مع شخصيات تراثية وشعراء قدامى ومحدثين، يستعيد من خلالهم أزمنة معرفية واجتماعية تنضح برؤى للعالم من سماتها النخوة والعزة والكرامة. وفي هذا الصدد ينسج الشاعر، في هذا الديوان الذي يقع في 95 صفحة من القطع المتوسط ، خيوط حوارات يتداخل فيها الشعري مع السياسي والفلسفي، مع كل من عمرو بن كلثوم وأحمد المجاطي وهولاكو وأبي الطيب المتنبي وأبي فراس الهمداني وعبلة ومهيار الدمشقي وامرئ القيس والسندباد. على أن الأهم في هذه الحوارات، بالنسبة للشاعر الذي يشغل منصب نائب عميد كلية اللغة بمراكش ، هو أنها تسائل من خلال صور شعرية ورؤى عميقة، الأزمنة الراهنة التي وصفتها قصيدة ب "الأزمنة العجيبة" من خلال استحضار الأزمنة الماضية. يقول في قصيدة (رسالة إلى الشاعر أحمد المجاطي/ ص 17) "هو ذا الزمن العجيب/ الشتاء فيه ينتعل .. قيظ المصيف/والربيع يرتدي .. عرى الخريف/آبار الحكمة ... ما عادت تفور.. ماتت النسور/. ويصف الشاعر، الذي يشتغل كذلك أستاذا جامعيا بالكلية نفسها، الأزمنة الحديثة بالأزمنة التي يعسكر فيها الصمت والجبن. يقول في قصيدة (رسالة إلى عمرو بن كلثوم / ص 11) "رأيت ما رأيت فما نطقت/ عسكر الصمت في الحناجر ... أم عسكر الجبن في الدواخل/ فما نطقت ...". ومن مميزات هذا الزمن كذلك الانتظار المغلف بهم ثقيل لا قيمة فيه للسيف ولا الحروف، والأمل المنفتح على المستقبل. يقول في قصيدة (رسالة من جمجمة/ص 25) "الصبر كالصبر/ يتجذر في القلب/ يتناسل في اللسان/ ليل طويل ... صبر جميل/ هم ثقيل... صبر جميل/ظلم مضيض ...صبر جميل/جميل ... جميل/. ولتعميق الدراسة في هذه الرسائل والحوارات، يتعين الاستعانة بتقنية (التناص ) التي تشكل جسرا للتفاعل بين النصوص ، أي التفاعل بين، الخطابات (النصوص) التي تحملها الشخصيات التراثية بكل أبعادها الدلالية والرمزية وبعض الشعراء المعاصرين، والنصوص (الرؤى الشعرية) التي تمثلها قصائد الشاعر المنغمسة في الزمن الحالي والمستقبلي. وعبر هذه الرسائل والحوارات، يناجي الشاعر قيم الفخر والفضيلة، والنخوة والتحمل والحكمة والعلم والمعرفة وزمن الأمان والفرح، في محاولة لبعثها واستنباتها من جديد، في تربة الشعر والمعرفة والحياة . وبمعنى أدق، فإن الشاعر يعقد موازنة بين عالم سفلي (الحاضر) وعالم علوي (الماضي البعيد والقريب) لنسج ملامح عالم أعلى يتواجد في خانة الأزمنة المفترضة (العوالم الممكنة). وبهذا المعنى، فإن رؤية الشاعر للعالم تحمل بين طياتها رسالة مختصرة (أطروحة) تتمثل في الكف عن الخوض في زمن السراب، ربما كتمرين لتجاوز هذا الزمن وهذا هو "بيت القصيد ومربط الفرس العنيد". وكان قد صدر، مؤخرا، لعلي المتقي مؤلف في مجال النقد الأدبي تحت عنوان "القصيدة العربية المعاصرة بين هاجس التنظير وهاجس التجريب"، عن المطبعة والوراقة الوطنية مراكش /الطبعة الأولى 2009 .