تثير الأحداث المتلاحقة التي تعرفها دول عديدة من منطقتي الشرق الأوسط وشمال إفيرقيا اهتماما بالغا للساسة الروس ورجال الاقتصاد، ليس فقط باعتبار موقع روسيا الاعتباري وتأثيرها على الساحة الدولية، بل لأن هذه الظروف الاستثنائية يمكن أن تؤثر إيجابا أو سلبا على التطلعات السياسية الاستراتيجية لروسيا واقتصادها الذي يعتمد بشكل كبير على موارد الطاقة وصناعة الأسلحة. فالاضطرابات المتوالية والمتصاعدة التي تشهدها المناطق المعنية والتي تشكل غالبيتها مصادر إنتاج وتصدير مهمة للطاقة، ألهبت أسعار النفط التي بلغت أرقاما قياسية في الأسواق العالمية. وثمة من يتوقع أن يصل هذا المؤشر قريبا إلى 220 دولارا، "وهو أمر على العموم يمكن أن تبتهج له موسكو ويساهم في سد عجز الموازنة ويحقق التوازن بين الدخل والإنفاقِ دون الحاجة إلى تقليص النفقات الحكومية، كما يمهد السبيل لضخ الأموال في الصندوق الاحتياطي الروسي". وإذا كانت الديناميكية التي تعرفها أسعار النفط على خلفية تصاعد الصراعات السياسية في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، ترسخ قلق المستثمرين بشأن وقوع حالات انقطاع محتملة في إمدادات الذهب الأسود، فإن روسيا تعتبر مستثنية بمعية الدول المصدرة لمواد الطاقة، لكونها تنعم بالاستقرار ويمكن أن تبرم عقودا متوسطة وطويلة الأمد وفقا لشروط تغلب مصالحها وتوطد حضورها في سوق الطاقة العالمية. كما أن روسيا مافتئت تؤكد أن مشروع إنشاء خط أنابيب "التيار الجنوبي" و"التيار الشمالي" لنقل الغاز، الذي سيمتد من روسيا إلى أوروبا، أصبح أكثر أهمية وحيوية نظرا لتطورات الأوضاع السياسية على الصعيدين الإقليمي والدولي والانفلات الأمني الذي تعرفه دول من الشرق الأوسط وشمال لإفريقيا، وهو الخط الذي قد يدر على روسيا ملايير الدولارت في السنوات القليلة القادمة ويدير ظهر أوروبا لدول الجنوب. ويعبر العديد من الخبراء الروس والمحللون عن اعتقادهم بأن "نشوة" روسيا من جراء بيعها لمواد الطاقة بعد أن تعسر الأمر على عدد من الدول، قد تستمر بعض الوقت، علما أنه يوجد الآن تدفق للاستثمارات في روسيا وميزان تجاري إيجابي وعجز الموازنة صفر. إلا أن الوجه الآخر للعملة يبين غير ذلك، إذ تؤكد مصادر روسية مسؤولة أن خسائر روسيا بسبب أوضاع بعض دول شمال إفريقيا والشرق الأوسط ، في واقع الأمر ، ليس "ورديا بالكامل"، فارتفاع أسعار النفط يمكن أن يكون حالة مؤقتة، والعجز في الموازنة كبير. ويميل إلى هذا التقييم وزير المالية أليكسي كودرين الذي أكد أن البلاد لن تمتلك احتياطيا ماليا في المستقبل القريب. كما رأى رئيس الوزراء الروسي فلاديمير بوتين أن ارتفاع سعر النفط على خلفية الأحداث في شمال أفريقيا والشرق الأوسط ينعكس بشكل سلبي ليس فقط على النمو المحتمل للاقتصاد العالمي، وإنما على نمو الاقتصاد الروسي أيضا، موضحا أن هذه الأحداث تهدد النمو الاقتصادي في العالم مما لا يصب في مصلحة الاقتصاد الروسي، وأن موسكو مدركة أن تراجع معدلات نمو الاقتصاد العالمي لا بد أن ينعكس على الاقتصاد الروسي، وبالتالي لا تتمثل مصلحة روسيا في ارتفاع أسعار منتجات قطاع الطاقة دون حدود والناجم عن زعزعة الاستقرار السياسي داخل المنطقة العربية. وتؤكد روسيا رسميا على أعلى المستويات أنها لا تحبذ الارتفاع في أسعار الطاقة إلى ما لا حدود له خلافا لغيرها من الدول المنتجة للنفط، لأنها تتمتع باقتصاد أكثر تنوعا كصناعة الآلات والأسلحة وغيرها. أضف إلى ذلك، أن العقوبات التي فرضتها الأممالمتحدة على توريد الأسلحة إلى ليبيا ستؤثر بشكل كبير على حجم صادرات الأسلحة الروسية، إذ أن طرابلس وغيرها من دول المنطقة تعتبر من أكبر المشترين للأسلحة الروسية على صعيد بلدان الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وكذلك الحال بالنسبة لبعض دول العالم العربي، مما يطرح فرضية إلغاء عقود در بالملايير من الدولارات، وهو الأمر يحتم على روسيا إعادة حساباتها. وأبرز الخبير الاستراتيجي الروسي روسلان بوخوف ، في هذا السياق ، على صفحات جريدة 'روسيسكايا غازيتا'، أن مشتريات دول المنطقة العربية من الأسلحة، سوف تنخفض بشكل ملحوظ بالنسبة لروسيا في الحاضر والمستقبل، إذ قد تستغل دول أخرى الواقع الذي تعيشه عدد من المناطق العربية لتعزيز حضورها وتثبيت مكانتها وبالتالي إيجاد أسواق لها تشعل المنافسة وصفقات بيع الأسلحة. وترى صحيفة 'نيزافيسيمايا غازيتا' من جهتها أن أيام الغضب العربي والثورات التي تجتاح بعض بلدان منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، سوف تحدث تغييرات جوهرية في هيكلة قطاع الصناعات العسكرية في روسيا، وستتسبب بخسائر ملموسة لهذا القطاع، مشيرة إلى أن "فقاعة" ارتفاع أسعار النفط في السوق العالمية تنذر بأزمة اقتصادية جديدة إن لم تتم السيطرة عليها وتنفيسها، حيث يرى المراقبون أنها جاءت نتيجة الاضطرابات السياسية في منطقتي شمال إفريقيا والشرق الأوسط وليس نتيجة تقصير في التوريدات. كما أن الشركات السياحية الروسية تتوق للعودة إلى دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، خاصة وأنها فقدت موارد هامة جراء تراجع أعداد السياح الزائرين لتلك المناطق، والتي كانت وجهة سياحية شتوية أكثر شعبية لدى الروس. وقد تراجعت مبيعات السفريات السياحية بواقع يتعدى أحيانا 90 بالمائة، وقد يزداد الوضع تعقيدا مع عدم الأمان الذي لا يزال مسيطرا في البلدان المعنية. وكل هذه الظروف المعقدة في مناطق بعيدة جغرافيا عن روسيا لكنها قريبة بحكم المصالح الاقتصادية والسياسية، قد تجبر روسيا على العمل من أجل المساعدة والمساهمة في تصحيح الأوضاع في الدول المعنية سياسيا وأمنيا واقتصاديا وضمان الاستقرار فيها لتضمن الحيوية لاقتصادها مستقبلا وتتجنب شرارة التأثيرات السلبية لما يقع من أحداث في دول العالم العربي.