كابوس يؤرق فرنسا السياسية التي لا تريد رفع غطاء الحقيقة على ماضيها التوسعي، من خلال اغتصاب أراضي وخيرات الغير. وليس في الجزائر فحسب. من جانب الجزائر، من الطبيعي أن تظل مطالب تعويض ديون فرنسا للجزائر غير قابلة للمحو. فتلك كانت السبب المباشر للغزو. والموضوع ليس له علاقة ب''الاعتذار''. فدفع الديون مسألة مادية. أما ''الاعتذار'' فهو لتخفف فرنسا من خطاياها. ولتهوّن من ثقل ذاكرة الانحراف على ضمير أمة، تتباهى بأنها مصدر الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. هل من الصواب مطالبة فرنسا ب''الاعتذار''، أو الضغط للوصول إليه؟ لأمر كان سيكون طبيعيا وذو طعم لو أن الطرف الفرنسي تقدّم من تلقاء نفسه معتذرا. عندها لحمل الأمر دلالات الندم والحسرة وصدقية مشاعر ومواقف الطبقة السياسية. لكن بالشكل الذي تتقدم به فرنسا الرسمية في التعامل مع ملف الذاكرة، فهي تقوم بتفريغ مواقفها من معاني الصدق عن طريق ''تقطير'' الاعتراف بالخطأ بتجزئته، وتوزيعه بين المعتدي والمعتدى عليه. وأمر كهذا لا يستقيم ولا يعالج الذاكرة، بل يجرح فيها، ولا يتركها تتعافى. وبعد الشعور والإحساس، أصبحنا اليوم نحضر على المباشر، صراعات الطبقة السياسية، وكيف تتلاعب بملف ''الجزائر'' لكسب معركتها السياسية داخليا. فالجميع تقريبا يسابق الزمن واليمين المتطرف، من أجل استقطاب أكبر عدد من الفرنسيين على خلفية ''الدفاع عن شرف فرنسا''. فالسياسي يلجأ إلى استخدام عناصر من التاريخ وحجج غير صحيحة لكسب ود الرأي العام الفرنسي وإظهار القضية وكأنها اعتداء مصدره الجزائر على ذاكرة الدولة ''صاحبة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان''. هي قراءة للتاريخ يراد بها رسم طريق المستقبل. والقبول بتزييف ما سبق، ليس له إلا رسم طريق علاقات غير سليمة. فالموضوع يراد له أن يكون وسيلة لإخفاء تاريخ بلد أنهكته طموحات قياداته التوسعية في أكثر من قارة. لهذا لم يتردد هولاند، رئيس فرنسا، من التأكيد في أول ندوة صحفية له بالجزائر، على أنه لم يأت ليعتذر أو ليعبّر عن ''الندم''. وكما هو واضح لم تكن الرسالة موجهة للجزائر، بقدر ما كان يخاطب الفرنسيين، وتحديدا حزب ساركوزي الذي ربح أكثر من غيره من هذه الزيارة. أولا، لأنه حدّد مسبقا سقفا لقضية التعاطي مع ملف الذاكرة ومع ماضي فرنسا. ثانيا، أنه جعل البرلمان الجزائري يبارك ويصفّق لما يعتبره تقدّما حمله خطاب هولاند حول التاريخ والمستقبل. عندما نقرأ ما تم استخدامه من شواهد في الخطاب الملقى أمام البرلمان الجزائري، تضاف إلى الاعتراف بجرائم قمع مظاهرات أكتوبر، نعثر فعلا على المسلك الذي كان سيساعد فرنسا على ''مواجهة حقيقة تاريخها''. كانت محاولة، اقتربت ثم نأت للاحتماء بكل ما لا يعيب على الدولة الفرنسية ما قامت به من أجل فرنسا على حساب شعوب أخرى. أي أن تقدم الخطاب في بعض محطاته، لم يخرجه عن السياق العام التقليدي. أما ما تبديه أحزاب من ليونة، فلا علاقة له مع تقاليد ''حسن الضيافة''.. هي حالة تعبّر عن ارتخاء عضلات الإرادة، وتلاش في خلايا المناعة. لقد استقبلت الجزائر رئيسا اشتراكيا بورقة طريق حزب غريمه ساركوزي. حاول واجتهد في استخدام عبارات قوية عن فترة مظلمة وظالمة، وسعى ليستخدم مجازر ماي ,45 ليدعّم من مواقعه اتجاه الجزائر، لكنه في النهاية لم يتجاوب مع الحق التاريخي، ولا مع روح وضرورة الإلتزام ب''شريعة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان''. كان هنا في الجزائر يواجه ذهنيا ساركوزي. فيما يشبه الحملة الانتخابية المسبقة. وفي مقابل ''الحسابات التاريخية''، كانت الزيارة مناسبة لصفقات تجارية. وللأسف هنا أيضا، لم تمر الزيارة بسلام كامل. لأن عقد الشراكة الموقع مع شركة السيارات ''رونو''، أفرز كلاما وتحاليل توحي بأن المفاوض الجزائري دفع أكثر مما يجب (لماذا؟)، ومنح من الامتيازات ما كان يتوقعها الطرف الفرنسي (كيف؟). فهل ضغط فشل تجربة ''فاتيا'' مع الطليان جعل المفاوض الجزائري يرتبك أمام الفرنسيين ويتسرع في إبرام صفقة بأي ثمن؟ الحل متوفر بين أيدي حكومة سلال لرد القراءات وإزالة التأويلات.