لم تخل زيارة الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند وخطابه، بشأن الذاكرة، من الانتقادات، سواء في الجزائر أو في داخل فرنسا، بين من يقول أن هولاند ورّط ''شرف فرنسا'' باعترافه بجرائم الاستعمار ''الظالم جدا''، مثلما رد حزب اليمين المتطرف. وبين من اعتبر أن ضيف الجزائر كان على العموم ''قريب'' مما نتمناه بنسبة محترمة، على حد تعبير وزير المجاهدين محمد الشريف عباس، مما يعني أن الخطوة ليست نهائية وتحتاج لأخرى، قبل الاتفاق على طي الصفحة من الجانبين وليس من جانب واحد، لأن الظلم طيلة 132 سنة الذي شهد عليه هولاند، ليس بالمقدور القفز على جراحه بزيارة رسمية أو مذكرة تفاهمية أو حتى باتفاقية شراكة صناعية. السلطة قالت على لسان مدلسي، أن الجزائر الرسمية ليس لها مطلب (يقصد الاعتراف والاعتذار) والرئيس الفرنسي رد بأنه لم يتلق طلبا حتى يعتذر. وفي ذلك دليل أن التاريخ سيبقى يلقي بضلاله على العلاقات الجزائرية الفرنسية حاضرا ومستقبلا. من اعتبار نوفمبر 54 ''أحداثا'' إلى وصف الاستعمار ب''الظالم جدا'' فرنسا تتقدم خطوة جديدة في الاعتراف بماضيها ''الوحشي'' اختلفت المواقف بالجزائر حيال مضمون الخطاب الذي ألقاه الرئيس هولاند أول أمس، بين من يعتبره اعترافا بجرائم الاستعمار، ومن يراه ''نصف حقيقة''. أما النظرة الموضوعية الهادئة للخطاب، فتؤكد أنه استعمل ألفاظا قوية في وصف الاستعمار لم يسبقه إليها أي رئيس فرنسي من قبل. قال هولاند أن النظام الذي أخضعت له الجزائر ''كان وحشيا''. واستعمل كلمة ''أعترف'' عندما تحدّث عن معاناة الشعب الجزائري من طرف الاستعمار. وقال أيضا إن الاستعمار ''كان ظالما جدا'' واستخدم كلمة ''مجازر'' في وصف التقتيل الذي جرى بفالمة وسطيف وخراطة قبل 67 سنة. وقال إنها ''الحقيقة وينبغي أن تقال''. وقبلها وصف ما وقع في 17 أكتوبر 1961 ''قمعا دمويا''. إذا ما قورنت هذه الألفاظ بما جاء في خطاب ساركوزي بقسنطينة في 5 ديسمبر 2007، يظهر الفارق كبيرا. فقد اكتفى حينها بالقول أن الاستعمار ''ظالم''. واستدرك ذلك بقوله ''كان هناك قتلى من الجانبين'' في حرب الجزائر، وبقوله ''لا تطلبوا من الأبناء أن يعتذروا عما فعله آباؤهم''. وفي مساء نفس اليوم الذي غادر فيه ساركوزي قسنطينة، التقى بقصر الإليزي الحركى لتكريمهم فكان استفزازا واضحا للجزائر. أما أول نشاط لهولاند غداة عودته إلى باريس، أن أعلن بوضوح عبر إذاعة ''أوروبا''1 أنه يتحمل مسؤولية الكلام الذي تلفّظ به عن الاستعمار. إذ قال أيضا: ''كان لا بد أن أذكر أنه كان هناك نظاما لا يحترم قيمنا.. نظام مستغل وقمعي''. قبل 13 سنة كان الاقتتال الدامي بين الجزائريين والجيش الاستعماري في الفترة ما بين ,1954/1962 يسمى ''أحداث الجزائر'' في المقرر التعليمي الفرنسي. ثم تحوّل في عهد الرئيس شيراك إلى ''حرب الجزائر''. بعدها بستة أعوام أصدر البرلمان الفرنسي، عاكسا عقلية استعمارية مستحكمة في قطاع من الطبقة الفرنسية، قانونا يوصي بإدراج ''الدور الحضاري لفرنسا بشمال إفريقيا خلال القرنين ال19 وال''20 في المناهج المدرسية. ثم بعد فترة قليلة تدخّل شيراك لنزع ما يمجّد الاستعمار في القانون. إذن من ''أحداث الجزائر'' إلى ''أعترف بأن الاستعمار كان وحشيا''، خطت فرنسا خطوات هامة في ملف ''الذاكرة''. في المقابل من كان يترقب اعتذارا وإعلان توبة من جانب هولاند، ما موقفه من اختفاء ''حميَة'' السلطات الجزائرية تجاه جرائم الاستعمار؟. الرئيس بوتفليقة قال في 18 ماي 2006 ''من واجبنا اليوم تجاه الشعب الجزائري والشهداء، المطالبة باعتذار رسمي من طرف أمة كان شعارها الثوري دائما حرية، مساواة إخاء''. وقبلها بعام شبّه بوتفليقة الفظائع التي ارتكبها جيش الاحتلال في فالمة بالأفران التي فتحتها النازية لحرق الأجناس التي يحتقرها العرق الجرماني. يظهر إذا جليا أن التشدد الذي كانت تبديه الجزائر في مسألة الاعتذار والتوبة، كان يقوده شخص واحد والبقية يتبعونه، وعندما توقف عن التعاطي معها سكت هؤلاء. فهل فرنسا هي التي أثبتت شجاعة في ملف الذاكرة أم الجزائر هي من تخاذلت؟ الجزائر تنتقل من تنويع الشركاء إلى منح الحصرية الاقتصادية فرنسا تحافظ على الأولوية في مرحلة تراجع تنافسيتها العالمية ظل الرئيس بوتفليقة، يعتقد أن فرنسا هي من تملك ''المفتاح'' لمن يريد لنظام حكمه الولوج إلى قارة أوربا، وهي العبارة التي قالها صراحة في بداية حكمه عام .99 ولذلك لم تخرج مختلف المحادثات التي جمعت مسؤولي البلدين، خلال زيارة الرئيس فرنسوا هولاند عن هذه النظرة والاعتقاد الراسخ، رغم أن الظروف تغيّرت كليا، على الأقل من باب أن الجزائر تشهد بحبوحة مالية، وفرنسا بمعية أوربا مهددة بأزمة ديون خانقة، مما يعني أن الجزائر ما زالت لا تحسن استخدام أوراقها التفاوضية الرابحة. لم يكن الرئيس الفرنسي مجانبا الصواب عندما قال أن ''الجزائر تمثل البلد الثاني في العالم الذي يتكلم اللغة الفرنسية''، لكن الذي لم يقله فرانسوا هولاند، أن هذه المرتبة المتقدمة للجزائر في الحفاظ على لغة ''موليير''، لم تكن بفضل مساعدات مالية فرنسية، بقدر ما كانت من تمويل خزينة الدولة الجزائرية كلية، وهو ما يعني أن باريس وفّرت في خزينتها الملايير منذ عدة سنوات، لأن الحكومة الجزائرية كانت حريصة على تنمية اللغة الفرنسية أكثر من الحكومة الفرنسية التي كانت تقدّم معوناتها للدول الإفريقية الأخرى المنضوية في المنظمة العالمية للفرنكوفونية. وتعد هذه المسألة الثقافية من بين الأوراق الرابحة المهملة التي لم تستعملها الجزائر في مفاوضتها مع باريس، لأنها كانت تنظر للفرنسية على أنها ''غنيمة حرب''، فيما كانت دول أخرى كتونس والمغرب ومالي والسينغال وغيرها، يغرفون سنويا أموالا نظير الحفاظ على تواجد اللغة الفرنسية بها. من جانب آخر، تظهر بنود الاتفاق مع شركة ''رونو'' للسيارات بشأن مصنع تليلات بوهران، أن المفاوض الجزائري مقابل الشروط ''المجحفة '' التي وافق عليها، ما زال يعتقد أن قدوم الفرنسيين لصنع السيارات بالجزائر، من شأنه أن يدفع دول أخرى إلى تقليدهم في خطوتهم. يحدث هذا في الوقت الذي لم تعد صناعة السيارات الفرنسية نموذجا يحظى بالتقليد، لأن معظم الشركات الفرنسية لم تعد تنافسية وهي الآن مهددة بالإفلاس، ولم تعد تملك أسواقا سوى في الدول الفقيرة لأسباب تاريخية ليس إلا بعدما برزت في العالم مؤسسات دولية في السنوات العشرين الأخيرة أحدثت ''ماركاتها'' ثورة في عالم السيارات، على غرار اليابانيين والكوريين والألمان والصينيين، سواء من حيث الجودة أو السعر. وتكون هذه التنافسية وراء اشتراط ''رونو'' على الطرف الجزائري تحمّل أي خسارة عن طريق فرض شرائه ضمن صفقات التجهيز العمومية للدولة الجزائرية، وهو ما لم تقم به الحكومة مع منتوج مركب السيارات الصناعية بالرويبة ''سوناكوم سابقا'' الذي لم تضمن له الدولة زبائن لتصريف شاحناته وحافلاته ولم تغلق لصالحه باب الحافلات المستوردة من الخارج. هذه المعطيات وغيرها كثيرة في الاتفاقات المتوصل إليها خلال زيارة هولاند، تكشف أن الجزائر عادت إلى المربع الأول بعدما عملت طيلة السنوات الأخيرة ونجحت في ذلك، على تنويع الشركاء في الخارج وعدم البقاء رهينة المتعامل الواحد الذي كلّفها ركود ونفور المستثمرين الأجانب عربا كانوا أو عجم، جراء الكيل بمكيالين في منح الأفضلية والامتيازات في سياق عقدة مستعمر الأمس. عضو مبادرة ال 14 حزبا الطاهر بن بعيبش ل ''الخبر'' تصريحات مدلسي سهّلت الموقف الفرنسي الرافض للاعتذار كيف قرأتم خطاب الرئيس الفرنسي وقوله أن الاحتلال ''ظالم ووحشي جدا''، هل ترقي هذه التصريحات لمطالب الطبقة السياسية والأسرة الثورية؟ إنها تصريحات لا ترتقي أبدا لسقف المطالب التي رفعها الشعب الجزائري ونخبه السياسية لأجل اعتذار فرنسا بجرائمها، أسوة بما حصلت عليه فرنسا ذاتها من الألمان وما منحته هي لليهود المرحّلين إلى المحتشدات التي أقامها النازيون، ثم، إن الاعتراف بوقائع، لا يعني الاعتراف بجرائم الاستعمار الوحشية ولا يعني الاعتذار. وهذه التصريحات لا تساعد على تصفية الأجواء وبناء علاقات طبيعية بين البلدين. لقد تعامل الرئيس الفرنسي كطبيب نفسي جاء يعالج مصدومين.. ولكن الوضع غير هذا.. نحن أصحاب حق، وعلى فرنسا أن تعتذر وتعترف بصفة صريحة للمضي إلى الأمام. لا يمكن بناء علاقات سليمة بالقفز على حقائق التاريخ. وأنا شخصيا ما كنت أنتظر الكثير من الرئيس الفرنسي. استبقت الزيارة بإعلان وزير الخارجية مراد مدلسي بأن الحكومة الجزائرية لم تطلب الاعتراف بجرائم الاستعمار أو الاعتذار، في وقت صدرت في فرنسا أصوات في صفوف اليسار تطالب الرئيس الاشتراكي بتجريم الاستعمار والاعتذار؟ خاطب وزير الخارجية مراد مدلسي، الفرنسيين صراحة بموقف غريب. قال ما معناه ''ادخلوا البلاد آمنين''. إن تصريحاته تناقض الخطاب الرسمي، ثم إنه ما دامت السلطات الجزائرية لا تريد الاعتذار ولم تتبن تجريم الاستعمار، فمن الصعب على السلطات الفرنسية أن تبوح بذلك وتقر بهذه الجرائم التي هي جرائم ضد الإنسانية. توّجت الزيارة بالتوقيع على عقود واتفاقيات تعود بالفائدة على الاقتصاد الفرنسي، واستغلت السلطة المناسبة للإيحاء بعدم وجود تحفظ فرنسي على عهدة رابعة للرئيس بوتفليقة، كيف تقرأون ذلك؟ الرئيس الفرنسي عاد إلى بلده ومعه ما يريد، والسلطة تعاملت معه بمنطق مصلحي ذاتي، أي ضمان عهدة رابعة ولو بتعزيز النفوذ الفرنسي الاقتصادي والمالي في الجزائر. أنتم عضو في مجموعة الأحزاب التي حاولت كسر جدار الصمت الرسمي بخصوص مطلب الاعتذار، كيف ستتعاملون مع الموقف الجديد على ضوء تصريحات الرئيس الفرنسي وموقف الحكومة الجزائرية؟ هناك مسعى لجمع الأحزاب المعروفة بمجموعة 14 اليوم السبت، لبحث الموقف وتقدير الخطوات اللاحقة. الجزائر: حاوره ف. جمال مندوب مقترح قانون تجريم الاستعمار موسى عبدي ل ''الخبر'' إقرار هولاند بمعاناة الجزائريين لا يلغي مشروع قانون تجريم الاستعمار كيف قرأتم خطاب الرئيس الفرنسي في الجزائر خاصة في الشق المتعلق بإقراره بالتداعيات المأساوية لجرائم الاستعمار؟ من حيث القراءة الأولية لخطاب الرئيس هولاند، ألتمس نقطتين هي الليونة في تعاطيه مع الذاكرة الجزائرية والإيجابية في مجال الذاكرة، وهي امتداد لمواقف ومسار هولاند السياسي خلال ثلاث محطات. أولا أثناء الحملة الانتخابية، حيث يعد أول رئيس في الدولة الفرنسية وضع باقة من الورود في جسر ''كليشي'' في باريس في أكتوبر 2011 خلال حملته الانتخابية. والمحطة الثانية كانت في 17 أكتوبر 2012، حيث اعترف بجرائم 17 أكتوبر1961 في حق العمال الجزائريين في باريس. ويمكن اعتبار المحطة الثالثة كانت في خطابه يوم الخميس الماضي، حيث يعدّ الرئيس الفرنسي الوحيد منذ 182 سنة، أي منذ احتلال الجزائر في 1830الذي يقر بجرائم الاستعمار خلال 132 سنة من الاحتلال. لكن الرئيس الفرنسي لم يعلن عن اعتذار ولا عن آلية لتعويض ضحايا الجرائم الاستعمارية؟ هولاند يدافع عن مصالح فرنسا بالدرجة الأولى، هو أظهر قدرا كبيرا من الإيجابية والاعتراف بجرائم الاستعمار خطوة خطوة، لأنه يواجه أيضا ضغوطا في فرنسا من اليمين واليمين المتطرف، لكنه لا يقدّم خدمات مجانية. وعندما تحدّث في خطابه عن الجزائريين والفرنسيين الذين رحلوا وما زالوا متعلقين بالجزائر، وهو يقصد الحركى والأقدام السوداء، فهو يطلب المقايضة ويطالب الجزائر أن تعلن من جانبها عن التزامات لتسوية مطالبهم بالعودة وبالتعويض عن ممتلكاتهم، مع أن قضية الحركى والأقدام السوداء تعد قضايا منتهية بفعل القانون الدولي المنظم للمحكمة الجنائية وفقا لاتفاقية روما .1998 هل يمكن أن يشكّل اعتراف هولاند نهاية لمبررات طرح مشروع قانون تجريم الاستعمار؟ لا مشروع قانون تجريم الاستعمار الذي تقدّمنا به ما زال قائما ولا يمكن أن يفقده إقرار الرئيس الفرنسي بجرائم فرنسا، وهذه الجرائم هي سبب طرحه. قانون تجريم الاستعمار مسألة تتصل بالأجيال المقبلة، ولا يحق لأي كان تحت أي ظرف تجاوزه، كما لا يمكن أن تساهم الصفقات الاقتصادية القائمة بين الشعوب والدول في تجاوز ذلك. لا جريمة تسقط بالتقادم، ألمانيا واليابان بعد57 من الحرب العالمية الثانية، ما زالا تحت العقوبة الدولية وما زالت قوتهما العسكرية محددة وقيد الرقابة.