1 لابد لكل من حضر وشهد معرض الكتاب في دورته السابعة والعشرين بالجزائر العاصمة، (20 29 سبتمبر/ أيلول، حمل شعار: كتابي، حريتي) أن يشعر بالغبطة، ويستحضر تاريخا طويلا ومركبا لهذا البلد، في ضوء ما رأى أثناء هذه التظاهرة الثقافية والتعليمية التربوية ذات المرتبة العالية،من وجهيها الرمزي القيمي،أو مردودها التثقيفي،العاجل والآجل،لا محالة. ينتابه هذا كشعور شخصي سرعان ما يتحول إلى حالة وجدانية عامة، أي مشتركة، وأنت تختلط وتلتقي، تسير جنبا إلى جنب مع عشرات الآلاف مثلك من الزائرات والزائرين، من أعمار ومشارب ولغات مختلفة، حضروا إلى الفضاء الفسيح جدا لقصر المعارض، من كل مدن وولايات الجزائر المتباعدة والشاسعة حقا،للقاء شخص/شخصية واحدة وفذّة ومبتغاة، ومن أجلها ولمثلها تُشد ُّالرحال: هي الكتاب. 2 لقد وضعت الجزائر إمكانيات مادية وثقافية وبشرية معتبرة لتأتي الطبعة السابعة عشرة للصالون الدولي للكتاب(بتسميته الرسمية) في مستوى الاحتفالية الكبرى التي تشهدها البلاد بمناسبة الذكرى الخمسين لاستقلالها،وتتخذ تعبيرات شتى الثقافي من وجوهها الدالة. وتبرز قوة المعرض الأخير في مشاركة فعلية لأكثر من سبعمائة دار نشر وناشر(تمثل زيادة بنسبة الربع مقارنة بالعام الماضي) وبحضور أربعين بلدا من العالم العربي وأوروبا وإفريقيا وآسيا وأمريكا، في صورة تمثيلية بواسطة كتاب وباحثين دعوا بصفتهم الشخصية للمشاركة في عديد الندوات والأنشطة الثقافية الموازية التي رافقت المعرض على امتداد أيام انعقاد سوقه ( نحو مائة روائي وقاص وشاعر وباحث)، وفي القلب ملتقى دولي تحت عنوان: "الجزائر، تاريخ وأدب" والذي يعد من المحاور التي يواصل الجزائريون سبر أغوارها، بتعاون مع مركز الدراسات الأنتروبولوجية،عالج العلاقة التي تربط الأدب بالتاريخ والعلاقات المتبادلة بين هذين الحقلين،تأثيرا وتفاعلا. وحسنا فعل المنظمون بتخصيص الملتقى للكاتبة الجزائرية الرائدة،عضو الأكاديمية الفرنسية آسيا جبار،الحاضرة أدبيا ووطنيا منذ الخمسينات في الذاكرة الجزائرية، وصيرورتها الحية (منذ صدور روايتها الأولى "العطش" سنة 1957) . 3 3 بين المعرض التجاري للكتاب في العدد القياسي لدور النشر الحاضرة والممثلة، والحضور التمثيلي للأدباء والباحثين، في الأنشطة التي توزعوا عليها، تكون هذه المناسبة قد وفرت الشرط الأول لنجاحها،وأفلحت في الوصول إلى تحقيق التواصل الضروري والمطلوب بين الكتاب والمتلقين، بين المنتجين والمستهلكين، في جوار حي وحميمي أحيانا كانت له تجليات منفتحة ولافتة في جلسات توقيع أظهرت تطورا ملموسا، وتحولا نوعيا في علاقة القارئ العربي بالكتاب ونظرته إلى المؤلف، حيث لم يعد مستهلكا سلبيا أو حياديا، يقتني وفي أحسن الأحوال يقنع بتوقيع، بل مسائلا وفضوليا بصورة إيجابية، وهو ما أنعش كتابا كثيرين من الوسط الجزائري، وأحيا ثقتهم، برز ذلك في نوع الأسئلة والتدخلات المباشرة لقراء يمكن اعتبارهم من الآن كتابا واعدين و شركاء، وهذا هو ما يسمى بالتلقي الإيجابي، الذي نعتبر المعرض الذي دعينا له، وكانت لنا به مشاركة مخصوصة، إحدى أهم مميزاته وفضائله. وقد سمح بهذا التفاعل طبيعة الموضوعات المطروحة للمقاربة والنقاش، والتي نجملها في: مدارات الثورة الجزائرية؛ الكفاح الثوري من خلال السينما والتشكيل؛ الانتقال الكولونيالي واستراتيجيات التنمية؛ البلدان الصاعدة في مواجهة العولمة القافية؛ فعل الكتابة في البلدان المتوسطية؛ الثورة الجزائرية في الإبداع العربي؛ الكتابة الجديدة في الأدب الجزائري..فضلا عن لقاءات خاصة نظمت لتكريم أدباء جزائريين مرموقين بين الماضي والحاضر،هي بمثابة فعل امتنان لعطائهم،وهو حقا مبعث فخار واعتزاز شهد به وله الجميع، اعترافا بفضل هؤلاء، وتقديرا لما يشغلونه في الذاكرة الوطنية إبداعا وتاريخا، وسلاحٌ ناجع في مواجهة النسيان:رابح بلمعمري،رشيد بوجدرة،مصطفى الصغير وسطاني، وياسمينة خضرا. ومن الضروري الإشارة إلى النشاط الموازي الذي خصص للآداب الإفريقية وثقافاتها وكان غنيا بمواضيعه ومستوى الباحثين والمبدعين الأفارقة، توزع بين الرواية والتاريخ والفلسفة وقضايا التلقي. وكذلك إلى البرنامج الذي أسهمت به الوكالة الجزائرية للإشعاع الثقافي،أهمه ندوات موضوعاتية اهتمت بالتراث والثورة،وأمسية عرفان وتكريم للشعراء مصطفى تومي من الجزائر، وسعدي يوسف، والشاعر الفرنسي برنارنويل 4 لم يكن معرض الجزائر الأخير للكتاب سوقا للبيع وترويج بضاعة جيدة أو متوسطة أو رديئة المحتوى، وحده، كما هو حال معارض كتب عربية كثير، بل شكّل مناسبة ثقافية وطنية وعربية وأجنبية خصبة ومتنورة بامتياز، برهنت قضاياه على انشغاله بمعضلات الحاضر وأزمته وطموح الشعوب،وأكدت كذلك على أهمية مساءلة الماضي وقراءته نقديا وإعادة تجديد الذاكرة بمفاهيم ومناهج عقلانية للتخفيف من غلواء العاطفي والتسخير الوطنياتي والنعروي. وقدمت مشاهده تمثيلا ناضجا للحوار بين النّخب والشعوب في المجال الثقافى وبآفاق واعدة. لقد أثبتت الجزائر بهذا الصالون، حجما، ومشاركة وبرامج وضيوفا ومستوى تنظيم،أنها،وهي تحتفل بالذكرى الخمسين لثورتها التحريرية، بصدد تجاوز النزعة الملحمية الغنائية"lyrique"التي عمّرت طويلا، وأن العالم العربي والشامل الذي يتغير حولها وفي محيطها يحتاج منها إلى منظورات مغايرة لمقاربة واقعها، وهو ما يجعل المسألة الثقافية بكل مكوناته ومركّباتها،أقرب وأحسن المداخل للتجديد والمساءلة،في أفق التغيير،في هذه المرحلة على الأقل. لقد رأينا تعطشا للكتاب وإقبالا على اقتنائه مثيرا، بين جميع الفئات العمرية، أمواج لا تنتهي من الزوار، من العاصمة والأقاليم، وفي كل الأيام،أما المعطلة منها فلا موطئ لقدم، وما شاهدنا أحداً مغادرا إلا وبيده كيس، ولا أبا إلا ويقود ابنه أو بنته ويدفع عنهما ملبيا بسخاء، تتقابل الأجنحة العربية،وهي الغالبة، بالفرنسية، أحسن تنظيما وجاذبية، ويجد القارئ ما يشاء من الكتب، باستثناء المتطرف مُنع عرضه بوجه حق، وثقافة التنوير والإشراق أظهر من غيرها، وليس صحيحا أبدا أن الكتاب الأصولي أو السلفي كان المهيمن، بل له نصيبه وهو حق. والمبهج، بين هذا وذاك،أن الجزائر لم تعد مستهلكة للكتاب،مستوردة فقط،بل منتجة ومصدرة، لك أن تتجول بين عديد دور النشر الوطنية، بالعربية والفرنسية، ومزدوجة، لتظهر لك هذه الصورة الناصعة المفرحة، حتى إن كتب الجزائريين المدونة بالفرنسية ترجمت كلهما إلى العربية، وبطباعة أنيقة ومهنية، تضاهي أفضل دور النشر. وإذا كان طابع الازدواجية اللغوية تعليما وثقافة هو السائد، وهو غنى،فإن اللغة العربية استعادت مكانتها وأكثر في بلد المليون شهيد، الذي تعرض عدا الاستعمار إلى استئصال لغوي شنيع، وهو اليوم يستعيد بعض عافيته، تجاوز زوار معرضه مليون زائر، وسائر بخطى وثابة وإرادة حقيقية من أبنائه ونخبه الحية نحو تعداد ملايين القراء، ولا عجب. هامش مؤسف في معرض الكتاب هذا، وفي أي عاصمة عربية وأجنبية أخرى، تقريبا، لا تبدو السفارات المغربية معنية من قريب أو بعيد بالتمثيل المغربي. يحضر المغرب من خلال رواق وزارة الثقافة( بما أعطى الله) تتحمل هي نفقات الناشرين، ويزدحمون في أمتار معدودة، ويحاول كل من جهته، وحسب طاقته، أن يظهر ملمحا من ملامح ثقافتنا، وحدها يعوزها الدعم، بينما تتدفق الأموال، وتجري أحيانا في مجاري السفه والهدر والبذخ الزائف. لا تستطيع بعض سفاراتنا أن تدعو الوافدين المغاربة إلى كأس شاي،أو أن يتفضل سعادة السفير لزيارة رواق المغرب، أو يبعث من ينوب عن سعادته، أو يوفد نائب نائب سعادته من ينوب عنه. وصلت من باريس إلى الجزائر العاصمة، برفقة كتاب فرنسيين على متن طائرة واحدة، فوجدت أن الملحق الثقافي ينتظرهم، إلى جانب مسؤول من وزارة الثقافة بالجزائر. في الليلة نفسها أقام السفير الفرنسي مأدبة عشاء لهؤلاء الكتاب، ودعاني إلى جانبهم فاعتذرت وفي رأسي شيء آخر. في الغداة، ومن أول افتتاح المعرض الذي كان قائما قبل وصولي قصدته وأول ما بحثت عنه متلهفا رواق بلادي. ألقيت نظرة شاملة،لكنني قبل أن أكمل فجعت بشكوى مؤلمة : قال إخوة الرواق، لقد طلبنا أول ما وصلنا من السفارة المغربية أن تزودنا بعلم المغرب، وبصورة لصاحب الجلالة،لنبرز بها على غرار أروقة عربية رسمية أخرى قامت سفاراتها بالمطلوب وأكثر. وانتظرنا، ثم انتظرنا، ولم يفد أحد ولا توصلنا بشيء، وأخيرا تدبرنا الأمر بهذه القطع الحمراء عليها النجمة الخضراء كما ترى، وكانت أظن خمس قطع من نسيج مهلهل، أكثر من تهلهل سفاراتنا، ودبلوماسيتنا التي لا يعنيها العمل الثقافي لا من قريب ولا من بعيد، وأنا لا أعلم حقا ما الذي يعنيها(!) أما الكتاب والمثقفون، فلا تسمع بهم، وبالطبع ففي المناسبات الوطنية لا تدعوهم، ببساطة لأنها لا تعرفهم،أوتتجاهلهم مسؤولوها منصرفون لما هو أهم ( أليس كذلك؟!) وهم بدورهم يديرون لأقوامها الذين يوكل إليهم تميل المغرب، وهم أغلبهم لا في العير ولا في النفير ظهر المجن، تزدحم في بريدهم دعوات ومناشدات الجهات التي تعرف قيمة الثقافة حقا، وقدر الأدباء والمثقفين، ولا حول ولا قوة إلا بالله. يحدث أن يحضر اؤلئك قبيل ختام المعرض، ل.. ليأخذوا الباروك،أي بعض الكتب/ ما شاط، لوجه الله، هل هذا هو وجه المغرب؟! هل هذا معقول؟ أيّ غبن!