وجد معرض الكتاب بباريس، في دورته الثلاثين التي اسدل ستارها امس الاربعاء، نفسه محاصرا بعدة أسئلة ومواقف تبحث كلها عن افق آخر لهذه التظاهرة السنوية التي بلغت من العمر ثلاثة عقود. افق الجدوى من حيث المساهمة في الحقل الثقافي لبلد تعداد سكانه 65 مليون نسمة وللمستوى التنظيمي الذي وجهت اليه انتقادات من ابرز اطرافه: الناشرون والمبدعون. في بوابة فيرساي بالعاصمة فتح المعرض ابوابه يوم الجمعة الماضي بقصر المعارض، وطيلة ستة ايام من فعالياته قدر له المنظمون ان يستقبل 220 الف زائر، وهو رقم تجاوز سلفه للدورة الماضية ب16 الف، لكن ثلاثة ارباع هذا الاقبال الكمي استفادت من مجانية الدخول إما لانهم تلاميذ وطلبة او يمتهنون التدريس اوصحفيون. خرج المعرض هذه السنة عن تقليد احتضانه لدولة كضيف شرف (المكسيك في الدورة 29 باعت اروقتها 20 الف نسخة)، واختار ان يوجه الدعوة الى تسعين شخصية من عالم الابداع، ثلاثون منهم من بلد فولتير، والثلث الثاني أجانب، وهما معا اختارتهما لجنة مكونة من الشركاء الرسميين للمعرض. أما الثلث الثالث من المدعويين فاقترحهم المركز الوطني للكتاب. من بين المدعوين الاجانب كان هناك عربيان هما علاء الاسواني، طبيب الاسنان المصري صاحب «عمارة يعقوبيان» و»شيكاغو» الذي حمل الى المعرض كتابه «القاهرة» في اطار المحور الذي اعتمدته الدورة (من بين محاور اخرى) «كتاب كتبوا عن مدنهم « امثال الامريكي بول اوستر (نيويورك) وتارين تيجبال (دلهي) وانطونيو لوبو انتونيس (لشبونة). اما الشخصية العربية الثانية فهي ياسمينة خضرا، الاسم المستعار للروائي الجزائري الذي يكتب بالفرنسية محمد مولسهول، وهو ضابط سامي عمل بالمؤسسة العسكرية لبلاده لمدة 36 سنة قبل ان يتقاعد في نهاية التسعينات ويختار الابداع الادبي ليصدر عددا من الروايات ابرزها «خطاطيف كابول « و «الكاتب» و»صفارات بغداد» و»وردة البليدة»... معرض باريس جعل من اروقة بلدان المغرب العربي: المغرب والجزائر وتونس وكأنها جناح واحد لجيرتها المتقاربة من جهة ولتموقعها المتقابل بعضها مع بعض. وقد قدم كتاب عديدون بهذه الدول انتاجاتهم. وكان من بين المدعوين اثنان حصلا على جائزة نوبل للاداب، هما الكاتبة البريطانية دوريس ليسينغ، التي لم تتمكن من الحضور لكبر سنها، وهي عميدة المدعويين (تسعون سنة) حازت على الجائزة سنة 2007، والبلغاري امير كيرتيسز (حصل على الجائزة سنة 2002). ثلاثة اروقة كانت متميزة بالمعرض وحضت من طرف منظميه باهتمام تنظيمي ومن زواره باقبال ملفت: - رواق تركيا الذي انتظم تحت شعار: «كل الوان تركيا» وكان من اكبر الاروقة واكثرها انشطة. لقد اوفدت انقرة عشرين مبدعا تنوعت انشطتهم واصداراتهم وانتاجاتهم في مجالات الادب والفنون، عكسوا عمق تاريخ هذا البلد الذي يدق منذ مدة ابواب الاتحاد الاوروبي للانضمام الى مؤسساته دون جدوى. وفي اجنحة الرواق كان هناك غنى في محطات وتحولات خلف الدولة العثمانية ووريثها السياسي والثراتي. ولتقديم مضامين هذا الجناح، تكفلت مؤسسة استنبول للثقافة والفنون بتنظيم عدة لقاءات دشنتها في اليوم الاول ب» الادب التركي والحب «. - رواق روسيا الذي دشن لانطلاقة الموسم الثقافي لهذا البلد الذي يحف اوروبا شرقا، وغطى الرواق مساحة 350 متر مربع عرض بها اكثر من الف كتاب لمبدعين روس ابرزهم فيكتور ابروفيف الذي وقع ابرز اصداراته ومنها مؤلفه الاخير « جميلة موسكو «، واندري كولاسيموف بروايته « العطش» التي تحكي عن جندي هارب من حرب الشيشان ولم يجد لارواء ضمإه سوى الهروب إلى عالم الادمان على الخمر. - الرواق الافريقي الذي جاء ليخلد الذكرى الخمسين لاستقلال اربعة عشر بلدا من بلدان جنوب الصحراء الكبرى، بحضور خمسين كاتبا وفنانا من هذه البلدان. وضم رواق حوض الكونغو (بالاضافة الى اروقة أخرى) مئات الاصدارات تبرز تطور الادب في المستعمرات السابقة لفرنسا. معرض باريس كانت اول دورة له في ربيع 1981، الفصل الذي وصل فيه الاشتراكيون الى قصر الاليزي بزعامة فرانسوا ميتيران. ففي ماي من تلك السنة دشن وزير الثقافة آنذاك، جاك لانغ، الدورة الاولى، وفي الدورة الثانية كان ميتيران يدشن سنته الثانية في الرئاسة بافتتاح المعرض. وقبل ثلاثين سنة كانت ارقام هذا الفضاء الثقافي تتلخص في 350 رواقا و700 دار للنشر و117 الف زائر، اما دورته الثلاثون فحط الرحال اليها الف ناشر انتشروا في 400 رواق ونظم المدعوون اليه كثر من 600 لقاء. من بين اللحظات القوية للمعرض كان اللقاء مع الروائية أميلي نوثومب في اليوم الثاني، هذه البلجيكية التي كتبت اكثر من سبعين رواية، اصدرت منها ثمانية عشر لانها، كما تقول، تحرص على ان تقدم لقرائها ماتراه قد بلغ بالفعل مرحلة النضج. واختارت ان تكون روايتها «سفر شتوي» ابرز ما توقعه في المعرض. وجاءت فكرتها بعد ان اجتازت في صيف 2008 الحاجز الامني لمطار موسكو، وكعادتها اطلق جسدها النحيف صفارة البوابة الالكترونية كما يحدث لها ذلك عند كل الحواجز من هذا النوع. وقادتها جملة قالتها لرجل الامن الذي اخترقها بنظرة مثيرة: اتعتقد اني سافجر الطائرة التي ساقلها؟ وهو ما اخضعها لتفتيش دقيق ومستفز، ووجدت نفسها امام سؤال : ماذا لو فجرت الطائرة روائيا؟ وبالفعل وجدت في شخصية بطل «سفر شتوي»، واسمها «زويل» الفاشل واليائس من علاقة حب مع محبوبته، المنفذ لعملية اختطاف طائرة من مطار رواسي قبل ان يفجرها فوق برج ايفل. بول اوستر الامريكي الذي عشق الشعر الفرنسي وترجم روائعه، بدأ حياته الادبية شاعرا قبل ان يتحول الى المجال الروائي، ويعد من ابرز الروائيين الامريكيين المفضلين لدى القارئ الفرنسي. وهو مقل في توقيعه لاصداراته، لكنه جاء الى المعرض يحمل قلمه ليخط به كلمات لقرائه وهم يضعون امامه مؤلفيه الاخيرين «رجل في الظلام»، الذي يحكي عن امريكا الممزقة من الداخل الى درجة الحرب الاهلية (2010)، ورواية «وحيدا في العتمة» بالاضافة الى ثلاثيته حول نيويورك. أسئلة المعرض سبقت تنظيم دورته، وهيمنت على ايامه الستة: هل هو معرض للقراء أم للناشرين؟ لماذا يتجه الى الربح المادي على حساب تعزيز العلاقة الوثيقة بين القارئ والكتاب؟ هل للنقابة الوطنية للنشر وهي المشرف على تنظيمه الحق في الاستمرار في الامساك بدوراته؟ وقد رمت دارا نشر فرنسية حجر هذه الاسئلة في حوض المعرض وهما «هاشيت« التي تعد الاولى في فرنسا والثانية عالميا، اذ فاقت مبيعات احد اصداراتها السنة الماضية 4.6 مليون نسخة، واختصرت رواقها من 900 متر مربع الى 100 متر. و»البان ميشال « التي قلصت حضورها ب 30 بالمائة وهددت بعدم المشاركة في الدورة المقبلة. ورأى الناشرون ان اثمنة الاروقة باهضة اذ تكلف لدار نشر صغيرة عشرة الاف اورو، اما بالنسبة ل»هاشيت» مثلا فتقارب 200 الف. ووجدت فكرة سفر المعرض الى القراء بدل سفرهم اليه صدى واسعا في وسائل الاعلام، وتتلخص في تفكيك مركزيته الى معارض جهوية ومحلية. لان من شأن ذلك أن يرفع من عدد مبيعات الكتب في فرنسا التي بلغت سنة 2007 اكثر من 485 مليون نسخة ورفعت من رقم معاملات الناشرين الى 2.7 مليار اورو. هل يوسع معرض باريس من نسبة مبيعات الكتب لدى الفرنسيين خاصة اذا علمنا ان 11 في المائة منهم يشترون 12 كتابا او اكثر في السنة ؟ وأن عدد الاصدارات بلغت سنة 2008 اكثر من 76 الف كتاب وكانت قبل عشر سنوات 50 الف فقط؟ وبالرغم من الجدل الذي اثير حولها، كانت الدورة 30 زخما فكريا بأنشطتها وعروضها وأسئلتها تبحث بالفعل عن آفاق الكتاب الورقي في مواجهة التحديات الالكترونية المتسارعة.