سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
محمد جزائري "الشرق الأوسط": المشهد السياسي في تونس الحلقة الأخيرة: عباءة «الإخوان» هل تتسع لتحديات حركة النهضة التونسية؟ باحثة ل«الشرق الأوسط»: إشكالية الحكومة أنها ترفض الاعتراف بأخطائها وتلقي باللوم على الآخرين
قبل أيام، عقدت حركة النهضة التونسية أول مؤتمر علني لها بوصفها حزبا سياسيا. وحضر المؤتمر كثير من الشخصيات والأحزاب الإسلامية من البلاد العربية، وألقى رئيسها، راشد الغنوشي، كلمة تمنى فيها سقوط النظام السوري ونجاح الثورة الشعبية في سوريا. في الواقع أن هذا هو الجانب «الرومانسي» فقط من حكاية المؤتمر، فحركة النهضة فاجأت كثيرا من المراقبين بتوجيهها الدعوة لحزب الله اللبناني، الذي وقف وما زال يقف في صف نظام بشار الأسد الذي يمارس تقتيلا منظما للشعب السوري، فضلا عن أن حزب الله لم يتحول لحركة سياسية، وظل يحمل السلاح حتى بعد انتفاء داعي المقاومة، في سلوك أقرب ل«الميليشيات» السياسية لا الأحزاب. ودفعت هذه الاستضافة حزب الإخوان المسلمين السوري لتوجيه عتاب واضح وصريح لحركة النهضة (الإخوانية)، كونها ترى حزب الله مجرد داعم لقتل الشعب السوري الذي «يمثل المقاومة الحقيقية». في هذا السياق، يقول العجمي الوريمي، أحد ممثلي المكتب السياسي لحزب النهضة، في حديثه ل«الشرق الأوسط»: «علاقة حركة النهضة بحزب الله علاقة قديمة وسابقة على اندلاع الثورة السورية، ومتانتها لا تدل بالضرورة على تطابق المواقف في كل القضايا، وهم يتفهمون موقفنا ويحترمون قراراتنا والتزاماتنا، وقد وجهت لجنة الإشراف على إعداد مؤتمرنا التاسع دعوة إلى كل الأحزاب والحركات التي لنا معها علاقات سياسية أو ساندتنا في محنتنا، ونحن نعتبر حزب الله طرفا فاعلا في المعادلة اللبنانية والسورية والعربية، وقد ساندناه عند تعرضه وتعرض لبنان إلى العدوان الصهيوني، ونحن ندعم المقاومة العربية، خصوصا في فلسطين ولبنان، وهذا خيارنا المستقل، ونحن نعيب على حزب الله موقفه مما يجري في سوريا، أي موقفه المساند للنظام السوري، وقد دعوناه، ودعونا الجمهورية الإسلامية الإيرانية إلى رفع الغطاء عن نظام بشار أو حمله على الرحيل». والحال، أن حركة النهضة منذ توليها السلطة وهي تواجه كثيرا من التهم حول أجنداتها الخارجية، فعلى سبيل المثال، هناك حالة من «الحنق» لدى كثير من المثقفين التونسيين على المستوى الأكاديمي أو الفاعلين حزبيا تجاه ما سموه «الدور القطري» في تونسالجديدة؛ وربما أبرزها تحميل وزارة الخارجية لرفيق عبد السلام، صهر الغنوشي، وأحد موظفي مجموعة «الجزيرة» القطرية. ويقول شكري بلعيد، من حركة الوطنيين الديمقراطيين، اليسارية، ل«الشرق الأوسط»: «هناك حالة ارتياب عامة من المال السياسي القادم من المشرق، ومن قطر تحديدا. فلا يوجد ارتياح كامل لا لعلاقة حكومة النهضة بقطر، ولا بعلاقة طرح قناة (الجزيرة) في ما يخص الوضع التونسي، التي تلعب دورا رئيسيا فيه بدعم حركة النهضة». غير أن العجمي الوريمي عاد ليقول: «قطر دولة عربية حريصة على تطوير العلاقات مع تونس منذ ما قبل الثورة، وقد تعزز هذا المسعى بعدها وهي تعمل على الانفتاح على كل القوى الوطنية في تونس، وهي ليست طرفا في المعادلة السياسية التونسية الداخلية، والحكومة القطرية تتعامل مع الحكومة التونسية المنتخبة قبل الأحزاب، وأعتقد أن تهمة التبعية لقطر ستستمر لفترة يطلقها كل من يريد إضعاف الائتلاف الحاكم أو إفشال المسار أو محاصرة النهضة أو منع الاستثمار، وهؤلاء لا يتهمون النهضة بالتبعية لقطر فقط بل للعربية السعودية، ويروجون بأن ل(النهضة) علاقات متميزة حتى مع بعض العواصمالغربية، ونحن نعتبر أن علاقاتنا مع أشقائنا وأصدقائنا وشركائنا ينبغي أن تدعم وتتسع وتعمق». بعيدا عن ملفات السياسة الخارجية، هناك ملفات داخلية ساخنة وتحديات حقيقية تواجهها حركة النهضة وعرابها راشد الغنوشي، منها ارتفاع نسب البطالة، وظهور الحركات السلفية بطابعها الجهادي، فضلا عن مواقف القوى «العلمانية» من فهم حركة النهضة للتعريفات الديمقراطية وآلية تطبيقها. إن كان من خلاف جوهري مشتعل على مستوى النخب في تونس الآن، بين الإسلام السياسي بكل أطيافه، والقوى «العلمانية» بكل تمثلاتها، فهو يدور حول مفهوم الديمقراطية. وهذا الخلاف يجب أن يدرج في سياق التضاد المفاهيمي لكثير من المصطلحات والتعريفات الديمقراطية وآلية تنفيذها، مثل حقوق الإنسان، وحقوق الأقليات، وحرية التعبير، وتداول السلطة، والمساواة بين الرجل والمرأة، وتطبيق الحدود.. إلخ. أصدر مؤخرا، راشد الغنوشي كتابا تحت عنوان «الديمقراطية وحقوق الإنسان في الإسلام» وهو الصادر بالاشتراك مع مركز «الجزيرة» للدراسات في الدوحة.. يقول فيه: «أما في العصر الحديث فإن أثر الغزو الغربي لديار المسلمين، وما زرعه من فكر وقيم وأساليب تنظيم حضاري، فقد اختلف الأمر، إذ وفدت على المسلمين دعوات تروج بينهم لمذهب الفصل بين الدين والسياسة، تأسيسا على أن النبي عليه السلام، بزعمهم، لم يكن سوى مبلّغ عن الله، وأن ما قام من أوضاع سياسية بعد ذلك لم يكن له شأن بالدين، إنما اقتضته ظروف البيئة وطبائع الملك (..) قد يمثل كتاب (الإسلام وأصول الحكم) للشيخ علي عبد الرزاق المشجب الذي تعلق به العلمانيون تعلق الغريق بقشة، ليعلقوا عليه دعاواهم العلمانية..». هذه اللغة الفكرية من قبل الغنوشي، رئيس حزب حركة النهضة الحاكمة اليوم، هي ما يثير القلق لدى المعارضين من بقية الأحزاب والمثقفين، فتكريسه لفكرة أن «العلمانيين» وأفكارهم ما هما إلا حصاد «ما زرعه الغزو الغربي لديار المسلمين»، جعلت القوى المعارضة ترى في حركة النهضة، بذرة حركة إقصائية تسعى للاستئثار بالسلطة، من دون قيم ديمقراطية حقيقية. وبالعودة للوريمي، يفسر موقف المعارضة بأنه «محكوم بتأثيرات فشلها الذريع في انتخابات 23 أكتوبر (تشرين الأول) الأخيرة، وحرصها على العودة بالبلاد إلى الاستقطاب الآيديولوجي الذي يؤدي إلى تقسيم المجتمع التونسي، وهي تلعب دور الضحية وتتقمص وضعية المستضعف المستهدف من التيار العام السائد، وهي تأمل في أن تفشل الحكومة أو يسقط الائتلاف. النهضة عملت على صعيدين: صعيد البناء الداخلي، أي الذاتي، لبناء حزب حديث قادر على قيادة البلاد في هذه المرحلة وتحقيق أهداف الثورة، وصعيد بناء الوطن وإنجاح الخيار الثوري أي مسار الانتقال بالبلاد من الدكتاتورية والفساد إلى الحرية والكرامة والعدالة». بدورها رأت الباحثة والأكاديمية ألفت يوسف في حديثها ل«الشرق الأوسط» أن «إشكالية هذه الحكومة أنها ترفض تماما أن تعترف بأنها تخطئ، وترفض أن تحاول إصلاح أخطائها فهي تلقي اللوم دوما على الآخرين وتعتبرهم متآمرين عليها ويريدون إسقاطها. وتلوك عبارة (الشرعية الانتخابية) ناسية أن هناك أيضا (شرعية حسن الأداء) الذي ما زال بعيدا جدا عن المطلوب الأدنى». وتزيد يوسف «لحكومة النهضة مشكل أساسي يتمثل في الهوة الكبيرة بين القول والفعل؛ فعلى مستوى الخطاب تتحدث الحكومة عن إقامة الحريات ودولة مدنية ومحاسبة الفاسدين وتشغيل الشباب.. إلخ، وعلى المستوى الفعلي نجد هذه الحكومة عاجزة عن تحقيق وعودها، فقد لحظنا هذه الشهور تمييزا واضحا بين صرامة التعامل مع غير الإسلاميين خالفوا القانون أو لم يخالفوه، والتسامح المفرط إزاء المحسوبين على الإسلاميين، خصوصا السلفيين الذين لا يحاسبون مهما فعلوا. وحتى إذا ألقي القبض عليهم فسرعان ما يتم إطلاق سراحهم. وقد بلغ الأمر حد احتجاج بعض رجال الأمن على إطلاق السراح هذا. ومن جهة أخرى لم تفتح ملفات الفساد؛ إذ تحالفت الحكومة سرا مع أغلب رجال الأعمال الفاسدين، ولم يعلن إلى الآن المسؤول عن قتلى (ثورة تونس)، وذلك خوفا من إقامة مشكلات مع الأمن أو الجيش، وظل وضع العاطلين على ما هو عليه بل زاد عددهم وتفاقم، واستشرى الفساد في مدة قليلة، فتكاثرت المحسوبية بين أعضاء الحكومة وعائلاتهم». إحدى أبرز التهم التي توجه لحركة النهضة من قبل خصومها، هو سعيها الحثيث للاستئثار بالسلطة، من خلال تحجيم سلطات منصب رئيس الجمهورية الذي هو من نصيب المنصف المرزوقي الممثل لبعض القوى اليسارية الأخرى، بينما تعزز في المقابل وتوسع من سلطة رئيس الحكومة التي يترأسها حمادي الجبالي أمين عام حزب حركة النهضة، الذي قام بتشكيل الحكومة. هذا الخلاف ظهر جليا في قضية تسليم البغدادي المحمودي، رئيس وزراء ليبيا السابق للسلطات الليبية، حيث لم يكن يعلم عن ذلك رئيس الجمهورية، المنصف المرزوقي، وقام الجبالي بصفته رئيسا للحكومة باتخاذ قرار تسليم البغدادي لليبيا. ما أشعل معركة جديدة حول استئثار «النهضة» بالسلطات الحقيقية، وإعطاء الهامشية منها لبقية الأحزاب في الحكومة الائتلافية، من أجل إضفاء طابع «ديمقراطي توافقي قشري». وهذا ما ينفيه الوريمي بوصفه ممثلا لحركة النهضة، قائلا: «القول بأن النهضة تستأثر بالسلطة أو تهيمن عليها فهو مردود على أصحابه، لأن (النهضة) لم تفعل إلا ما تقتضيه مصلحة البلاد من وجهة نظرها وتطوير مؤسسات الدولة وتحقيق أهداف الثورة، وما تفعله (النهضة) هو عين ما تفعله الأحزاب الديمقراطية أو الأحزاب السياسية الفائزة في الانتخابات في البلدان الديمقراطية». غير أنه إبان هذا الحدث الذي أشعل ساحة التجاذب التونسية الداخلية سياسيا، نقلت صحيفة «الشروق» المحلية تحت زاوية «الاعتراف سيد الأدلة» ما نصه: «قلل النائب عن حركة النهضة في المجلس الوطني التأسيسي، الصبحي عتيق، من قيمة صلاحيات المنصف المرزوقي، معتبرا أنها لا تتجاوز أربع عشرة صلاحية فقط. واستغرب في الآن ذاته الانتقاد الإعلامي لإقدام الحكومة على تسليم البغدادي. واعترف الصبحي عتيق أنه لو كان النظام الحالي يجيز صلاحيات كبيرة للرئيس لكانت حركة النهضة في ذلك المنصب». ما سيسترعي الانتباه في تونس، هو ما سوف يشهده المجلس التأسيسي من نزاع حول الدستور ذاته وموقع الشريعة الإسلامية فيه. يقول الباحث توفيق المديني، مؤلف كتاب «تاريخ المعارضة التونسية»: «الدولة التونسية يتميز دستورها عن الغالبية العظمى من الدساتير العربية بأنه لا يشير إلى دور ما للشريعة الإسلامية كمصدر للتشريع. وسوف يترتب على ذلك النزاع كثير مما يتعلق بمصير كل إيجابيات التركة البورقيبية، يأتي في مقدمها قانون الأحوال الشخصية». ويضيف المديني: «لقد عود حزب النهضة مستمعيه وقارئيه على التعهد بالعمل في ظل الدولة المدنية الديمقراطية والمحافظة على قانون الأحوال الشخصية وحقوق المرأة، علما بأن خصوم الحزب الذي تأسس أصلا بهدف (بعث الشخصية الإسلامية لتونس) يأخذون عليه ازدواجية اللغة والاستعداد الدائم لدى رئيسه الشيخ راشد الغنوشي التذرع بتطرف القواعد الحزبية لتبرير الارتداد عن هذه الوعود والتعهدات». ليس خافيا على أحد في تونس، والعالم العربي «الدور الذي لعبه راشد الغنوشي في تشكيل الحكومة رغم أنه لم يقبل بمنصب (دنيوي) في هرم السلطة بعد الثورة، حيث اختار مسافة مع التجربة الجديدة لا تطالها المساءلة ولا يمكن قياسها بوسائل السياسة بوصفها وسائل دنيوية في تدبير شؤون الحياة وفي تصريفها. إنها المسافة التي يشبهها تونسيون كثر بتلك التي تفصل بين مرشد الثورة الإيرانية وجمهوريته، ويستعينون بقرائن ووقائع كثيرة لإثباتها». وتتمثل هذه القرائن التي باتت حديث الشارع السياسي التونسي، بحسب المديني، «في الدور الأساسي الذي لعبه الغنوشي في تشكيل الحكومة، وتعيين صهره، رفيق عبد السلام، وزيرا للخارجية، وحضوره احتفالات الذكرى الأولى للثورة في سيدي بوزيد إلى جانب الرؤساء ال3 (رئيس الجمهورية المنصف المرزوقي، ورئيس المجلس التأسيسي مصطفى بن جعفر، ورئيس الحكومة حمادي الجبالي)». وعلق على ذلك في حينه الكاتب اللبناني حازم الأمين في صحيفة «الحياة»، بقوله: «ما يوحي بأن ثمة منصبا رابعا في السلطة، منصبا ضمنيا وغير معلن وغير واضح المهمة والصلاحيات، هذا إضافة إلى سفره مع نجله إلى الولاياتالمتحدة الأميركية ولقائه مسؤولين أميركيين وتقديم ضمانات لهم في ما يتعلق بمستقبل العلاقات بين تونسوالولاياتالمتحدة الأميركية». الأكيد أن حزب النهضة أظهر حتى الآن واقعية سياسية ملحوظة بشهادة كثير من المتابعين، ولكن يظل اعتراض القوى «العلمانية» على كل صنوف وأشكال الإسلام السياسي، أنها لا تنظر إلى الديمقراطية إلا بوصفها وسائل أداتية توصل إلى السلطة. «والعودة بالحياة السياسية إلى نفق العلاقة التلازمية بين الدين والدولة، وإلى إنقاذ مشروعهم القاضي بتطبيق الشريعة الإسلامية، أو بدعوى موقفهم المتزمت من حقوق المرأة ومن حرية الرأي، وحرية الإعلام، ومن الحريات الفردية التي يرون فيها انتهاكا لنظام القيم الإسلامية»، بحسب المديني. *تعليق الصورة: راشد الغنوشي