"عندما يقرّر المحارب وقف الحوار الداخلي، يصبح كل شيء ممكنا، وتصبح حتى المخطّطات المستبعدة قبلا سهلة التحقيق». (كارلوس كاستانييدا) تدخّل القوى الكبرى كفيل بافتعال حرب أهلية في بلد ما؛ حيث توجد ظروف داخلية مساعدة. وتستطيع هذه القوى أيضا أن تفرض استقرارا مؤقتا على بلد منقسم على ذاته. غير أنه يتعذّر عليها بناء «أوطان» إذا كانت شعوب الكيانات المعنية عاجزة عن إدراك معنى «المواطنة» وبعيدة عن التفاهم على قواسم «وطنية» مشتركة عابرة للتنوّع العرقي أو اللغوي أو الديني أو المذهبي. براغماتية «اليمين الجديد» الأميركي البشعة كانت قبل نحو عقدين من الزمن تسخر من محاولات الديمقراطيين الليبراليين «بناء الأوطان» Nations Building، ولا سيما إبان اندلاع حروب البلقان. ومن ثم، انطلقت بقوة في الاتجاه المعاكس بعد تولي جورج بوش الابن الرئاسة، تحت خيمة «المحافظين الجدد» المتذرّعين بهجمات 11 سبتمبر (أيلول) 2001، فباشرت تطبيق خيار «تدمير الأوطان». دمّر «المحافظون الجدد» القليل الذي لم يكن بعد مدمرا في أفغانستان. وأجهزوا عمليا على وحدة العراق الذي يعيش منذ 2003 سراب الوحدة الوطنية فقط بفضل «الفيتوهات» الإقليمية المتبادلة ضد تقسيمه، حيث لا ترضى لا تركيا ولا إيران بقيام دولة كردية مستقلة بشمال العراق، كما تخشى تركيا تهميش الأقلية التركمانية تحت حكم الأكراد، وتمانع إيران كبح مخطط هيمنتها المطلقة على كامل التراب العراقي، وطبعا – وهذا هو العنصر الأهم ربما - تعارض القوتان الإقليميتان انتقال عدوى الاستقلال الكردي إلى مناطقهما الكردية بحيث تقوم نواة «كردستان الكبرى». اليوم، في خضمّ ما بات يعرف ب«الربيع العربي» الذي ينبلج ببطء إبان فترة حكم الديمقراطيين الليبراليين إلى البيت الأبيض، نعود إلى نوبة «بناء الأوطان».. لا شك في أن البلدان - أو الأقطار – الصغيرة، التي يتشكّل منها «الوطن العربي الكبير» عاشت كابوسا متطاولا لأكثر من أربعين سنة، أطبقت معه على مقدّراتها «سلطات» غاشمة، مزجت بين العشائرية والمذهبية، والفساد والشوفينية، والقمع الأمني والتسلط الدموي.. وكانت مدينة في نجاحها بالبقاء في السلطة لتمزيقها النسيج الاجتماعي لبلدانها. حتى مع الأخذ في الاعتبار الاختلاف الكبير في شكل أداء تلك «السلطات» وتفاصيله وجرعاته المميتة، نرى أن الحصيلة هي نفسها تقريبا. ففي مصر كشف الاحتقان الطائفي الخطير، في ظل دولة «العسكر» و«الرئيس المؤمن»، عبثية التفاؤل المفرط بقدرة أي حكم جديد ينتخب «ديمقراطيا» على إرضاء الإسلاميين المتشدّدين من ناحية.. وطمأنة الأقباط المتشدّدين من الناحية المقابلة. في مصر، بالذات، من العبث الهروب نحو أكذوبة يسميها البعض «ديمقراطية» حزبية في ظل خطاب الإسلام المتشدّد وردّ الفعل القبطي القلق. صناديق الاقتراع هنا لن تحل المشكلة، بل ستزيدها تفاقما إذا ما أسفرت الانتخابات - كما أحسب أنها ستسفر - عن «ديكتاتورية أكثرية» قابلة للديمومة.. تأتي، ظاهريا بصورة شرعية، ولكن بالصوت الديني الرافض للرأي الآخر.. أو على الأقل المتفضّل عليه بنعمة التعايش. في تونس، إحدى الدول الرائدة في العالم العربي في مجال العلمانية، شاهدنا كيف تصرّف بعض إسلامييها بالأمس على مرأى من العالم. كيف زايدوا في «طالبانيتهم» حتى حزب النهضة لكسب شرعية «إسلامية» في نظر من يرون في «النهضويين» قوى اعتدال! هذا حصل خلال الأيام العشرة الأخيرة في البلَدين اللذين أطلقا «الربيع العربي»، وأبقيا «ربيعهما» - حتى الآن على الأقل - بمنأى عن وحول الحرب الأهلية. في ليبيا، الأدلة تشير إلى أنه لولا التدخّل العسكري الخارجي.. لكانت ميليشيات «عائلة» معمر القذافي، ومرتزقتها، قد صفّت الانتفاضة الشعبية وقضت على عشرات وربما مئات الألوف من أبناء الشعب الليبي. وهذا التوقع المؤسف يتأكّد في كل يوم منذ تفجيرات السيارات المفخخة في بنغازي ومحاولة التقدم نحوها، ومهاجمة اجدابيا وضربها، إبان فترة ما قبل اشتداد القصف الجوي الأطلسي.. ثم بالأمس العجز عن تطهير طرابلس، والضعف الظاهر في الحملات على بني وليد وسرت، وهذا كله وسط تضعضع إعلامي مقلق.. وهزال تنظيمي وفكري مؤسف. وفي سوريا، حسب اعتقادي، اتُّخِذ قرار الابتزاز بالحرب الأهلية والرهان على التقسيم على أعلى مستويات السلطة. والأمور، كما هو ظاهر للعيان، سائرة حقا في هذا الاتجاه، وفق تعمّد النظام حفر هوة نفسية لتبرير التقسيم؛ إذ غدا مطروحا أمام المجتمع الدولي موضوع «حماية الأقليات». وبعدما كان كل حريص على مصلحة سوريا - ولا سيما داخل المعارضة السورية الحقيقية، لا المعارضة «الرسمية» التي زار وفدها موسكو أخيرا بعد «الفيتو» المزدوج - يرفض مجرد التفكير ولو بالحماية الأجنبية، يتكوّن الآن شعور متنامٍ بأن أي حوار مع حكم قام أصلا على الابتزاز الأمني والصفقات الطائفية والفئوية، حوار محكوم بالفشل. الحوار حتما ليس اللغة التي يفهمها حكم يلغي وزير خارجيته القارات ويستجلب الفتنة من دون الحاجة لذكر صور قتل المدنيين، ولا سيما الأطفال. وفي اليمن، قد تختلف الصورة عمّا يحدث في سوريا من حيث التفاصيل، لكنها واحدة في الجوهر. وبعدما تصوّر كثيرون أن إصابة الرئيس علي عبد الله صالح، وابتعاده مؤقتا عن اليمن لدواع صحية، وفّرا له فترة كافية للتفكير جديا بمستقبل اليمن، تبيّن أن شيئا لم يتغيّر لا في مفهومه للحكم ولا في حرصه على التركة العائلية، ولا في مدى استخفافه بمصير بلد تفنن في تمزيق وحدته، تارة باسم «الوحدة» وطورا باسم «مكافحة الإرهاب». ولندع جانبا دول «الربيع» المزعوم.. ونتمعن في دولة «خريف» أكيد مثل لبنان. أي سلطة تقوم في هذا البلد حقا اليوم، يتساءل كثيرون؟ كيف يُتخذ القرار السياسي ومَن يتخذه؟ هل مسموح لأي طرف من أطراف «حكومة الأمر الواقع» التفلّت من قبضة «الحاكم الميداني»؟ هل ستحترم حكومة البلد الذي يمثل العرب جميعا في مجلس الأمن الدولي، مقرّرات مجلس الأمن فيما يتعلق بتمويل المحكمة الدولية التي أنشئت أصلا للتحقيق في جرائم قتل ساسته؟ أي نسيج اجتماعي وأي وهم عن وحدة وطنية يمكن أن يصمد ويستمر، في ظل التدخل التأزيمي للحكم السوري المأزوم، والهجمة الإيرانية الشرسة، والتعنت الإسرائيلي الذي يوجد لها كل الأسباب.. ليس التخفيفية فقط، بل التبريرية أيضا؟ في الغرب قول مأثور هو «تستطيع أن تأخذ الحصان إلى عين الماء لكنك لا تستطيع أن تجبره على الشرب». والقصد أن الآخرين قد يهتمون بمصالحنا، ويمكن أيضا أن يتآمروا عليها، لكن أصحاب المصلحة الحقيقية في ما يخصّنا هو نحن. نحن وحدنا. وعليه، ما لم نكن حقا حريصين على أن نبني من بلداننا «أوطانا» تقوم على السلم الأهلي وحرية التعبير وحقوق الإنسان.. فعبثا توقّع ذلك من الآخرين.