نهاية عام، وحلول عام جديد، هي مسألة رقمية رمزية لا تغيّر شيئاً من واقع حال الإنسان أو الطبيعة في أيّ مكان أو زمان. لكن المعنى المهم في هذا التحوّل الزمني الرقمي هو المراجعة المطلوبة لدى الأفراد والجماعات والأوطان لأوضاعهم ولأعمالهم بغاية التقييم والتقويم لها. فهي مناسبة لما يسمّى ب"وقفة مع النفس" من أجل محاسبتها، وهي حثٌ للإرادة الإنسانية على التدخّل لتعديل مسارات تفرضها عادةً سلبيات الأوضاع الخاصّة والظروف العامّة المحيطة. ولا يهمّ هنا إذا كانت هذه المحطَّة الرقمية الزمنية هي في روزنامة سنة ميلادية أو هجرية، أو هي مناسبة لعيد ميلاد أفراد أو تأسيس أعمال أو لأعياد وطنية، فالمهم هو إجراء المراجعة والتقييم والتقويم، ومن ثمّ استخدام الإرادة الإنسانية لتحقيق التغيير المنشود. فأين العرب الآن من هذه المحطة الزمنية الجديدة، العام 2007؟ وهل هناك مراجعات تحدث في الأوطان العربية لأوضاعها ولوقف اندفاع السلبيات في مساراتها المتعدّدة؟!أن العرب هم في حالٍ من الفوضى والعبث والصراعات على مستوى الشارع.. وليس فقط على مستوى الحكومات.فالمزيج القائم الآن من الاحتلال واستباحة الأجانب للأرض العربية، ومن العجز الرسمي العربي (ومن التفريط أحيانا)، ومن غياب الحياة السياسية السليمة، ومن فوضى الصراعات العربية في أكثر من مكان، لا يمكن له – أي لهذا المزيج- أن ينتج آمالاً بمستقبلٍ عربي أفضل، بل إنّ هذا المزيج هو الوصفة الإسرائيلية لتفتيت المنطقة العربية على أساسٍ عنصري وطائفي ومذهبي تبعاً لتخطيطٍ إسرائيلي بدأ في لبنان وحاول إنجاز هدفه فيه عام 1982 في ظلّ ظروفٍ لبنانية شبيهة بتلك القائمة الآن على المستوى العربي العام!.لعلّ أبرز المراجعات المطلوبة عربياً في هذه المحطة الزمنية الجديدة هي مسألة ضعف الهوية الوطنية الجامعة وغلبة الانتماءات الفئوية الأخرى. ففي هذه الظاهرة السائدة حالياً في أكثر من بلد عربي خلاصة لما هو قائم من مزيج سلبيات أخرى عديدة.إنَّ ضعف الهوية الوطنية لصالح هيمنة انتماءات ضيّقة يعني ضعفاً في البناء الدستوري والسياسي الداخلي. ويعني تسليماً من "المواطن" بأنَّ "الوطن" ليس لكلِّ المواطنين، وبأنّ "الوطن" هو ساحة صراع على مغانم فيه، لذلك يأخذ الانتماء إلى طائفة أو مذهب أو قبيلة بُعداً أكثر حصانة وقوة من الانتماء الوطني الواحد، كما يصبح الانتماء الفئوي مركبة سياسية يتمّ استخدامها للحفاظ على مكاسب سياسية أو شخصية أو لانتزاعها من أيدي آخرين حاكمين.كذلك فإنّ ضعف الهوية الوطنية قد يكون هو المدخل للتدخّل الخارجي، بل وللاحتلال أحياناً، كما حصل في تجربة الاحتلال الإسرائيلي للبنان خلال فترة الحرب الأهلية اللبنانية، حيث تتحوّل أولوية الانتماءات الضيّقة إلى مبرّرات تقتضي التعامل مع أي جهة خارجية من أجل مواجهة الانتماءات الأخرى في الوطن الواحد!.ويعيش العراق الآن حالةً مشابهة في ظلِّ الاحتلال الأميركي/البريطاني ونموّ دور القوى الإقليمية المجاورة في الشؤون الداخلية العراقية.إنّ ضعف الهوية الوطنية المشتركة هو تعبير أيضاً عن فهم خاطئ للانتماءات الأخرى. فالاعتقاد بمذاهب دينية مختلفة، أو الاعتزاز بأصول إثنية أو قبلية، هو ظاهرة طبيعية وصحّية في مجتمعات تقوم على التعدّدية وعلى الاختلاف القائم في البشر والطبيعة. لكن تحوّل هذا الاختلاف إلى خلاف عنفي وصراعات سياسية دموية يعني تناقضاً وتصادماً مع الحكمة في الاختلاف والتعدّد، فيكون المعيار هو محاسبة الآخرين على ما وُلدوا به وعليه، وليس على أعمالهم وأفكارهم. وهذا بحدِّ ذاته مخالف للشرائع الدينية والدنيوية كلّها.وهكذا تكون مسؤولية تصحيح الأوضاع القائمة الآن في المنطقة العربية، مسؤولية شاملة معنيّ بها الحاكم والمحكوم معاً. لكن الإصلاح يجب أن يبدأ أولاً في البنى الدستورية والسياسية ليجد كل مواطن حقّه في الانتماء الوطني المشترك، ولكي يعلو سقفه إلى ما هو أرحب وأوسع من سقف الانتماءات الفئوية الضيّقة.هي أيضاً مسؤولية مؤسسات المجتمع المدني والحركات الفكرية والسياسية والمنتديات الثقافية وعلماء الدين ووسائل الإعلام العربية المتنوعة، في التعامل الوطني السليم مع الأحداث والتطورات، وفي طرح الفكر الديني والسياسي الجامع بين الناس، لا ذاك الداعي إلى الفتنة بينهم.أيضاً، فإنّ تعزيز الهوية الوطنية يتطلّب إعادة الاعتبار من جديد لمفهوم العروبة على المستوى العربي الشامل. صحيحٌ أنَّ تحقيق أوضاع دستورية سليمة في كلّ بلد عربي سيكون مهمّاً الآن لبناء علاقات عربية أفضل، ولضمان استمرارية أيّ صيغ تعاون عربي مشترك، لكن المشكلة أيضاً هي في ضعف الهوية العربية المشتركة - كما هو في ضعف الهوية الوطنية - وطغيان التسميات الطائفية والمذهبية والعرقية على المجتمعات العربية. وبذا تصبح العروبة لا مجرّد حلٍّ لأزمة العلاقات بين البلدان العربية فقط، بل أيضاً سياجاً ثقافياً واجتماعياً لحماية الوحدات الوطنية في كلِّ بلدٍ عربي ولمواجهة مخاطر الانفجار الداخلي في كل بلد عربي.إنَّ العروبة الثقافية الجامعة بين كلِّ العرب هي حجر الزاوية المنشود لمستقبل أفضل داخل البلدان العربية وبين بعضها البعض.وحينما تضعف الهوية العربية فإنّ بدائلها ليست هُويّات وطنية موحّدة للشعوب، بل انقسامات حادّة تفرّخ حروباً أهلية من شأنها أن تأكل الأخضر واليابس معاً.إنَّ العودة العربية ل"العروبة" هي الآن حاجة قصوى لحماية المجتمعات في الداخل، ولتحصينها من هيمنة الخارج، ولبناء أسس سليمة لتعاون عربي مشترك وفعّال في المستقبل.إنَّ العروبة المنشودة ليست دعوةً لتكرار التجارب السياسية والحزبية التي جرت بأسماء قومية في مراحل مختلفة من القرن العشرين، بل هي عودة إلى أصالة هذه الأمّة ودورها الحضاري والثقافي الرافض للتعصّب وللعنصرية.وبلا عروبة جامعة فلن تكون هناك لا أمَّة عربية فاعلة، ولا أيضاً أوطان عربية واحدة ومستقرّة.وكل عام والأوطان العربية بخير ..! * مدير "مركز الحوار العربي" في واشنطن حركة القوميين العرب