يقول ماركس إن التاريخ لا يعيد نفسه سوى في صورتين، الصورة الأولى في شكل مأساة، والثانية في شكل ملهاة...التاريخ هو جبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية المعروف اختصارا « بالفديك « قاده بالصدفة مدير الديوان الملكي ووزير الفلاحة آنذاك رضى أكديرة وهو واحد من زملاء دراسة المرحوم الحسن الثاني (...)، هذه الجبهة سنتين فقط بعد تأسيسها تم حل أول برلمان في تاريخ المغرب المستقل وإعلان حالة الاستثناء وإطلاق يد أوفقير في البلاد والعباد، تأسيس الجبهة جاء في أعقاب أول دستور للمملكة، وكان دستورا متقدما بمقاييس المرحلة (...)، وكان هدفها هو تحجيم دور أحزاب حزبي الحركة الوطنية ( الإستقلال والإتحاد الوطني)، فكانت إنتخابات 1963، إنتخابات تاريخية بكل المقاييس حيث هوت أسماء وازنة في الجبهة منها وزراء أمام مرشحين شباب من حزب الإستقلال، وشهدت في نفس الوقت أبشع أنواع التزوير لمنح أغلبية مزعومة لأحزاب الجبهة التي كان من بينها حزب الحركة الشعبية التي سقط زعيمها أحرضان سقوطا مدويا في خنيفرة أمام مرشح حزب الإستقلال، والحزب الإشتراكي الديمقراطي بزعامة رضى أكديرة ( صدق أو لا تصدق كديرة كان إشتراكيا، لهذا لا تستغربوا من بعض «الإشتراكيين» الذي « تصوروا « مع مزوار وبيد الله في أحد فنادق الرباط بداية هذا الأسبوع )، وحزب الشورى والإستقلال ...وغيرها في تركيبة عجيبة سرعان ما فشلت في تحقيق أهدافها بعد التنسيق الذي جمع الإستقلال والإتحاد الوطني في برلمان 1963، بل إن بعضا من النواب اللذين نجحوا بإسم الجبهة سرعان ما تخلوا عنها لعدم إقتناعهم بخطها، وهنا نذكر إستقالة النائب غاندي...المهم أن المخزن فشل فشلا ذريعا في توظيف الدستور والمؤسسات لتحجيم الحركة الوطنية ووقف مسار دمقرطة الدولة، فما كان عليه بعد فشل أدواته في الميدان سوى اللجوء إلى لي عنق نصوص الدستور وحل البرلمان وإدخال البلاد في حالة فراغ مؤسساتي إستمر إلى نهاية السبعينات من القرن الماضي، حيث عاش المغرب بدون برلمان من 1965 إلى 1977 ورغم محاولات الحكم العودة الشكلية لعمل المؤسسات، فإنه ووجه برد صارم من الإستقلال والإتحاد الوطني من خلال مقاطعتهما لدستوري بداية السبعينات وبرلمان 1970 الذي « سمح فيه « المخزن بعد ذلك حتى قبل نهاية ولايته كفصل من فصول المأساة . مع إستئناف الحياة النيابية سنة 1977، عاد النظام السياسي إلى تجريب وصفة « الفديك « وإن هذه المرة من خلال حزب كبير يهيمن على المقاعد في البرلمان، فكانت تجربة المرشحين الأحرار المخدومة، واللذين تم تجميعهم فيما بعد إعلان النتائج في إطار حزب « التجمع الوطني للأحرار « يقوده بالصدفة أيضا (...) صهر المرحوم الحسن الثاني، موقف الحركة الوطنية كان هو ضرورة العودة إلى الحياة الدستورية العادية في إطار وعي بأن طريق الديمقراطية طويل وشاق، خاصة وأن عودة المؤسسات الدستورية للعمل جاء متزامنا مع تحولات عميقة وجوهرية في قضية الصحراء المغربية، فكان قرار حزب الإستقلال هو المشاركة في الحكومة المنبثقة عن إنتخابات 1977 لدعم الموقف المغربي في قضية الصحراء، وعدم ترك النظام فريسة سهلة للصقور التي كانت معششة في الديوان الملكي، وللخارج ( الجزائر بصفة خاصة ) الذي كان يوظف صراع نظام الحسن الثاني مع المعارضة لتقويض وحدته الترابية، بعد هذه المرحلة إنتبه النظام إلى تضخم حزبه « الأحرار « فقرر إخضاعه لحمية مناسبة للإيحاء بالتعددية، فكان ميلاد « الحزب الوطني الديمقراطي « بقيادة كولونيل كان إسمه ضمن أسماء مرتبطة بإنقلاب الصخيرات، ولأن النظام لم يكن يثق حتى في صنعة يديه، فقد بادر مع الانتخابات التشريعية لسنة 1984 إلى تأسيس حزب الإتحاد الدستوري، بلغة جديدة إتجاه الشعب وإستقدم لرئاسته « إشتراكي « معروف هو المرحوم المعطي بوعبيد، فكان بوعبيد في الإتحاد الإشتراكي وما أدراكما عبد الرحيم رحمه الله، وكان بوعبيد آخر مخزني في الإتحاد الدستوري غفر الله له، وذلك لتحقيق تناوب إفتراضي وعدم إثقال الناس بنفس الوجوه والأحزاب، مادام صنبور الإدارة قادر دائما على صناعة أحزاب على المقاس، فكان الإتحاد الدستوري يتهجى حروف في الليبرالية ويسمي نفسه ممثلا لليبراليين في المغرب، مع أن الليبرالية منه براء إلى يوم الدين ..لكن هدف المخزن كان هو السعي لتأطير رجال الأعمال وتهييئهم للعب أدوار سياسية، خاصة مع بداية التقويم الهيكلي وتعزيز المبادرة الحرة في إطار الإلتزامات الدولية للمغرب، لكن دائما برغبة في التحكم حتى لا تتعزز جبهة المعارضة، بقوة إقتصادية ومالية في ظل ظرفية ماكروإقتصادية صعبة، وهكذا تم التضييق على عدد من رجال الأعمال ممن رفضوا الإنسياق وراء هذا التوجه بل منهم من إنخرط في أحزاب المعارضة لحماية نفسه وتعزيز مقاومته للإغراءات والتهديدات . كل هذه الأحزاب التي صنعها المخزن فشلت فشلا ذريعا، لأنها ببساطة لم يكن بمقدورها إقناع لا الداخل ولا الخارج بأنها أدوات فعلية لتحقيق الديمقراطية والتنمية ببلادنا، فما كان من المرحوم الحسن الثاني سوى أن يفتح قنوات إتصال مع الأحزاب الحقيقية في البلاد، وأن يدع أحزاب الكومبارس جانبا، فقد كان الناس يصنعون من الطين أصناما يدعونها بالآلهة لا تدفع ولا تجلب عنهم مطرا أو كارثة، فكان الناس يكسرونها كفارة، ويلتحقون بقدرهم ...وكان قدر المغرب هو أن تضع الحركة الوطنية يدها في يد الملك، وكلما تشابكت هذه الأيدي بالصدق الكامل والصفاء الضروري، كلما مضى المغرب مطمئنا في إتجاه المستقبل، وكلما إرتعشت الأيدي وإمتدت أيادي ممن لا مصلحة تعلوا على مصالحهم الشخصية، كلما كان على بلادنا أن تعيد نفس القصة المملة مرات عديدة، وفي كل مرة تسلم الجرة لكن إلى متى؟ بداية التناوب كان صعبا، وكان لزاما على المعارضة السابقة أن تدمج أحزب المخزن في التجربة، كرسالة ثقة إتجاه الجالس على العرش، وأن المعارضة لا تريد إقصاء أحد وإنماء التحرك بالبلاد بصفة مستعجلة في إتجاه منطقة أكثر أمانا وهي واعية بأنها لم تصنع ثورة لتقتلع كل شيء من الجذور، لهذا آمنت بتوافق الشجعان، وأمنت بالمستقبل رغم أنها واجهت صعوبات كبيرة في إقناع قواعدها بهذا الإختيار، فما الذي جرى ؟ رحل الحسن الثاني كطرف من طرفي هذا التوافق الرئيسيين، وجاء الملك محمد السادس كهبة من السماء لدفع هذا المسار بسرعة أكبر مما كن ممكنا، وكان الملك في مستوى الطموح والإنتظار، لكن (...) في المحيط كانت هناك رهانات أخرى ومطامح مختلفة، فمن كان يقرأ الجرائد في وزراة الداخلية عند إدريس البصري، أصبح اليوم يريد موقعا ومكانة، ولم تكن البلاد مستعدة لتمضي بسرعتين وبنوعين من الرجال، فإما أن يستمر الإصلاح وتتضح الرؤية للجميع، وإما سنعود إلى ممارسات بائدة وعتيقة أصبحت بليدة من فرط تكرارها..المؤسف هو أن وجهة النظر الثانية إنتصرت، وإتضحت بشكل بارز مع تأسيس حزب الأصالة والمعاصرة بقيادة فؤاد عالي الهمة وهو بالصدفة (...) زميل الملك السابق في الدراسة، في تكرار حرفي تقريبا لتجربة رضى كديرة مع « الفديك « بداية الستينات، مع إختلاف بسيط، وهو في الواقع تجميع لجميع السيناريوهات الجرب / الفاشلة سابقا في سيناريو واحد، أي الجمع بين صيغة الحزب الأغلبي وفي نفس الوقت إتحاد أحزاب، وهو ما تحقق قبل يومين بإعلان تحالف يضم ثمانية أحزاب إدارية إنتهازية، وذلك رغم كل ما جرى في بلادنا منذ نهاية السنة الماضية في مخيم كديم إزيك وقبلها من فضائح الإنتخابات الجماعية، سواء في الترشيحات أو في تكوين مكاتب الجماعات، أو ما جرى في شمال إفريقيا والشرق الأوسط حيث سقطت نماذج الحزب الأغلبي والحزب الوحيد وكل أشكال السطوية التي كانت تعرفها بلدان هذه المنطقة، وفي خضم هذه التحولات تحركت القوى الوطنية الديمقراطية سواء المشاركة في الحكومة أو المعارضة، بوطنية ومسؤولية محاولة الحد من تحول طموحات الإصلاح إلى يأس يدفع البلاد إلى حدود الهاوية، وكما كان خطابها قويا إتجاه حركة الشارع، كان أكثر حدة وإن بلباقة إتجاه كل الفاعلين السياسيين داخل الدولة وبدون إستثناء، ملخص هذا الخطاب أننا نواجه مخاطر حقيقية، وأنه ليس من مصلحة بلادنا تضييع المزيد من الفرص، وأن النظام والملكية لا نقاش حولها، وأن الديمقراطية لا يمكن أن تنتظر أكثر من هذا، فإما أن ننخرط بصدق في إصلاح جوهري، وهذا الإصلاح يمر وجوبا عبر القطع مع خطاب وأساليب وآليات الماضي، أو الإستعداد لمواجهة العاصفة القادمة، والتي لن تخطئ لا موعدها ولا مكانها بكل تأكيد. الملك تجاوب مع المرحلة بشجاعة كبيرة، فكان خطاب 9 مارس وما تلاه من خطب وأعمال، لكن الواضح أن هناك مناطق نفوذ تشكلت في العشرية الأخيرة ترفض هذا الواقع، وتلعب لحسابها الشخصي وتجرب بكل الوسائل العودة إلى واجهة الأحداث لفرملة مسار الإصلاح...، فهل سيترك الملك وحيدا في هذه المعركة ؟ هل ستقف الأحزاب الوطنية مكتوفة الأيدي تراقب ولا تعلق ؟ تنتقد ولا تبادر ؟ بعضها قلبه مع علي، وسيفه مع معاوية ؟ أم أنها ملزمة اليوم بأن تقدم جوابا تاريخيا نهائيا حول موضوع السلطة والديمقراطية في بلادنا، دون عودة إلى إستهلاك الوعود المعسولة التي تكررت منذ خمسين سنة حول إرادة الإصلاح الحقيقي دون جدوى ؟ هل تستطيع أحزابنا أن تضمن بأن أطفالنا لن يعيشوا نفس المصير، مادام الأمر يتكرر مع كل جيل، وكأننا نفتقد إلى أي حس نقدي؟ ألم يحن الوقت اليوم إلى جبهة شعبية واسعة تضم كل الأحزاب الحقيقية، التي نبعت بصدق في تربة هذا الوطن، دون منشطات ومكملات غذائية صناعية / مخزنية، تملك قرارها، وقادرة على رفع التحدي، وحماية الشعب المغربي مما يراد به ؟ هل نقبل بعد اليوم أن نكون شهود زور ...؟