رَحَل أُنْسي الحاج، الشَّاعِر الذي كانت حياتُه مليئةً بالشِّعر، دون غيره، مِمَّا شَغَل شُعراء آخرين، ومن المثقفين الذين اسْتَعْمَلُوا الشِّعر في غير ما وُجِدَ له. كان ‘أنْقانا'، كما قال عنه أدونيس. ما يعني أنه كان شاعِراً لا يلتفتُ ِلما شَغَل غيره عن الشِّعر وعن الكتابة. لم يكن أُنسي كثير الظُّهور، ولم يكن يحب الأضواء، ولا كان مشغولاً بترجمة شعره، أو بادِّعاء الكونية التي أصبحت بين الأمراض التي أكَلَتْ نفوس الكثيرين ممن لا تزال الكتابة عندهم، لم تخرج بعد من بداياتها، رغم أنَّ هذا الشَّاعر له، في شعره، ما يُؤهِّلُه للكونية، دون الحاجة لِوُسطاء، أو لعكاكيز يتَّكِىء عليها لِيُخْفِي عَرَجَه، أو لِيُخْفِي شِعْرَهُ عن اللغة الأصل التي كُتِبَ بها، عبر الهُروب بها لترجمات سريعة ورديئة. كان أُنْسي الحاج شاعراً كبيراً، عميقاً، بالمعنى الشِّعري الإبداعي، لا بالمعنى الإعلامي الذي باتَتْ معه هذه الصِّفَة مُبْتَذَلةً، تُلْقَى في الطُّرُقِ، كما يُلْقَى حَجَر آسِنٌ، في بِرْكَة صمَّاءَ آسِنَة. رغم اشتغاله في الصحافة، فهو لم يتنازل عن أسلوبه في الكتابة، وكان، حين يكتب، لا يخرج عن المعنى الشِّعري الذي كان ينأى به عن العام والمُشْتَرَك، فهو بَحَثَ، دائماً، عن طريقه الخاص، وعن أفقه الاستثنائي في الكتابة. قُرَّاء أنسي الحاج، ممن لم يتعوَّدوا على كتابته، أو لم يخرجوا من الشِّعر، بمعناه العام، أو بالمعنى الذي كرَّسَتْه المدرسة والجامعة، سيجدون نفسهم أمام شِعر صَعْبٍ ومُخيف، شعر لا ينصاع لِلمألوف، ولا ينضبط للسَّائد والمُتدَاوَل. فهو كان طريقاً وطريقةً في الشِّعر، مهما حاولْنا تسميتَها، فإنَّها ستبقى أكبر من أن نُسَمِّيها، أو نحصر ما فيها من اتِّساع ورَحابةٍ. وهذا ما جعل قارىء أنسي قليلاً، ناذراً، قياساً بشُعراء ‘القصيدة'، ممن كان الكلام يذوب في ألسنتهم. فأنسي، كان يكتبُ، كان يَعِي الصَّفْحَةَ كَدالٍّ لا يمكن الاستغناء عنه، لِذا، حين ذهب إلى سوزان برنار، في وقتٍ مبكر من عمره الشِّعري، وحين ذهب للوتريامون، وآرطو، فيما بعد، فهو كان يُدرك أنَّ التأسيس لأفق شعري، جديد ومُغاير، يفرض إعادة تفكيرِ الشِّعر، في لغته، وفي أيقاعاته، وفي طريقة النظر للأشياء، ولطبيعة العلائق التي تتأسَّس عليها علاقة الكائن بكينونته ذاتها، أو كما كتبتْ عنه الناقدة الصديقة خالدة سعيدة، في كتابها الأخير الصادر عن دار الساقي للنشر ‘فيض المعنى'، فهو منذ البداية، كتب بعنف المغامرة، تحدَّى نظام الرؤية وسُلَّم القيم الجمالية، فشعره كان، منذ بداياته الأولى، خروج من التعبير إلى الغموض والالتباس. وهذا، ما جعل من هذا الشِّعر يكون نوعاً من الهَجْس باخْتِلاقٍ جديد، لكتابةٍ جديدة، ولجمالية، تخرج من الجمالية الماضوية التي غلب فيها الشفاهي على الكتابي، أو كان فيها الشفاهي، الذي هو البنية الأم التي تتأسَّس عليها الشِّعرية العربية القديمة والتقليدية، بما في ذلك الشِّعر ‘الحر' الذي بقي مُخْلِصاً لنفس البنية، ولم يخرج منها، باعتبار الشفاهَة، هي الدَّال الذي يُلْغِي الكِتابِيَّ، أو يُؤَجِّلُه ويحجبه باستمرار، هو المُهَيْمِن والسَّائد. هذا الاختلاق، نَأى بالحاج عن الجمهور، بمعنى الفُرْجَوِيّ، لأنَّ شعراً من هذا القبيل، هو شعر يأتي من المستقبل، فلا هو شعر ماضٍ، ولا هو شعر تبعية أو استعادة لمصادر شعرية غربية، بالطريقة التي تبدو في شعر الذين لم يخرجوا من ماء القديم، كما لم يخرجوا من الصوت الغربي، ترجَمَةً واسْتِنْساخاً. كان أنسي الحاج، يُمَرِّن يدَه على الكتابة، كما لو أنَّه، كُلَّما شرع في كتابة نص جديد، يكتُبُ لأوَّل مرَّة. الجملة، أو الصورة المُنْشَطِرَة، المُتَصَدِّعَة، التي لا تكتمل، أو تنقطع فجأةً، مثل البرق، هي بين ما اختاره الحاج كطريقة في تَقِتيرِ الكلمات والجُمَل والصُّوَر، وتَقْطِيرِها، لتكون تعبيراً فادحاً عن ‘الوعي بالعالم'. أن نوجد، وأن نحيا، أو أن نكون، ليس هذا ما يجعلنا نكون في قلب هذا العالم، وفي نبضه، وأشيائه التي تستعصي على النظر، وعلى المعرفة أو الوعي، إذا لم تكن الرؤية الجمالية، عند الشَّاعر، رؤيةً فرديةً، تظهر فيها الذات، في فرادتها هذه، وُجُوداً قائماً بذاته. وفي هذا ما يُشير عند الحاج لكينونته التي كانت امتحاناً مستمراً للوُجود، ليس باعتبار ما هو موجود، بل باعتبار ما لم يتأسَّس بعد كوجود، أو ما لم ينبثق بَعْدُ من غَفْلَتِه، ومن سَهْوِه، أو ظلامه بالأحرى. شاعر بهذا المعنى، هو شاعر مفارقات، وشاعر انبثاق، وصدمة. في كل نص، يبدو، كما لو كان خارجاً من ظلام وِلاَدةٍ أولى. ليس لِمثل شاعِرٍ بهذا المعنى، أن يكون معروفاً بالقدر الذي يجعل منه ‘نجماً'، فهو كان يعرف أنَّ النجومية، في الكتابة، وَهْم، وأنَّ الكتابة التي تخرج من بداياتها، تحتاج لقاريء مُبْتَدِيء،. بمعنى قاريء يتهجَّى النص، ويتملاَّه، خارج المُقارنة والقياس، وخارج المفاهيم الشِّعرية التي تحجُب الرؤية، وتُصادر النصوص والكتابات الاستثنائية، وتحجر عليها. فكما يقرأ الأثَرِيّ لغةَ حضارة يكتشفها لأوَّل مرة تحت الأنقاض، مكتوبة على ألواح طينية، لا يعرف ما تُخفيه من دَهْشَة وأسرار، هكذا تكون قراءة شعر الحاج، أو هكذا قرأتُها، على الأقل، وهذا ربما ما جعلني أكتشف بعض ما فَتَح لي مسارب للسير في طريق هذا الشاعر العميق والمُشْكِل. والاحتفاء بكتابته، التي هي كتابة صادمة وصاعقة، كونها تفرض على من يقرأها أن يُعيد تكوين نفسه، في النص وبالنص، وليس خارجَه. كتابة الحاج، هي نوع من التربية الجديدة على القراءة، وعلى استشفاف المعاني والدلالات، وعلى تشقيق اللغة بطريقة فيها خروج وانزياح عن اللغة التي فقدت مَجَازِيَتَها، أو عذريتها الأولى، التي هي الأساس في كل شعرية فارقة وبعيدة. لا يمكن لقراءة شِعْرٍ يُكْتَب بهذا الأفق، أن يكون قارئه، هو نفسُه قارىء قديم الشِّعر، أو ما أُسَمِّيه ب ‘حداثة القصيدة'، في الإشارة ل ‘القصيدة المعاصرة' التي لم تخرج من ماء الماضي، ومن نسقية بنائه النصي. الشِّعر الذي يكون بدايةً، لا بُد أن نبحث في بدائيته، التي هي عودة باللغة لأصلها الواحد، قبل أن يحْدُثَ فيها التَّصَدُّع الذي فَصَل اللغة إلى لغة للنثر ولغة للنظم، أو الشِّعر، تجاوُزاً. أُنْسي الحاج، عاد للرَّعْشَة الأولى، مثلما عاد للدَّهْشَة الإولى، التي تسكن في تركيب الجملة، وفي تشقيق العبارة، وإلى ما كان يسكنُ اللغةَ من تَلَعْثُم لتسمية الأشياء، وكأنَّها تولد، أو تخرج من يد الشَّاعر دون سابقٍ وُجود. هذا ما عَزَل تجربة الحاج عن السياق الشِّعري العام، وبقيت داخل الشِّعر، وخارجَه في نفس الوقت، أي داخل الغابة، وخارجَها. موهبة أُنْسِي، مثل القليلين من شُعراء ‘شِعر'، ممن اسْتَمَرُّوا في الخروج عن سياق المعرفة الشِّعرية السَّائِدَة، وعن سياق الخيال، الذي أصبح ‘تعبيراً'، لا تحريراً، كانت استثنائية، وكان له ما يكفي من الاستعداد لِلِّقاء بشُعراء العالم، دون الذَّوَبان فيهم، أو استعادتهم، مثلما رفض الأسلاف، وحتَّى ما كان موازياً له من كتاباتٍ، كان ذات تأثير واضح في شِعر هذه المرحلة. لا ينبغي تجاهُل علاقة إُنسي ب ‘شعر'، بهذه الجماعة التي خلخلت قِيَمَ الثقافة القديمة، ونَبَّهَت للحداثة، ك ‘تجاوز وتَخَطٍّ'. كما لا يمكن إخراج الحاج من سياق هذه المرحلة الثقافية، التي فيها حدثت انقلابات، في المفاهيم والتصوُّرات، ليمكن ‘فَهْم' بعض ما كان يكتبه الحاج، باعتباره ابْتِداعاً وخروجاً، وحالة انفراد، لكن داخل الاستثناء الشِّعري الذي كان سِمَة ‘شِعر'، وسمة شِعْرٍ قادِمٍ من التَّساؤل والقلق، واجتراح فكرٍ مُغايِرٍ، لا فكر مُحايثٍ ومُسايِرٍ. هذا ما أعتبره شعرية استثناء، في تجربة الحاج مُنْفَرِداً، وفي تجربة الحاج في سياق الجماعة التي كان بين روادها، وأحد الذين عَمِلوا فيها بِدَأْبِ، لتكون أرْضاً بلا سابق شَجَرٍ، بل إنَّ طيورها كانت تخرج من أوَّل الغِناء، أعني من أوَّل الشِّعر، مثلما كان فعل أبوتمَّام، حين انشَقَّ عن شِعْر الزمن الذي عاش فيه، فكان نسيج وَحْدِه.