منذ الصفحة الأولى لديوانه، يبدو جليا أن عبدالسلام دخان يكتب الشعر وليس القصيدة، أي أنه يذهب بالكتابة إلى أقصى ممكناتها ليكسر نمطية القصيدة ويهدم معاييرها المُقَعّدَة ويبعثر بنياتها الجامدة، فيخرج بشعره من هيمنة النموذج. الشعر عنده ممارسة كتابية بحتة تقوم على عمليتا الهدم والبناء، المحو وإعادة التأثيث، التذكر والنسيان. بهذا المعنى، يصبح الشعر لديه وعيا كتابيا "بشكل جعل تلقي النص لا يحدث بنفس وتيرة القصيدة أو وفق نظامها الذي ظل محكوما بالوعي الشفاهي." النص الشعري لدى دخان ليس تجسيدا إملائيا يتم الاستماع إليه، ليس نظما يمر من الفم إلى الأذن أو صوتا يخضع لقوانين الأوزان. إنه، على العكس من ذلك، "تجسيد صوتي" تصبح معه القصيدة مركبا فضائيا بسواداته وبياضاته، بمنطوقه ومسكوته، بحضوره وغيابه، بامتلائه وفراغاته، بظاهره وباطنه. مع "فقدان المناعة"، يصبح النص الشعري معمارا، لديه أشكاله النصية وأحجامه المُعَقًّدة وتوزيعاته الخطية. إن ما يحكم علاقة الشاعر بنصه ليس الكتابة الصوتية، ولكن ما يمكن تسميته مع جاك كودي ب "المنطق الغرافي". في السياق نفسه، يمكننا القول إن الشعر عند عبدالسلام دخان هو احتفاء ببهاء الحرف وليس مكانا للصوت، هو نصوص ذات بعد بصري وليس تركيبة سمعية. في قصيدة "الليل والعربة" نقرأ ما يلي: "حين يزهر الليل في كفي أمتطي صهوة البياض أختفي خَلفَ بلاغة الشعراء لألون قرميد "أوبيدوم نوفوم" (...) حين يُزهر الليل في كفي أُشعل نار الكلمات أنحت ألف حصان لعربة القصيدة" في هذه الأبيات يذهب الشاعر إلى أبعد حد، حيث الكتابة لديه ليست فقط احتفاء بالغراف بمفهومه الدّيريدي، بل، أكثر من ذلك، هي عمل فني تشكيلي. الكلمات تصير ألوانا وأطيافا وخطوطا يخلق بها الشاعر عالما إستيطيقيا رائعا وصورا شعرية بارعة. إن فعلي التلوين والنحت يجعلان من الشاعر رساما أو صباغا أو نحاتا، أدواته الاستعارة والخيال والترميز. وكل من يقرأ الديوان بتمعن، يجد حقلا دلاليا يشير إلى عالم الرسم و الألوان مثل: "تَخضر"، "ألون"، "منقوشة، "بألوان الفصول"، "وبألوان أكثر ضياء". إن فعلي الرسم والنحت يشيران ضمنيا إلى المواجهة المستمرة مع مختلف أشكال الفراغ من أجل ملئه، يحيلان إلى الصراع الدائم مع البياض من أجل تأثيثه وإعادة تشكيله وإعطائه بالتالي هذا البعد الفني. والبياض يرمز هنا للعدم، إلى هذا الخواء ما قبل الكتابة الذي كان يهابه مالارميه كثيرا. "ألون" و"أنحت" يؤكدان فكرة فحواها أن دخان يكتب الشعر وليس القصيدة وأن الكتابة لديه "هي غير الكلام، إنها إثبات وإبقاء (...) وهي في ذات الآن، وجود فضائي، تتبدى آثاره على بياض الصفحة، فهي تَفضيَة، وتوزيع خطي، فيه يتضافر المكتوب بغيره، لتتخذ الكتابة وضع النص الذي يمكن تَلمُّسُه والنظر فيه". تبعا لذلك، يخترع ديوان "فقدان المناعة" قارئه الخاص: قارئ يجد نفسه أمام نصوص عصية على الفهم، ويواجه كتابة يصعب استيعابها بشكل مباشر، ويكتشف شعرية لا يمكن فك رموزها دون جهد فكري. قارئ يضطر لقراءة النصوص عدة مرات للقبض على معانيها المتسترة وراء حجاب، وتأويلها، وتفكيك تلابيبها، لأن شعر عبدالسلام دخان لا يراهن إطلاقا على قارئ مستمع، وعيه محكوم بالشعر كإنشاد وكخطاب شفاهي. إنه يراهن بالأحرى على قارئ منتج ومبدع، قارئ ذي ذاكرة شعرية وأدبية وفنية ومعرفية جد غنية وأكثر خصوبة. بمعنى آخر، دخان يكتب من أجل قارئ يدخل في حوار جدلي مع النصوص الشعرية ويقيم معها علائق دينامكية ويتخذ بذلك وضعا فاعلا في النص الشعري باعتباره بناءً مفتوحا، فضاء منفتحا على عدة إمكانات ونسيجا تتعدد فيه الأصوات وتتقاطع في ثناياه نصوص أخرى. إن نصوص "فقدان المناعة" لا تخضع للبعد الشفاهي، وتستدعي بالتالي القراءة المُفرَدة، الهادئة، الصامتة، المتأملة، والعارفة. وحده هذا النوع من القراءة قادر على كشف شعرية هذه النصوص التي قد تتلاشى وتضيع بالإنشاد. ما قلته لا ينقص من القيمة الشعرية للديوان، بل يؤكد مرة أخرى على أن الكتابة لدى الشاعر تندرج في دائرة الحداثة، أي أنها كتابة ذات بعد جمالي وممارسة واعية بشرطها الشعري. كتابة دخان تذكرنا بكتابات شعراء من أمثال أدونيس وبنيس وهنري ميشو وسان جون بيرس ومالارميه وغيرهم ممن لا يمكن قراءتهم شفاهيا، بل توجب قراءتهم كتابيا. البعد الكتابي أو الغرافي في "فقدان المناعة" يتمظهر من خلال وجود نصوص شعرية جد مكثفة لا تتجاوز البيتين أو الأربع: "للعشق شكل شمعة ولجسدي لون البداية" "الكرسي الفارغ قبالة البحر يقَبّل في صمت وجه الريح" "توهجت الشوارع بالشوارع فاحترقت أرصفة الحلم في كف عجوز مولع بانتظار خطوات الريح المتعبة" امتطى صهوة البياض إنها نصوص جد قصيرة وجد مختزلة، تذكرنا في بنائها الشطري بالهايكو الذي أبدع فيه الشاعر الياباني باشو ماتسيو خلال القرن 17 الميلادي. نتيجة للتكثيف والتشظي، يكون البياض في هذه النصوص القصيرة أكثر هيمنة من السواد. فالفراغ هنا هو الذي يحدد وضع الكتابة وجدل القراءة والمسكوت عنه في ثنايا الأبيات. فراغ يستدعي قارئا جيدا يفهم معانيه، يقبض على تلابيبه، يملأه بتأويلات ذكية واستنباطية. قارئ مُتَمرّس لا يكتفي بالمعنى الأول للأبيات لأنها، في العمق، نسيج من الأصوات والصمت، تشابك من الامتلاء والخواء، تقاطع بين الأسود والبياض، جدلية ما يقال وما لا يقال. كل هذه المعطيات الكتابية والشعرية لهذه الأبيات تعطي للقارئ هوامش رحبة من الاكتشاف والتفكير. البعد التكثيفي للغة يجعل هذه النصوص الشعرية أكثر تلميحا وأبلغ معنى وأقوى إشارة لأصداء العالمين الداخلي والخارجي. إنها نصوص شعرية لا تَصف، لا تَحكي، بل تُلَمّحُ لمعان خفية. يقول رولان بارت في كتابه "إمبراطورية العلامات"، متحدثا عن الهايكو: "في الهايكو، تختفي وظيفتان أساسيتان في الكتابة الكلاسيكية: الوصف من جهة، والتعريف من جهة أخرى (...). الهايكو لا يصف ولا يُعَرف، إنه يذهب بالتلميح إلى أبعد الحدود". بهذا المعنى، هذه النصوص، في علاقتها التناصية مع الهايكو، تدعو إلى التفكير والتأمل، وليس عبثا أن عنوان أحد هذه الأشعار هو "فلسفة". البعدان المعرفي والفكري اللذان تنطوي عليهما هذه النصوص الشعرية لا يَحجُب العلاقة التي تقيمها مع المعيش، إذ تشير إلى أشياء مرئية، تجعل من المحسوس جوهرها، وتحطم القيود، ليتم اتحاد صميمي بين الشاعر والطبيعة. بكلمات قليلة، موجزة، أكثر تكثيفا، يقبض الشاعر على اللحظة الهاربة، على الشيء العابر، على المتغير، على الفوري (اللون- الصوت- الزمن- الخطوة، الحركة...)، ليثبته في صور خالدة ويخرجه بذلك من النهائي إلى اللانهائي. في هذا السياق، تظل الصورة كمفهوم أداة إجرائية لقراءة هذه النصوص الشذرية، حيث يجب فهمها في دلالاتها الواسعة والشاملة. هكذا يمكننا الحديث عن الصورة الفنية والصورة الذهنية والصورة الرمزية والصورة الواقعية والصورة الاستعارية. القارئ للنصوص الثلاثة المذكورة أعلاه تترسخ في ذهنه هذه الصور: شمعة تحترق، كرسي فارغ، عجوز تنتظر. إنها صور ذات بعد رمزي تتخذ دلالات عدة. وليس من قبيل الصدفة أن يُبَوّب الشاعر الجزء الأول من الديوان بعنوان مثير: "صور مختلفة". إنها صور عارية من التوصيف، لا تميل إلى الحكي، "ليست مبتذلة ولا مرصعة، ولدت في ذات اللحظة"، ألوانها وأصواتها مستوحاة من الطبيعة (البحر- الريح). مثل شعر الهايكو، تحيل هذه النصوص الشعرية القصيرة إلى الطبيعة وتحقق ما تم الاصطلاح عليه في شعرية الهايكو ب "الكيكو"، أي هذه الإشارة (المفتاح) الضمنية أو الصريحة للطبيعة أو لمكون من مكوناتها أو لفصل من الفصول الأربعة. يتجلى مرة أخرى الملمح الغرافي للديوان في بعده التناصي. فنصه الشعري فضاء واسع، منفتح على نصوص أخرى حاضرة عن طريق التصريح، أو التلميح، أو الكناية، أو الاستعارة، أو الرمز، أو الأسماء. هذه الميزة أتاحت لشعرية "فقدان المناعة" أن تتناسل مع نصوص مختلفة، سابقة أو قديمة، معاصرة أو مجاورة، تُحاورُها، تُشَكلها، تُحَولها، "تَقرأها وتُعيد كتابتها وتُقوم بتوزيعها داخل فضائها"، حسب تعبير فيليب سولرس. بهذا المعنى، يصير ديوان عبدالسلام دخان نسيجا ممتدا في مخزون وذاكرة نصوص أخرى يقيم معها علائق وتداخلات وتقاطعات، فلا يصبح بذلك "انعكاسا لخارجه أو مرآة لقائله وإنما فاعلية المخزون التذكري لنصوص مختلفة هي التي تشكل حقل التناص". هذا الحقل يأخذ تمظهرات عديدة: شخصيات مُتَخَيلة، أسماء أعلام، عناوين كتب، جمل مأثورة، أحداث تاريخية .. الخ. في قصيدة عنوانها "هدية"، يتم الحديث عن عزلة إميل. إنه اسم يحيل إلى كتاب جون جاك روسو ويذكرنا بشخصيته الشهيرة، التي عبرها يقدم الفيلسوف الفرنسي أطروحته الفلسفية حول الإنسان الوحشي، الخالص والبريء الذي أفسدته المدينة ودمره المجتمع المتحضر. فإميل هذا النص الشعري، مثل إميل روسو، يحاول كتابة تاريخه البهي وتدوين حياته المُشرقة كما كانت عليه في الماضي. ولكن عبثا، إذ تتحول هذه الشخصية إلى خشبة، أي إلى شيء فقد إنسانيته. الشاعر لا يكتفي باستحضار شخوص لكتاب وشعراء آخرين داخل نصوصه الشعرية. إنه، زيادة على ذلك، يعيد بناء هذه الشخصيات، يعطيها بعدا مخالفا لما اعتاد عليه القارئ في الكتب المأثورة. فهو يُحَولها ويُجَنسها، ليُضفي عليها دلالات جديدة. في قصيدة "فراق"، يتحول إميل إلى فتاة يودعها الشاعر قبيل وفاته، فيطلب منها أن تمسح على جبينه عرق الموت. إميل تصير، بهذا المعنى، أمله الوحيد في الحياة، الخيط الرفيع الذي يربطه بنبضها. نفسها الفتاة تفتقد قدسيتها وجمالها في آخر قصيدة من الديوان. ونحن نقرأ هذه النصوص الشعرية، يطالعنا اسم شاعر أو كاتب أو مفكر: "لم ُأعجب بستار كونديرا / لأني منحاز لرائحة التخوم" ص34 "أنا نسيان فرجينيا وولف" ص70 "أنا من ضاعت يداه/إكليل الزمن/وصلى درويش/ صلاته الأخيرة في دمه/ وألهم إدوارد السعيد/ أنشودة الشرف" ص71 تصادفنا مقولة مأثورة أو عنوان نص تراثي أو مصطلح قرآني أو عنوان كتاب أو مقتطف شعري. نقرأ مثلا: "لا يَستَحم في العتمة/ مرة أو مرتين" ص78 "تساقطت أوراق قلبي/ والتين والزيتون" ص76 "سُلَّماَ لكائن منعزل/حطه السيل من عل" ص59 "أجد في احتمالات "ماتريكس"/ خلاصا لصراع التأويلات" ص30 "خريف المتكئين/ على فرش من هواء" ص20 "غيرك فاتنتي/ يا عابرة/ بين الكلمات" ص16 هذه الأمثلة وغيرها دليل واضح على أن النص الشعري عند دخان هو استحضار لنصوص عديدة، استرجاع لقصائد قرأها جيدا، فتمثل أبعادها الجمالية، والمعرفية، والفلسفية، وأفرد لها موقعا للحضور داخل فضاء شعريته. هذا الأخير يصبح إذن بناءً مفتوحا يكون فيه الآخر حاضرا باستمرار، يسمح بتوالجات بين أشكال أدبية مختلفة، يؤدي إلى تقاطعات أجناسية. وعبد السلام دخان، قبل أن يكون شاعرا، هو قارئ جيد لنصوص شعرية ونثرية، عالمية ومحلية، يأتي إلى الكتابة وذاكرته حبلى بمرجعيات متعددة تحضر عن قصد، أو خلسة في نسيج أشعاره. إن فقدان المناعة يبقى، في هذا الإطار، نصا طرسيا، شعريته عارفة، لغته حاملة لكتابات قادمة من المجهول والمعلوم. هذه الخاصية التناصية جعلت من الديوان فضاء مفتوحا، شاسعا، رحبا، متعددا، ديناميا، تتمازج فيه الأساليب الأدبية، تتناسل فيه أصوات عديدة، يلتقي فيه البعد الجمالي بالبعد المعرفي، تؤثث مساحته إيقاعات مختلفة بين مرثي وغزلي وتأملي وخطابي. النص الشعري لدى الشاعر عبدالسلام دخان هو "غابة من الرموز" بتعبير شارل بودلير. فلنفكك إذن شفراتها.