كلما استهلكنا البترول، قلت الكمية المتبقية منه، وكلما استثمرنا في المعرفة كأحد الأسس الجديدة لخلق الثروة زاد إنتاجها، إنها المصدر غير الملموس للقوة السياسية التي تمثل مجموع القوة الاقتصادية والعسكرية، وبما أن مستودعات المعرفة وورش عملها تجري في مدارسنا ومؤسساتنا التعليمية، لا مفر من القيام بتشخيص استراتيجي دوري، مع كل دخول اجتماعي، لإدراك طبيعة التحديات التي تواجه أنظمتنا التعليمية، لاسيما مع تلك الصعوبات التي تقف عائقا أمام ربط مخرجات التعليم بالاقتصاد، بعد مرور 50 عاما على اقتصاد المعرفة وإدماج الأنظمة الذكية في كل ما له علاقة بالقوة العسكرية. إن التغيرات العميقة التي شهدها الاقتصاد بفعل الاستخدام المكثف للمعرفة، أدى إلى تحولات كبرى في المسلمات التي يقوم عليها الاقتصاد العالمي، حيث أصبحت المعرفة من أهم متغيرات القوة، بسبب التحول التدريجي لرأس المال إلى معرفة، الأمر الذي استلزم تحديد مؤشرات جديدة لتوزيع القوى على مستوى النظام الدولي وتوفير أدوات جديدة لإدارتها. فبسبب هذا التغير الكبير في مكونات القوة، تحولت الحروب بين القوى الدولية في المجال الاقتصادي، من حروب على الثروات المادية الملموسة إلى حرب الاستخبارات الصناعية القائمة على حيازة المعرفة، حيث إن معارك كثيرة تحتدم يوميا من أجل الحصول على معلومات تحتاج إليها الشركات الكبرى، في سعيها للتجديد المستمر للمعلومة المعرفية، حول ما لدى الشركات المنافسة من خطط لتجديد المنتج، فتصميم رقيقة إلكترونية يحتاج إلى سنوات من العمل وملايين الدولارات، بينما النسخ أو عملية الهندسة العكسية التي تقوم بها جهة منافسة أسرع وأرخص. وفي المجال العسكري، يقوم نظام المعلومات الذي يغذي الأسلحة، وهي في طريقها إلى تصويب ضرباتها نحو أهدافها على المعرفة أساسا، ففي الحرب العالمية الثانية استخدمت 2500 قنبلة لضرب هدف واحد، وفي حرب فيتنام 50 قنبلة لضرب هدف واحد أيضا، بينما في حرب الخليج استخدمت قنبلة واحدة لضرب هدف استراتيجي واحد، بسبب ما وفرته أنظمة المعلومات العالية التكنولوجيا من دقة في تحديد الضربات. ومن ثم تكون المعرفة قد أحدثت تحولا في الجغرافيا السياسية، نتيجة استخدام الذخائر ذات التوجيه الدقيق الذي من خصائصه التنسيق بين القوة والهدف، وعليه تكون المعرفة والمعلومات قد حلت محل البعد الكلاسيكي للقوة العسكرية القائم على الكم. وبهذا أصبحت الدولة الأقوى عسكريا هي التي تعتمد في الأساس على أنظمة معلومات ذكية وعالية التقنية، وعلى ذلك يجري تطوير أبحاث ما بات يعرف بالأبعاد الأربعة المتمثلة في البر والبحر والجو والفضاء، وربطها بأجهزة الأقمار الصناعية، وهو نظام متعدد الطبقات يقوم على أجهزة تكنولوجية أكثر دقة، ذات موجات لاسلكية وأجهزة استشعار، مزودة بآلات لقراءة انعكاسات الردارات ورصد البيوكيماويات والصوت والصدى، وكلّها مستعدّة لنقل المعلومات من أي مكان وفي اللحظة نفسها، الأمر الذي يجعل محاولة أي دولة غزو حدود دولة أخرى تعمل بنظام النظم عملا انتحاريا، ما يؤكد تحول مفهوم القوة في بعده العسكري التقليدي إلى مفهوم رمزي، بما تحمله المعدات العسكرية من أنظمة معلوماتية غاية في الدقة والتعقيد. ونتيجة لمخرجات هذا الزخم العلمي والمعرفي، يحيط بنا أكثر من 2500 قمر صناعي، حسب تقارير المركز الفرنسي للدراسات الفضائية التابع لوزراتي البحث والدفاع، وأكثر من 1800 أخرى لاتزال تحت التصميم، تستخدم بالإضافة للأهداف العسكرية والاقتصادية، لتشغيل الهواتف المتحركة وبث الفضائيات والربط بين أجهزة النداء الآلي والحواسيب الشخصية، حيث يدخل أكثر من 50 مليون شخص يوميا على شبكة الأنترنت، ليقضوا أكثر من 30 دقيقة في المتوسط في استخدام الشبكة، الأمر الذي يفرض تساؤلا حول المآلات السياسية لهذا التشبيك، ولاسيما على مستوى اختراقات ما يسمى بالمجتمع المدني الدولي المتمركز حول نواة المنظمات غير الحكومية. في ظل هذه المعطيات، تواجه أنظمتنا التعليمية ثلاثة تحديات، تكمن في تقليص الفجوة المعرفية، واستيعاب المفهوم الجديد للزمن، ومدى اهتمامنا باللغات الأجنبية، وهي تحديات متداخلة فيما بينها، حيث إن تقليص الفجوة المعرفية يعتمد على اختزال الزمن في نقل المعرفة بلغة منتجيها، ومن هنا تكتسب اللغات الأجنبية أهميتها، لاسيما أن اللغة قد انفصلت عن بعدها الإيديولوجي إلى حد كبير وتحولت إلى سلعة، ولذلك يعتبر أي تخلف عن منح الاهتمام الأقصى للغات الأجنبية، منذر بمزيد من توسيع الفجوة المعرفية، كما أن أي تغافل عن استيعاب جدي للمفهوم الجديد للزمن في معناه اللحظي والآني في التعامل مع الاستثمار في رأس المال الفكري يزيد من تعقيدات مشكلة انعدام التزامن مع ما يجري في العالم من إنتاج مكثف للمعرفة وتوظيفه في كافة مجالات مكونات القوة، أما عن الفجوة المعرفية فبالإضافة إلى اللغات الأجنبية والسعي إلى تحقيق التزامن في اكتساب المعرفة، لابد من التركيز بقوة على مجالات الرياضيات التطبيقية والحوسبة العلمية وتحسين القدرة على استيعاب المعرفة وإدارتها والاستثمار فيها، من المدرسة إلى كافة مؤسسات التعليم العالي، عن طريق مزيد من الاجتهاد في ربط مخرجات التعليم بالشركات المنتجة، والتي وحدها تجعل من التركيز على البحث والابتكار قيمة مضافة مجسدة في الناتج الإجمالي المحلي ومن ثم في قوة الدولة. "الخبر"