صدمة في غابة دونابو بطنجة: قطع الأشجار يثير غضب المواطنين    إضراب عام في المغرب احتجاجًا على تدهور القدرة الشرائية وتجميد الحوار الاجتماعي    مداهمة مطعم ومجزرة بطنجة وحجز لحوم فاسدة    نبيلة منيب: مدونة الأسرة تحتاج إلى مراجعة جذرية تحقق العدالة والمساواة -فيديو-    المغرب واليمن نحو تعزيز التعاون الثنائي    ارتفاع تحويلات مغاربة العالم    توقيف سائق طاكسي بأكادير بتهمة ترويج القرقوبي    أكادير تحتفي بالسنة الأمازيغية الجديدة بتكريم مايسترو الرباب لحسن بلمودن    مهرجان قرطاج لفنون العرائس يعود بمشاركة 19 دولة وعروض مبتكرة    التساقطات المطرية الأخيرة تعيد الآمال للفلاحين وتعد بموسم فلاحي جيد    وهبي: العدالة الانتقالية تجربة وطنية أفضت إلى المصالحة بين المجتمع المغربي وتاريخه    الشبيبة التجمعية تشيد بمجهود الحكومة استعداداً للمونديال وفي "تصفية تركة حكومتي العشر سنوات العجاف"    الاتحاد المغربي للشغل ينظم إلى الداعين لخوض "الاضراب العام"    الاتحاد العربي للثقافة الرياضية يمنح فوزي لقجع الجائزة التقديرية ل2024    النصيري يمنح الفوز لفنربخشة أمام ريزا سبور    مفتاح الوقاية من السرطان.. دراسة تؤكد أن الرياضة وحدها لا تكفي دون الحفاظ على وزن صحي!    المفوضية الأوروبية تحذر من "رد حازم" إذا استهدف ترامب منتجاتها برسوم جمركية "تعسفية وغير منصفة"    ابن تطوان "الدكتور رشيد البقالي" ينال إعجاب علماء كبار ويظفر بجائزة عالمية في مجال الفكر والأدب    التساقطات المطرية الأخيرة ترفع نسبة حقينة سدود المملكة إلى أزيد من 27%    الشرع: الرياض تريد دعم دمشق    بني ملال ينتزع التعادل مع بركان    صادرات قطاع الطيران ناهزت 26,45 مليار درهم سنة 2024    خبير صحي يحذر: إجراءات مواجهة "بوحمرون" في المغرب "ضرورية ولكنها غير كافية"    المغرب يتسلم رئاسة التحالف الإفريقي للعلوم والتكنولوجيا لتعزيز التنمية المستدامة    مقاييس الأمطار المسجلة بالمملكة خلال ال 24 ساعة الماضية    بعد انضمامه للأهلي.. بنشرقي: اخترت نادي القرن لحصد الألقاب    فتح تحقيق جنائي بحقّ زوجة نتانياهو    أسعار المحروقات تشهد زيادة "طفيفة" للمرّة الثانية توالياً خلال شهر بالمغرب    العثور على مهاجر مغربي مقتول داخل سيارته بإيطاليا    تحولات "فن الحرب"    نشرة إنذارية (تحديث): تساقطات ثلجية وأمطار قوية مرتقبة من الأحد إلى الثلاثاء بعدد من أقاليم المملكة    المغاربة أكثر الجاليات اقتناء للمنازل في إسبانيا    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الإثنين    الزوبير بوحوت يكتب: السياحة في المغرب بين الأرقام القياسية والتحديات الإستراتيجية    القيمة السوقية لدوري روشن السعودي تتخطى المليار يورو    الإرث الفكري ل"فرانتز فانون" حاضر في مهرجان الكتاب الإفريقي بمراكش    تطوان تحتفي بالقيم والإبداع في الدورة 6 لملتقى الأجيال للكبسولة التوعوية    القنيطرة... اختتام دوري أكاديميات كرة القدم    باب برد: تفكيك عصابة إجرامية متورطة في سرقة وكالة لتحويل الأموال    حكومة أخنوش تتعهد بضمان وفرة المواد الاستهلاكية خلال رمضان ومحاربة المضاربات    هكذا يخطط المغرب لتعزيز أمن منطقة الساحل والصحراء    الإعلام في خدمة الأجندات السياسية والعسكرية    الرجاء البيضاوي يتجه إلى إلغاء الجمع العام مع إناطة مهمة الرئاسة إلى بيرواين حتى نهاية الموسم    تجميد المساعدات الأميركية يهدد بتبعات خطيرة على الدول الفقيرة    دراسة: هكذا تحمي نفسك من الخَرَفْ!    استئناف المفاوضات بين حماس وإسرائيل الاثنين بعد رابع عملية تبادل للرهائن والمسجونين    الصين: شنغهاي تستقبل أكثر من 9 ملايين زائر في الأيام الأربعة الأولى من عطلة عيد الربيع    المنتخب الوطني لأقل من 14 سنة يجري تجمعا إعداديا بسلا    الجمعية المغربية لدعم إعمار فلسطين تجهز مستشفى الرنتيسي ومستشفى العيون باسطوانات الأكسجين    أولياء التلاميذ يؤكدون دعمهم للصرامة في محاربة ظاهرة 'بوحمرون' بالمدارس    مؤسسة طنجة الكبرى تحتفي بالكاتب عبد السلام الفتوح وإصداره الجديد    تفشي "بوحمرون" في المغرب.. أرقام صادمة وهذه هي المناطق الأكثر تضرراً    المجلس العلمي المحلي للجديدة ينظم حفل تكريم لرئيسه السابق العلامة عبدالله شاكر    محاضرة بأكاديمية المملكة تُبعد نقص الذكاء عن "أطفال صعوبات التعلم"    أي دين يختار الذكاء الاصطناعي؟    أربعاء أيت أحمد : جمعية بناء ورعاية مسجد "أسدرم " تدعو إلى المساهمة في إعادة بناء مسجد دوار أسدرم    غياب لقاح المينانجيت في الصيدليات يعرقل سفرالمغاربة لأداء العمرة    أرسلان: الاتفاقيات الدولية في مجال الأسرة مقبولة ما لم تخالف أصول الإسلام    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المخرج عبد السلام الكلاعي يكتب عن قرار منع فيلم "الخروج، آلهة و ملوك" للمخرج ريدلي سكوت
نشر في العرائش أنفو يوم 28 - 01 - 2015

أطلعتنا لجنة النظر في صلاحية الاشرطة السينماتوغرافية بمبررات قرارها لمنع فيلم “الخروج، آلهة و ملوك” للمخرج ريدلي سكوت. و جاء تبرير قرار منع الفيلم لأنه: “يجسد الذات الإلهية في شخص طفل أثناء نزول الوحي على نبي الله موسى عليه السلام، فإن هذا التجسيد باطل و أن الله لا يمثل في جميع الأديان السماوية. و هذا سبب كافي لمنع عرض الفيلم”.
لن نناقش قانونية هذا المنع و لا ملابساته السياسية و إنما سنخوض من موقع ثقافي و معرفي صرفين نقاشاً مع هذه المبررات لنرى على مستوى المضمون مدى صحتها معرفياً و ثقافياً و فكرياً و مدى صلاحيتها و ملاءمتها لروح العصر و على مستوى الشكل فسنقف بشكل مقتضب عند لغتها و تراكيبها و صياغتها لنتساءل هل هي تمث إلى مجال الفكر و الثقافة و الفن بصلة.
لنبدأ بالشكل. تأتي لغة القرار بعيدة كل البعد عن مجالات الفكر و الثقافة و الفن و علاقتهما بالمجتمع. إذ أن المنع لا يبين أي تأثير سلبي يمكن أن يحدثه هذا الفيلم على مشاهديه و لا على المجتمع المغربي الذي سيعرض فيه و لا على الأخلاق العامة و لا غيرها. و إنما تطرح هذه التبريرات بقاموس ديني قاعدة قبلية عَقَدِيَّة مُفْتَرَضَة تمنع في كل الأديان السماوية تصوير و تمثيل الإله. و بالتالي فإن هذه القاعدة و التي سنرى مدى صحتها من عدمه و التي تنتمي لمجال العقائد الأصولية بمعنى الأرتودوكسية تتبناها لجنة من المفروض أنها لجنة تعمل في مجال الفن و الإبداع و الفكر و تطبقها على الفيلم الذي هو منتوج إبداعي و فني و معرفي لتمنعه. إذاً نحن أمام لجنة اتخذت قراراً دينيا صرفاً بمبررات دينية صرفة في مجال ليس للدين و داخل مؤسسة من مؤسسات الدولة الحديثة ليست بمؤسسة دينية و إنما هي مؤسسة إبداعية و فنية و فكرية
في ما يخص مضمون مبرر المنع هناك العديد من الأخطاء المعرفية و الثقافية و الفكرية سقطت فيها لجنة الرقابة أولها كون اللجنة إعتبرت “أن الله لا يمثل في كل الأديان السماوية” و العكس هو الصحيح تماماً كون كل “الأديان السماوية” مثلت الله بشكل أو بآخر لتقريب فكرة الإله للمؤمنين. لأن فكرة إله مجرد تماما لا يمكن التعبير عنه ولا حتى التفكير فيه غير ممكنة في ضرورة التواصل مع المؤمنين. و بالتالي ففكرة الإله تمر أولاً و بالضرورة عبر اللغة فالأديان السماوية كلها تصف الله بكلمات بشرية مستعملة المفاهيم والتشبيهات والاستعارات. وتؤخذ هذه الكلمات من النصوص المقدسة ( التوراة و الإنجيل و القرآن) أو النصوص اللاهوتية و التفسيرية اللاحقة لها. ولذلك فمن المشروع تماما أن نتحدث في الأديان السماوية كلها عن “تمثيلات الله” و إمكانية مقارنتها.
لنبدأ أولا بالدين الإسلامي و الذي هو دين أغلبية المغاربة. و لنحصر أنفسنا في تمثيل و وصف الذات الإلهية فقط في النص القرآني لأنه النص الوحيد المتفق عليه من طرف كل المسلمين كونه نص سماوي مؤسس للعقيدة الإسلامية. يصور القرآن الذات الإلهية في كثير من المواضع باللغة و اللغة تمثيل و توصيف، و هي الشكل التعبيري المنتشر في شبه الجزيرة العربية في عصر الوحي و من هذه التمثيلات ما ورد في النص القرآني في سورة النور : ” الله نور السموات والأرض، مثل نوره كمشكاة فيها مصباح، المصباح في زجاجة، الزجاجة كأنها كوكب دري، يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية، يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار. نور على نور.” هنا نجد أن النص القرآني يمثل الله بنور السماوات و الأرض و يصور لغوياً هذا النور كمشكاة فيها مصباح و المصباح في زجاجة إلى آخر الآية. هنا توضف اللغة العربية، لغة البشر الواصفة للأشياء المحسوسة و المعروفة لدى الناس كالنور و المشكاة و المصباح و الزجاجة و الشجرة ليتمثلوا فكرياً الذات الإلهية
أما في اليهودية فإن الإله لا يوصف و لا يمثل و لايشبه و لاينطق إسمه البثة. ففي اليهودية الإله يفوق مخيلة الناس. وحتى أنه في التقاليد اليهودية يجب احترام إسم الإله و عدم نطقه أبداً. و يمكن استعمال كلمة “يهوه” المشكلة من أربعة أحرف عبرية ساكنة تشكل معنى “الواحد الذي هو، كان وسيكون.” إذاً الإله في اليهودية على خلافه في الإسلام هو غير منطوق الذات و الصفات. ولذلك تستخدم بعض الكلمات المشيرة إليه و لكنها ليست أسماءه مثل هاشيم: و هي الاسم الذي هو إطناب، و أدوناي التي تعني السيد و هو اللقب الذي من خلاله يعترف الإنسان بسيادة الإله، و إلوهيم: و هو الإله بامتياز وهي صيغة جمع الجلاله وليست صيغة جمع العدد. إذاً في اليهودية الإله لا يوصف و لا يمثل و لا ينطق اسمه. حتى لو كانت صورة الإله غير مجودة البثة في الكتاب المقدس إلا أن أبوة الله موجودة في عدة مقاطع من أسفار العهد القديم. وجود سمات أبوة الله في التوراة يمكن أن تظهر في ثلاث جوانب رئيسية: أولا وجود الإله الخالق و الذي هو مصدر الحياة كما في سفر التكوين. سمة الأب الرئيسية الثانية الموجودة في التوراة هي كونه “المُربِّي” و “المُشرع” في العالم، و”مدير” كل شيء. و أخيرا تظهر في التوراة صورة أخرى لأُبوة الرب عن طريق بنوة شعب إسرائيل له كما في سفر الخروج حيث يعامل الرب شعب إسرائيل بوصفه إبناً له “فتقول لفرعون: هكذا يقول الرب: إسرائيل ابني البكر.”
أما المسيحية فهي التي تصور و تمثل الإله الأكثر شبهاً بالإنسان، فالإنسان شبيه بخالقه حيث تمت العودة إلى نص مؤسس للعقيدة التوحيدية اليهودية و هو سفر التكوين في العهد القديم الذي يقول في قصة الخلق : “وقال الله نعمل الإنسان علي صورتنا كشبهنا. فخلق الله الإنسان علي صورته. علي صورة الله خلقه”. و لكن اللاهوت المسيحي وضع من خلال هذا التصور التماثلي بين الله و الإنسان تصميماً ثالوثياً للإله: الآب والابن والروح القدس. الإبن هو المخلص المسيح و الروح القدس هي الروح التي تربطه بالرب الأب الذي هو خالق كل شيء و الذي يرتبط برباط الأبوة الخالصة مع المخلص يسوع، و بأبوة التبني مع كل المسيحيين و البشر المؤمنين و غير المؤمنين، الطيبين و الأشرار.
لم تطور اليهودية و الإسلام تمثيلاً تشخيصياً للذات الإلهية و للأنبياء و الملائكة لأنهما ديانتان شرق أوسطيتان جنوبيتان ستتطوران في الشرق الأوسط و جنوب البحر الأبيض المتوسط حيث الثقافة الشفوية هي المنتشرة و الإعتماد على اللغة المكتوبة هو السائد في غياب تام لفنون تشخيصية و تمثيلية مثل المسرح و الرسم و النحت، في حين أن كل التمثيلات التي ستتطور للذات الإلهية الإسلامية و الذات الإلهية اليهودية ستكون لغوية لفظية صرفة و غير قابلة للتشخيص بأشكال الرسم و النحت، لأن ذلك سيجعل الديانتين تستطيعان تمييز نفسيهما عن الحضارات المتعددة الآلهة التي تطورت في الشرق الأوسط و شمال إفريقيا – و التي هي في الحقيقة أكثر رقياً على مستوى التعبير التشخيصي الفني – كالحضارة البابلية و الفرعونية القديمتين و التي قاومت اليهودية تأثيراتهما رغم أنها في نفس الوقت تشربت إرثهما العقدي و الحضارة الفارسية من جهة و اليونانية-الرومانية-البيزنطية من جهة أخرى التي قاوم الإسلام وجودهما و قضى عليهما و لكنه تماهى معهما فكرياً و بالخصوص مع إرثهما الفلسفي. إلا أن هناك استثناء لهذه القاعدة الغير التمثيلية و هي الإسلام الفارسي و الهندي و المنغولي الممتزج بالفقه الشيعي و الصوفي الذي سوف يحل إشكالية التمثيل بالرسم و التصوير و ستظهر منمنمات غاية في الروعة و الرقيّ تصور كل الموضوعات الدينية من النبي و الصحابة و البراق و الملائكة و الجنة و النار و سدرة المنتهى و ترمز لمكان الذات الإلهية بالضوء و النور بدون أذنى حرج.
أما المسيحية و التي ستنجو بنفسها في السنوات الأولى لظهورها من مناخ الشرق الأوسط المتخلف ثقافيا و فنياً و ستهاجر نحو الشمال نحو الإمبراطورية الرومانية فإنها ستتأثر منذ القرون الأولى لظهورها بتطور فن الرسم و النحت و التمثيل المزدهر جداً في أوروبا الواقعة تحت السيطرة الرومانية، فستبدأ المسيحية باستعمال فن الرسم لتطوير وسيلة مركزية في طقوس العبادة و هي “الأيقونية” التي تصور المسيح أو أمه مريم أو الملائكة أو الإله نفسه على صورة الرب الآب. و صولاً إلى عهد النهضة الأوروبية حيث سيزدهر فن الرسم و النحث بتمويل من الباباوات و الكنائس التي ستمتلئ بصور مرسومة و منحوتة للرب على شكل رجل مسنِ و مليء بالقوة و القدرة و العطف و بتماثيل الإله بنفس المواصفات و المسيح و أمه و الحواريين في مختلف المشاهد التي شكلت حياته حسب شهادات الأناجيل و كذا بورتريهات القديسين.
من كل ما سلف نستخلص ثلاث أمور منافية تماماً لمنطوق تبرير اللجنة لمنعها:
أول ما نستخلصه هو أن الأديان الإبراهيمية الثلاثة لا تمنع بأي شكل من الأشكال تمثيل صورة الذات الإلهية، بل توظف التمثيل و التوصيف و التشبيه و الكناية و الاستعارة لتقريب مفهوم الإله لعقول الناس حتى يستطيعوا تصوره و الإيمان به، تارة عبر استعمال اللغة المكتوبة و المنطوقة الرامزة للأشياء المحسوسة و المعروفة للعامة كما في حالة الإسلام و تارة باستعمال اللغة المكتوبة و المنطوقة الرامزة للأشياء الغير المحسوسة و المفاهيمية كما في اليهودية و و تارة باستعمال اللغة المنطوقة و المكتوبة و الأيقونات و اللوحات و الجداريات المرسومة و المنحوتات كما في المسيحية.
ثانيا، لا تتفق الأديان الثلاثة لا في نصوصها المؤسسة و لا في نصوصها التفسيرية اللاحقة على تصور واحد للإله و بالتالي فهي لا تتفق على تمثيل أو توصيف مشترك له. كما لا تتفق الأديان الثلاثة على عدم تمثيل الذات الإلهية و لا على الأشكال التي يمكن من خلالها تمثيل هذه الذات و توصيفها.
ثالثاً، حتى في اليهودية و الإسلام و هما الدينين اللذين يمنعان تشبيه الذات الإلهية بالشكل الفيزيونومي للإنسان أو لأحد الموجودات المرئية، فإن المجال التفسيري متنوع و متعدد و يمتد من تيارات تسمح بالتصوير و التشخيص لكل شيء بما فيه الأنبياء و الملائكة و الترميز للذات الإلهية برسم النور أو الضوء أو الهالات أو ماشابه إلى تيارات أصولية أرتودوكسية متشددة مع فكرة التمثيل و التصوير تمنع حتى تمثيل و تصوير و تشخيص الناس العاديين و النباتات و الحيوانات و تذهب إلى حدود تحريم فن الرسم و النحت و التصوير الفوتوغرافي و التلفزيون و السينما.
إذاً أصبح من الواضح أن مقولة لجنة مراقبة صلاحية الأعمال السينماتوغرافية التي تقول “أن الله لا يمثل في جميع الأديان السماوية” مقولة متهافتة عارية من الصحة و تنقصها الدقة المعرفية و تسقط تصوراً محدداً لتيار فكري أصولي لدين واحد على مجموع الأديان الأخرى بمختلف مذاهبها و تصوراتها و تمثلاتها للذات الإلهية و كذا مختلف درجات تقبلها لتمثيل و توصيف هذه الذات.
الآن و قد تبين لنا أن تعميم هذا الإبطال لتمثيل الذات الإلهية على كل الأديان لا ينبني على أية حقيقة علمية مرتبطة بتاريخ الأديان ولا بتاريخ الفن، بقي أن نتقدم قليلاً في منطوق تبرير هذا المنع و نساءل مدى صحة قراءة أعضاء هذه اللجنة و تأويلهم لما عبروا عنه بكون الفيلم “يجسد الذات الإلهية في شخص طفل أثناء نزول الوحي على نبي الله موسى عليه السلام”.
في الفيلم يتم اللقاء الأول بين شخصية موسى و الطفل الذي تم تأويله من طرف اللجنة أنه تمثيل لله، حين يكون موسى في صحراء سيناء يرعى الغنم فتفر منه بعض النعاج فيتبعها فوق الجبل و تحت الأمطار العاصفة و السيول التي تجرف كماً هائلاً من الحجارة التي ترتطم به فيسقط و تجرفه و تدخل الشاشة في سواد الظلمة مفتتحة نوعاً من الرؤيا تحت تأثر ارتطام الحجارة بموسى و وجوده بين الغيبوبة و الوعي ليجد نفسه غارقاً كلياً في الوحل فيظهر له صبي قرب شجرة مشتعلة بنار – لا حظ التشابه بين التمثيل بالشجرة و النار في العهد القديم و القرآن – و حين يسأله موسى: “من أنت؟” يجيبه الصبي: “أنا…” ثم يغيب دون أن يقول من هو. و ينفتح باب القراءة و التأويل لماهية هذا الصبي في الفيلم. ثم فجأة يستيقظ موسى جريحاً مكسور الساق مليئاً بالوحل في مسكنه و زوجته قربه تعيده فيتم التأكيد باللغة السينمائية مجدداً على أن مشهد الجبل مع الطفل هو تصوير لرؤيا أو لحلم شاهده موسى و هو جريح و غارق في الوحل.
الطفل إذاً رمز لشيء ما و الفيلم طبعاً ينتمي إلى مجال التعبير البصري السينمائي الذي يوظف الرموز و العلامات و الدلالات المتعارف عليها بين الناس للتواصل مع الجمهور. فهل تمثيل الذات الإلهية في شخص طفل أمر مألوف في تاريخ الفنون البصرية أو في الإكونوغرافيا الدينية الغنية بتمثيلات للذات الإلهية؟ الجواب الذي يمكن لكل مطلع على الموروث الديني و الفني البصري من رسم و نحت و غيره يمكنه أن يؤكد أن كل اللوحات و المنحوتات السابقة في التاريخ لهذا الفيلم لم تصور يوماً الإله كطفل صغير. بل دائماً يتم تصويره و تمثيله كرجل مسن قوي قادر و عطوف تماشياً مع التصور اليهودي- المسيحي للذات الإلهية. فالكنائس و المتاحف و قاعات المعارض و الأفلام و الرسوم المتحركة و الإعلانات و اللوحات الإشهارية تملأ الدنيا بهذه الصورة للإله و ذلك منذ عصر النهضة الأوروبية حيث انتعش فن التصوير و النحت ذي المضامين الدينية إلى الآن. بينما في نفس الآن تملئ الأيقونات الدينية و اللوحات التشكيلية و الأفلام و الإعلانات الإشهارية بتمثيلات يرمز لها دائماً بصبية صغار أو أطفال في معظم الأحيان يكونون ذكوراً ترمز للملائكة. هذا هو المتعارف عليه في الرموز البصرية للكائنات السماوية منذ العصور القديمة إلى يومنا هذا.
في نهاية الفيلم تقريباً سوف يصرخ موسى في وجه الصبي قائلاً: ” لم أعد أريد أن أرى رسولاً..” مما يؤكد أن الطفل في هذا الفيلم يرمز ل”رسول” حامل لخطاب ما و أمر ما و توجيه ما و بالتالي فهو ليس صاحب الخطاب. إنه تأكيد بالحوار المنطوق أن الطفل-الرؤيا في الفيلم لا يرمز بأي شكل من الأشكال للذات الإلهية و إنما لرسول يحمل خطاباً من هذه الذات في الرؤيا و الحلم لموسى. و هنا تتأكد القراءة التي تربط رموز الفيلم بالإيكونوغرافيا الدينية و الفنية التي تسبقه و التي تصور الملائكة كأطفال. فيسقط كلياً قول اللجنة أن الفيلم “يجسد الذات الإلهية في شخص طفل” في الخطئ الفادح الناتج عن عدم الاختصاص و نقص المعرفة العميقة بتاريخ الفن البصري و أساليبه و رموزه في تمثيل الآلهة و الملائكة و الخصائص المرتبطة بكل واحدة من هذه الرموز.
الآن تم المنع بناء على عدم معرفة و دراية بتاريخ الأديان و بتاريخ الفن و بتاريخ السينما و بمعجم الرموز الدينية و البصرية و بالقدرة العلمية العقلانية على التحليل الفلمي و انصاعت لجنة بكاملها لقراءة آثمة خاطئة لموظف قد يكون لا علاقة له بكل هذه المجالات المعرفية و الثقافية و العلمية اللازمة لقراءة فيلم و فهمه و تحليله و فك رموزه. سيدفع الكثيرون ثمن هذا المنع و على رأسهم المغرب المشهود له بالانفتاح و التعدد و القبول بالاختلاف، كما سيدفع الثمن الجمهور المغربي المتنوع المتعدد في مشاربه الفكرية و العقدية و الدينية و الذي صودر حقه في الاختيار و الإطلاع و المعرفة و سيدفع الثمن كذلك أصحاب القاعات السينمائية و العاملون بها و الذين حرموا من مردودية واحد من أكبر الإنتاجات السينمائية و أكثرها جذباً للمشاهدين هذه السنة.
لكل ما سلف يحق لنا في الختام أن نطرح للمسائلة المواصفات العلمية و المعرفية و الفكرية التي يجب أن تتوفر في أعضاء لجنة النظر في صلاحية الاشرطة السينماتوغرافية و طريقة تعيينهم و أن نقترح برنامجاً نضالياً على العاملين في السينما و المهتمين بمآلها في المغرب كي لا يبقى أعضاء هذه اللجنة من الموظفين بل يصبحوا من رجالات الفكر و الأدب و الفن و السينما و النقد القادرين على فك رموز الأفلام و قراءتها بما هي أعمال فنية و تصنيفها – في أقصى الحالات- بحسب أعمار الجمهور المسموح له بمشاهدتها. كما يجب النضال من أجل التنصيص القانوني على منع “حق المنع” على هذه اللجنة. إن مراجعة القوانين المنظمة لهذه اللجنة في هذا الإتجاه هي السبيل الوحيد الذي سيكون كفيلاً بجعل بلدنا يتفادى توظيفها سياسياً أو عقدياً أو دينياً و سيحمي المجال السينمائي في المغرب مستقبلاً من أن يسقط في ممارسات لم تعد من روح العصر الذي نعيشه في شيء.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.