“أزمة كورونا .. أم أزمة اختيارات ” الكاتب أحمد الصياذ تساءل الكثيرون بعد إنتشار فيروس كورونا (كوفيد 19) عن ماهية التحولات التي سيشهدها العالم بعد هذا الفيروس المدمر الذي لا يفرق بين الطبقات و الشعوب و البلدان ؟ و عن أثار الأزمة على اقتصاديات العالم في ظل الليبرالية الموحشة ؟ و انعكاساتها الاجتماعية على الطبقة الكادحة ؟ اختلفت أسباب و دوافع أزمات الرأسمالية التي يُجمع كل المناهضين لها على أنها بنيوية، حيث أن هذه الأسباب تتمثل أساسا في تكديس الثروة بواسطة الثروة، تركز الثروة في أيدي قليلة من السكان، استلاب إرادة الشعوب، تدني الأجور، لا مساواة في توزيع الثروات و تدمير للبيئة. هذه الأسباب و أخرى كادت أن تعصف بالنظام الرأسمالي في العديد من الأزمات، مثال : أزمة 1929 : التي انخفضت فيها أسعار الأسهم في بورصة وول ستريت من 381 إلى 300 نقطة. بعد يومين خسر ربع قيمته و بعد شهرين خسر نصف قيمته. فبعد هذه الأزمة تم اعتماد ما يسمى بالنظرية الكينزية التي ارتكزت على ضرورة تدخل الدولة لضمان استقرار الاقتصاد. الاثنين الأسود 1987: شهد الاقتصاد الأمريكي في هذه الفترة أزمة في بيوت الادخار و الإقراض، بحيث تم الإعلان عن 747 بيتا من تلك البيوت إفلاسها، و نتج عن ذلك خسارة المدخرين 160 مليار دولار و خسارة أصحاب الأسهم 25 بالمائة من ثروتهم. و يرجع سبب ذلك في رفع الدولة يدها عن الأسواق و إعطاء حرية تامة لصناديق الادخار و الإقراض و كأنها بنوك تجارية. و من أجل حل الأزمة تدخلت الدولة في الاقتصاد، حيث خصصت آنذاك مبلغ 124 مليار لتعويض الخسارات. أزمة جنوب شرق أسيا 1997: طلب اتحاد دول جنوب شرق أسيا السيولة المالية من البنوك التجارية و المركزية الدولية في السبعينات من القرن الماضي للقيام بمشاريع تحديثية كانت تسعى أن تُحدث عبر هذه المشاريع طفرة تنموية حقيقية لبلدانها. و بالموازاة مع طلب السيولة ارتفعت أسعار النفط بشكل كبير الشيء الذي أثر على اقتصاديات هذه الدول مع تسجيل تدفق الرأسمال الأجنبي و عجز كبير في الميزان التجاري بينها و بين الولاياتالمتحدة. و مع التقلبات المالية عبر السنوات خصوصا بعد ما يسمى بالليبرالية الجديدة أدى ذلك لانهيار عملات دول اتحاد جنوب شرق أسيا و هروب رؤوس الأموال من أسواقها و ارتفاع نسبة الديون من % 100إلى %180. بسبب هذه الأزمة أقرض صندوق النقد الدولي و بعض الدول المحسوبة على المركز الرأسمالي المتوحش، اتحاد دول جنوب شرق أسيا قروضا مشروطة بشروط تُفقد سيادة الدولة على أراضيها. أزمة 2008 : بدأت الأزمة في الولاياتالمتحدةالأمريكية وانتقلت العدوى إلى الدول الأوربية و الدول المرتبطة ارتباطا وثيقا بالاقتصاد الأمريكي، و يرجع سبب ذلك في إفلاس المؤسسات المصرفية و تدهور البورصات و انخفاض كبير لأسعار أسهم العديد من المصارف الكبرى. و بعد تفشي الأزمة سارع وزير الخزانة الأمريكية بسن إجراءات من أجل الخروج من الأزمة سميت ب” خطة الإنقاد المالي الأمريكي “. كل هذه الأزمات كانت لها دوافعها الخاصة غير أن الثابت فيها هو طبيعة النظام الرأسمالي الذي يتميز بالسعال و الأوجاع مثل المريض بالزكام . و المُلاحظ أساسا هو أنه في كل أزمة يتم اعتماد إجراءات تَنهل من الفكر الاشتراكي. آثار الأزمة : و بالرجوع لأزمة فيروس كورونا ( كوفيد 19 )، فقد تفاجأ مختلف المراقبين و المحللين بالآثار التي سببها هذا الفيروس لحدود اللحظة بسبب سرعة انتشاره و صعوبة احتواءه، ذلك في الوقت التي كانت فيه أغلب التوقعات المالية تشير إلى ارتفاع نسبة النمو في سنة 2020 بالمقارنة مع سنة 2019. حيث توقع صندوق النقد الدولي لشهر يناير ارتفاع في النمو من 2.9 في المائة في 2019 إلى 3.3 في المائة في 2020 غير أن هذا التوقع باتت مع انتشار جائحة كورونا في مهب الريح. في حين أكد ريتشارد كوزيل رئيس قسم العولمة و الاستراتيجيات التنموية أن الأزمة الحالية جاءت لتعزز الأزمة المالية العالمية سنة 2008 الناتجة عن الهشاشة المالية للنظام الاقتصادي العالمي، و توقعت منظمة الأونكتاد بسبب هذه الجائحة أنه قد يشهد العالم عجزا في الدخل بقيمة 2 تريليون دولار. و في نفس السياق، شهدت أسواق النفط انخفاض مهول من 70 دولار إلى 33 دولار للبرميل و ارتفاعا كبيرا للأسعار بسبب انخفاض نسق المشتريات التصنيعية في العالم بنسبة 20 بالمائة. فيما سُجل إغلاق المدارس و المقاهي و دور العبادات و الجامعات و المحلات التجارية و الشركات و المطارات و العديد من المرافق الاجتماعية و الاقتصادية و الثقافية و الرياضية الأخرى و فرض الحجر الصحي و السفر بين البلدان و المدن في أكثر من 157 دولة عبر العالم كإجراءات وقائية ضد الفيروس. هذه الآثار و الإجراءات المتخذة من المتوقع أنها سوف تسبب مستقبلا في اتساع رقعة الفقر و البطالة و الفساد و ارتفاع الأسعار و زياد نهب الثروات و انخفاض نسبة الناتج الداخلي للبلدان و تقلص مستوى التجارة الخارجية و تراجع الاستثمارات و إفلاس البنوك. خصوصا في الدول المستضعفة و الفاقدة لسيادتها و الدول التي لا تنهج سياسات إجتماعية في بلدانها. إجراءات من أجل الخروج من الأزمة : ما يثير في هذه الأزمة هو منسوب التضامن العالي. فالأزمة غرست في الناس حس التضامن الوطني و الاجتماعي و الشعور بالانتماء للجماعة عوض سيادة النزعة الفردانية التي ميزت حياتنا اليومية العادية. كما قال الفيلسوف إدغار موران حول ما يجب فعله بعد درس فيروس كورونا : ” لقد تأثرت للغاية لرؤية هؤلاء النساء الإيطاليات، على شرفتهن، يغنين ترنيمة الأخوة هذه، "Fratelli d'Italia" ("إخوة إيطاليا"). و أضاف، يجب أن نستعيد التضامن الوطني، غير المنغلق والأناني، بل المنفتح على المصير المشترك "الأرضي"..قبل ظهور الفيروس، كان لدى البشر من جميع القارات نفس المشاكل: تدهور المحيط الحيوي، انتشار الأسلحة النووية، والاقتصاد غير المنظم الذي يزيد من عدم المساواة … المصير المشترك موجود، ولكن بما أن العقول خائفة، بدلاً من أن تدرك ذلك، فإنها تلجأ إلى الأنانية الوطنية أو الدينية. ” و من أجل الخروج الفعلي من الأزمة من الضروري اعتماد مجموعة من الإجراءات التي يجب أن تكون دائمة و مستمرة لأن هذا الفيروس علمنا أن لا شيء مستقر. فيجب أن تَفرض الشعوب على الحكومات حوار ديمقراطي تُشارك فيه جميع الطبقات، حيث لا مكان للدكتاتورية والاستبداد فيه. و اعتماد كذلك سياسات اجتماعية و ثقافية و علمية تنهي مع أوجه عدم المساواة . و بناء اقتصاديات وطنية تضامنية متحررة من العولمة و من أقطاب الرأسمالية المتوحشة.