في بداية انتشار فيروس كورونا المستجد بمدينة "ووهان" الصينية كتبنا مقالا بعنوان"فيروس "كورونا المستجد" رغم خطورته، لن يؤدي إلى إطاحة النظام السياسيالصيني، و لكم الأسباب.." و حاولت من خلاله تفنيد كثير من الإدعاءات القائلة بأن الوباء "صناعة صينية" و مؤامرة تحاول من خلالها الصين تحقيق مكاسب اقتصادية وسياسية ، وقلنا بأن انتشار الوباء أفقيا و عموديا و امتداده جغرافيا و زمنيا، يضع القيادة الصينية و الحزب الشيوعي الصيني في تحدي صعب للغاية ، فالحزب الشيوعي يدرك جيدا أن السيطرة على شعب تعداده نحو مليار و نصف ليس بالأمر الهين، وأن شرعيته في الحكم خاصة بعد سقوط "عصابة الأربع" مستمدة من الإصلاح و التحديث و تحقيق النمو الاقتصادي و توفير الرفاه للشعب، و الشعب بالمقابل يدرك جيدا أنه يضحي بكثير من الحريات المدنية والسياسية، مقابل تحقيق نهضة البلاد و تجاوز الأثار السلبية لبعض سياسات الماوية و خاصة "القفزة الكبرى للأمام" و "الثورة الثقافية" و التي دفعت بالصينيين إلى حافة المجاعة … صحيح أن النهج الإصلاحي الذي تبنته الصين منذ 1979 قام على مبدأ العلاج بالصدمة لكن مع تبني الأسلوب التدريجي و التجريبي في الإصلاح ، فقد إستغلت الصين الأزمة المالية لعال 1997 لتمرير مجموعة من الاصلاحات التي استهدفت القطاع المصرفي و السياسات المالية والنقدية، كما جعلت من شروط الانضمام لمنظمة التجارة العالمية فرصة لإصلاح المؤسسات المملوكة للدولة، و تأهيلها لمواجهة التحديات الناشئة، و بنفس القدر وظفت الأزمة المالية العالمية لسنة 2008 لتحقيق قدرا من المكاسب الاقتصادية والسياسية، فقد تمكنت من شراء أسهم العديد من العلامات التجارية العابرة للحدود، و غايتها من ذلك التمكن من الحصول على التكنولوجيا المتقدمة، والتوغل إلى قلب الغرب الصناعي و أسراره الصناعية والتكنولوجية… لكن مع استمرار انتشار وباء كورونا بداخل الصين فالوضع مغاير تماما، فحالة الهلع إمتدت للداخل الصيني، و المصالح الصينية التجارية و السياسية تضررت بقدر كبير، خاصة و أن وسائل إعلام دولية و ظفت منذ البداية الوباء لخلق حالة من العداء ضد الصين و الصينين، و قد سجلت العديد من السفارات الصينية حول العالم شكايات و احتجاجات لدى العديد من البلدان الغربية خاصة، و هو مادفع البعض الى الخروج برأي يقول أن مايحدث هو مؤامرة أمريكية لإستهداف الصين و إعاقة تقدمها نحو الصدارة، و هذا الرأي فيه بعض الصواب، فخريطة المرض إلى هذا الحين أكبر مُتضرر منها هم أعداء الولاياتالمتحدة "الصين" و "إيران" بدرجة أولى، و بعض بلدان شرق أسيا ك"ماليزيا" و "كوريا الجنوبية" و "اليابان" و من دون شك، أن هذه البلاد تشكل تهديدا اقتصاديا للولايات المتحدةالأمريكية..أما خارج أسيا فأكبر الإصابات سجلت ب"إيطاليا" و بعض البلدان الأوروبية، و بالرغم من أن هذه البلدان تنتمي إلى العالم الغربي إلا أنه في الحروب لابد من ضحايا..خاصة و أن عنصرية الرئيس "ترامب" و اضحة للعيان، فالرجل يميني متطرف إلى أقصى حد، و مؤيدوه يعلنون عداءهم و رفضهم لكل أشكال الاختلاف العرقي و الديني، و الأروبيين بنظر مؤيدوه أعداء من الناحية الدينية فهم في الغالب "كاثوليك" واعداء من الناحية الاقتصادية و السياسية، فأوروبا تتجه نحو تحقيق استقلالها و ابتعادها عن المظلة الأمريكية.. لكن لا نستطيع الجزم بصلابة هذا الرأي، و بالقدر نفسه لا نملك من الدلائل و المعطيات مايؤهلنا لتأييده أو نفيه، لكن من المؤكد أن الخسائر الاقتصادية و البشرية و الإجتماعية للوباء، أصبحت ترتفع بشكل مهول، وبداخل الصين أصبح القلق يسود بشكل تدريجي لدى أوساط واسعة من الشعب.. و هناك مخاوف من فقد السيطرة على الوباء من قبل السلطات الصينية، التي تسعى إلى الخروج من الأزمة في أقرب وقت، فاستمرار الأزمة بداخل الصين و خارجها يكلف البلاد خسائر اقتصادية فادحة، فمعدل نمو الانتاج الصناعي انخفض بحوالي 39 في المائة، و هو معدل لم يسبق للصين أن سجلته بالرغم من كل الأزمات السابقة،و هذا الانخفاض يدخل البلاد في سلسلة متتالية من الأزمات، و لعل أهمها إفلاس العديد من المؤسسات الصناعية، و بالتالي ارتفاع عدد العاطلين ، و تباطؤ النمو الاقتصادي أصبح أمرا مفروغا منه…و تحليل الأضرار التي تلحق بالصين و باقي البلدان ينظر إليها من زاويتين: أولا- صدمة اكتشاف الوباء: وهي صدمة قصيرة الأجل تتزامن مع إصابة الدولة بوباء للمرة الأولى، و هذه الصدمة يكون لها تأثير مؤقت على مؤشرات التداول بالأسواق المالية و قطاع السفر و السياحة وباقي مؤشرات الأداء الاقتصادي، كما أن التأثيرات الآنية تختلف تبعا لأهمية الانشطة الاقتصادية للبلد ، فالاقتصاديات القائمة على الخدمات تتأثر بشكل أكبر من الاقتصاديات القائمة على الصناعة و الزراعة.. وخسائر الصين الاقتصادية على المدى القصير كبيرة ، وشكلت صدمة جديدة للاقتصاد الصيني الذي تأثر سلبا من الحرب التجارية مع الولاياتالمتحدة، كما تضررت المدن التجارية الرئيسية مثل هونج كونج التي يعاني اقتصادها من شهور من الاحتجاجات العنيفة ضد الحكومة، و مما يزيد من تعقد الوضع الاقتصادي ارتفاع حجم الانفاق العمومي على الوقاية والرعاية الصحية، بجانب أن الدولة فرضت الحجر الصحي على المدن الرئيسية المصابة بما يعطل حركة التجارة فيها ويوقف الأنشطة الاستثمارية، كما قامت بتمديد العطل، وفرض حالة الطوارئ في المدن التجارية الكبرى للحد من تجمع الناس في الأماكن العامة بما يتسبب في توقف العمل والإنتاج…و كل ذلك يكلف البلاد خسائر اقتصادية و تجارية و مالية فادحة…و هو الامر الذي سيقود الى تراجع حاد في الناتج المحلي في الصين والدخل القومي، وهو كا سيكون له تأثير سلبي على مكانة الصين الاقتصادية و سيدفعها إلى الانكماش و مواجهة الازمات الداخلية بدلا من التوسع خارجيا، ووقف مشروعها الضخم الطريق و الحزام ، الذي يشكل تهديدا حقيقيا للهيمنة الأمريكية على مفاصل العالم.. ثانيا- على المدى الطويل: استمرار تفشي الوباء الصين يمكن أن يسبب أزمة اقتصادية لشرق آسيا بأكملها، ويتسبب الفيروس أيضًا في خسائر عالمية ، فقد تسبب تفشي الوباء في خسائر اقتصادية عالمية قدرت إلى حدود الساعة بنحو 50 مليار دولار، وبلغت خسارة الصين لوحدها أزيد من 20 مليار دولار خلال الأيام القليلة الماضية …خاصة و أن فترة حضانة المصاب لفيروس كورونا المستجد أكبر بكثير من باقي الفيروسات الأخرى حيث تبلغ حوالي 10 أيام، و هو ما قد يؤدي إلى ركود اقتصادي يضغط على تمويل الصحة العامة مما يزيد من إضعاف قدرة العالم على منع أو احتواء تفشي الفيروس بعد ذلك. كما أن انتشار الوباء وسياسات التصدي له، قد تؤدي إلى عواقب اجتماعية خطيرة، خاصة بالنسبة للأفراد المهمشين في المجتمع، فقرار فرض الحجر الصحي لمنع انتشار الفيروس الذي أقرته الحكومة الصينية، ولد حالة من القلق لدى العديد من المواطنين و خاصة في مناطق تواجد الأقليات العرقية و الإثنية التي لا تنتمي لقومية "الهان"، إذ أن هناك مخاوف من أن يساء استخدام آلية الحجر الصحي و استخدامه كفاصل اجتماعي وعرقي، وليس كفاصل صحي…كما قد يتسبب في تصاعد التوتر في المجتمع بسبب نقص المعلومات الرسمية حول الوضع الوبائي وغياب علاج له، لأن هذا يؤدي إلى انتشار شائعات حوله بما يفاقم انتشار الذعر الاجتماعي…و هو ما تم تسجيله في الصين وفي معظم البلدان العربية التي لا تحظى أنظمتها الحاكمة بشرعية ومصداقية لدى الناس.. لذلك، فإن القادم من الأيام يحمل الكثير من الأزمات و الأخبار السيئة ، لكن بالرغم من سوء الأخبار و ارتفاع الخسائر الاقتصادية والاجتماعية، إلا أننا نعتقد أن هذه الأزمات تتجه نحو خلق وعي جمعي بأن الاستمرار في ظل النظم السياسية والاقتصادية و الثقافية الراهنة يقود العالم إلى متتالية من الأزمات ، و أن التغيير أصبح ضرورة حتمية لاستمرار الجنس البشري على هذا الكوكب، و ضرورة التحرك في الغرب و الشرق لمواجهة كل الجهود المبذولة لنهب ثروات أغلبية الناس بإسم الأزمات الاقتصادية أحيانا و الأوبئة أحيانا أخرى..و بنظرنا، العودة إلى الاعتدال و الوسطية بدلا من التطرف و الشذوذ عن الفطرة في كل شيء، و الخضوع لسلطان الحق بدلا من إتباع الهوى، و العودة للمنهج الرباني بدلا من العبث الانساني، هو طوق النجاة للجميع..و الله غالب على أمره و لكن أكثر الناس لايعلمون.. أكاديمي متخصص في الاقتصاد الصيني و الشرق آسيوي، أستاذ العلوم السياسية و السياسات العامة..