محمد إنفي لن نزايد على أحد ولن نقبل أن يزايد علينا أحد، سواء في مسألة الوطنية أو في مسألة الهوية المغربية أو في الغيرة على المصالح الوطنية والحرص على ثوابت الأمة. كما لن نقبل أن يستغفلنا أحد ويخدعنا باسم هذه المبادئ الكبرى. هناك بديهية مسلمة لا تحتاج إلى برهنة أو ترافع: ليس هناك بلد، في العالم، تقدم دون أن يكون تعليمه جيدا. بالمقابل، ليس هناك بلد متخلف، وتعليمه جيد. فالتعليم الجيد، إذن، هو الوسيلة الوحيدة لتقدم الأمم. وليكون التعليم المغربي جيدا، يجب، من جهة، أن يكون متاحا لكل أطفال المغرب في سن التمدرس؛ ومن جهة أخرى، يجب أن يضمن تساوي الفرص بين جميع المتعلمين من أبناء المغاربة. ثم إن جودة التعليم تتطلب التكوين الرصين والتكوين المستمر للمدرسين، مع تحسين أوضاعهم المادية والاجتماعية ووضعهم الاعتباري. فالمدرسون هم الذين يكونون لنا المهندس والطبيب والقاضي والمحامي والتقني ورجل الإدارة والأستاذ لجميع أسلاك التعليم وغير ذلك من الأطر واليد العاملة المتخصصة التي تقوم عليها مؤسسات الدولة والمجتمع. وما لم ينظر المسؤولون إلى التعليم على أنه قطاع منتج للثروة، وليس مستهلكا فقط، فلن تقوم قائمة لتعليمنا. فالاستثمار في التعليم، هو استثمار في العنصر البشري؛ أي استثمار في المستقبل؛ وبالتالي، فإن الإنفاق على التعليم، مهما كانت كلفته، فليس أبدا إهدارا للمال العام، بل استثمارا من أجل المستقبل، شريطة أن يتم احترام مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة وأن يكون للتعليم مكانته الخاصة، الأساسية والضرورية، في المشروع التنموي. وقبل أن نتحدث عن الجدل الدائر حول لغات تدريس المواد العلمية، نُذكِّر بأن وزارة التعليم أقدمت، في السبعينيات من القرن الماضي، على تعريب كل المواد التي كانت تدرس بالفرنسية (المواد العلمية والاجتماعيات والفلسفة) في عهد عز الدين العراقي؛ وذلك بمباركة من رئيس الدولة ولأهداف سياسية صرفة (انظر مقالنا بعنوان “الحسابات الضيقة لأصحب القرار كلفتها ثقيلة على المستقبل”، “تطوان بلوس” بتاريخ 8 أبريل 2019). لسنا في حاجة إلى بحث ميداني ولا إلى مكتب دراسات ولا إلى لجان موضوعاتية لتقييم نتائج قرار تعريب التعليم الثانوي وآثاره، من جهة، على مستوى تلامذتنا؛ ومن جهة أخرى، على تعليمنا العالي الذي احتفظ باللغة الفرنسة في تدريس المواد العلمية والتقنية في الكليات والمعاهد العليا. هناك شبه إجماع بأن اللغة العربية لم تستفد من التعريب؛ بل، بالعكس، فقد تدنى مستوى التلاميذ في اللغة العربية. وهذا أمر يؤكده الواقع يوميا، ولن يستطيع أحد أن يثبت العكس. والأدهى والأمر أن المستوى العام لتلامذتنا قد تقهقر تقهقرا بليغا، وأصبحنا أمام أجيال لا هي متعلمة تعليما جيدا ولا هي جاهلة كليا. وهكذا تحقق ما تنبأ به أب السوسيولوجا المغربية، القيادي الاتحادي البارز والمتميز، المرحوم محمد جسوس، حين صدح بقوله إنهم يعملون على تجهيل أبناء الشعب المغربي؛ وذلك في عرض ألقاه خلال المؤتمر الوطني الرابع للطلبة الاتحاديين بفاس في مطلع الثمانينيات من القرن الماضي. بالمقابل، أبناء الذين فرضوا التعريب على أبناء الشعب المغربي أو الذين وافقوهم على هذا القرار أو ساندوهم في خطتهم التجهيلية، درَّسوا أبناءهم في البعثات الأجنبية، ثم بعثوهم إلى الخارج لإتمام دراستهم الجامعية. وهكذا، ضمنوا لأبنائهم التعليم الجديد ولأبناء الشعب المغربي التعليم الرديء. واليوم، وبمناسبة مناقشة قانون الإطار الخاص بالتعليم في البرلمان، خاصة في النقطة المتعلقة بلغة تدريس المواد العلمية، طفا إلى السطح خطاب إيديولوجي مقيت، مضلل ومخادع، يتستر وراء الهوية ورسمية اللغة العربية وغيرهما من الذرائع التي لا تقنع حتى أصحابها؛ وإلا لكانوا درَّسوا أو يُدرِّسون أبناءهم في المدارس العمومية مع أبناء الشعب. فهم بموقفهم هذا، يزكون الجريمة النكراء التي اقترفها عز الدين العراقي ومساندوه في حق أبناء الشعب المغربي. وللرد على تضليل ومغالطات الخطاب الهوياتي، نقول بأن الهوية الوحيدة الثابتة، هي الهوية المغربية التي تتميز بتنوع وغنى وتعدد مكوناتها. واللغة ليست إلا مكونا من هذه المكونات. فدستور 2011 يؤكد، في تصديره، بأن مقومات الهوية المغربية “موحدة بانصهار كل مكوناتها العربية، الإسلامية الأمازيغية، والصحراوية الحسانية والغنية بروافدها الإفريقية والأندلسية والعبرية والمتوسطية”. أما رسمية اللغة العربية، فلن ينال منها تدريس المواد العلمية بلغة أجنبية. ولمن يرى غير هذا، فعليه أن يستحضر بأن هناك لغة رسمية ثانية؛ هي اللغة الأمازيغية، ولها، دستوريا ونظريا، نفس الحقوق التي للعربية. أما واقعيا، فهذا شيء آخر. والمثير للاستغراب في هذه النقطة بالذات (لغة تدريس المواد العلمية)، هو موقف حزب العدالة والتنمية الذي تنكر للتوافق الذي حصل على مستوى قيادات الأغلبية وعلى مستوى مكتب مجلس النواب. والخطير في الأمر، هو أن هذا الانقلاب كان بسبب موقف حركة التوحيد والإصلاح، الرافض لتدريس المواد العلمية بلغة أجنبية؛ مما يؤكد أن هذه الحركة ليست حركة دعوية، وإنما هي حركة سياسية؛ وهي التي تتحكم في حزب العدالة والتنمية، وليس العكس. والأخطر من هذا كله، فهي تريد، دون أن تقيم أي وزن أو اعتبار للأطراف السياسية الأخرى، أن تتحكم في مصير الأجيال القادمة؛ وبالتالي، في مصير البلاد. وإذا أضفنا إلى هذا كله الخروج الإعلامي، حول هذه النقطة (لغة تدريس المواد العلمية) لذي المعاشين الأبرع في الكذب والخداع والنفاق السياسي، ندرك الخطر الذي يتهدد بلادنا. فموقف تجار الدين من لغة تدريس المواد العلمية، هدفه دغدغة العواطف واستغفال السذج وخداع الناس بشيء اسمه “قدسية اللغة العربية”، لغة القرآن الكريم، وغير ذلك من الخدع التي لن تنطلي إلا على من سلَّم عقله لهؤلاء فعطَّلوه. والهدف من كل هذا، ليس لا حماية اللغة العربية ولا الدفاع عن الهوية الدينية، وإنما هو ضمان الأصوات الانتخابية لضمان مصالحهم الشخصية. فشتان بين من يفكر في الأصوات الانتخابية ويبني مواقفه على ذلك وبين من يفكر في مستقبل الأجيال القادمة وبالتالي، في مستقبل البلاد، فيبني موقفه وخطابه على الواقعية وعلى المصلحة العامة والمصلحة العليا للوطن!!!