دينامية السياسة الخارجية الأمريكية: في نقض الإسقاط والتماثل    التفاصيل الكاملة حول شروط المغرب لإعادة علاقاته مع إيران    أنشيلوتي يدافع عن مبابي.. "التكهن بشأن صحته الذهنية أمر بشع"    المغرب التطواني بطلا لديربي الشمال رغم تغييب جمهوره    وسط حضور بارز..مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة تخلد الذكرى الستين لتشييد المسجد الكبير بالعاصمة السنغالية داكار    المتقاعدون يدعون للاحتجاج ضد تردي أوضاعهم ويطالبون برفع التهميش    الجزائر تعتقل كاتبا إثر تصريحاته التي اتهم فيها الاستعمار الفرنسي باقتطاع أراض مغربية لصالح الجزائر    الأخضر يوشح تداولات بورصة الدار البيضاء    قمة "Sumit Showcase Morocco" لتشجيع الاستثمار وتسريع وتيرة نمو القطاع السياحي    مكتب "بنخضرة" يتوقع إنشاء السلطة العليا لمشروع أنبوب الغاز نيجيريا- المغرب في سنة 2025    الشراكة الاستراتيجية بين الصين والمغرب: تعزيز التعاون من أجل مستقبل مشترك    انتخاب لطيفة الجبابدي نائبة لرئيسة شبكة نساء إفريقيات من أجل العدالة الانتقالية    كرة القدم النسوية.. توجيه الدعوة ل 27 لاعبة استعدادا لوديتي بوتسوانا ومالي        اغتصاب جماعي واحتجاز محامية فرنسية.. يثير الجدل في المغرب    الحسيمة تستعد لإطلاق أول وحدة لتحويل القنب الهندي القانوني    هتك عرض فتاة قاصر يجر عشرينيا للاعتقال نواحي الناظور    استغلال النفوذ يجر شرطيا إلى التحقيق    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الأحد    "مرتفع جوي بكتل هواء جافة نحو المغرب" يرفع درجات الحرارة الموسمية    نمو صادرات الصناعة التقليدية المغربية    حفل يكرم الفنان الراحل حسن ميكري    انخفاض مفرغات الصيد البحري بميناء الناظور    موتسيبي "فخور للغاية" بدور المغرب في تطور كرة القدم بإفريقيا    معهد التكنولوجيا التطبيقية المسيرة بالجديدة يحتفل ذكرى المسيرة الخضراء وعيد الاستقلال    المعرض الدولي للبناء بالجديدة.. دعوة إلى التوفيق بين الاستدامة البيئية والمتطلبات الاقتصادية في إنتاج مواد البناء    اعتقال الكاتب بوعلام صنصال من طرف النظام العسكري الجزائري.. لا مكان لحرية التعبير في العالم الآخر    بوعشرين: أصحاب "كلنا إسرائيليون" مطالبون بالتبرؤ من نتنياهو والاعتذار للمغاربة    بعد متابعة واعتقال بعض رواد التفاهة في مواقع التواصل الاجتماعي.. ترحيب كبير بهذه الخطوة (فيديو)    محمد خيي يتوج بجائزة أحسن ممثل في مهرجان القاهرة    الطيب حمضي: الأنفلونزا الموسمية ليست مرضا مرعبا إلا أن الإصابة بها قد تكون خطيرة للغاية    اختفاء غامض لشاب بلجيكي في المغرب    مثير.. نائبة رئيس الفلبين تهدد علنا بقتل الرئيس وزوجته    ترامب يعين سكوت بيسنت وزيرا للخزانة في إدارته المقبلة        19 قتيلا في غارات وعمليات قصف إسرائيلية فجر السبت على قطاع غزة    فعالية فكرية بطنجة تسلط الضوء على كتاب يرصد مسارات الملكية بالمغرب    الوزير برّادة يراجع منهجية ومعايير اختيار مؤسسات الريادة ال2500 في الابتدائي والإعدادي لسنة 2025    ضربة عنيفة في ضاحية بيروت الجنوبية    "السردية التاريخية الوطنية" توضع على طاولة تشريح أكاديميّين مغاربة    "كوب29" يمدد جلسات المفاوضات    عندما تتطاول الظلال على الأهرام: عبث تنظيم الصحافة الرياضية    كيوسك السبت | تقرير يكشف تعرض 4535 امرأة للعنف خلال سنة واحدة فقط        كندا تؤكد رصد أول إصابة بالسلالة الفرعية 1 من جدري القردة    بنسعيد: المسرح قلب الثقافة النابض وأداة دبلوماسية لتصدير الثقافة المغربية    موكوينا: سيطرنا على "مباراة الديربي"    مهرجان "أجيال" بالدوحة يقرب الجمهور من أجواء أفلام "صنع في المغرب"    افتتاح أول مصنع لمجموعة MP Industry في طنجة المتوسط    مندوبية التخطيط :انخفاض الاسعار بالحسيمة خلال شهر اكتوبر الماضي    طبيب ينبه المغاربة لمخاطر الأنفلونزا الموسمية ويؤكد على أهمية التلقيح    الأنفلونزا الموسمية: خطورتها وسبل الوقاية في ضوء توجيهات د. الطيب حمضي    لَنْ أقْتَلِعَ حُنْجُرَتِي وَلَوْ لِلْغِناءْ !    تناول الوجبات الثقيلة بعد الساعة الخامسة مساء له تأثيرات سلبية على الصحة (دراسة)    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الحركة المدنية في الصحراء
نشر في لكم يوم 31 - 03 - 2011

الصِرَاعُ التَّقْلِيدِي المتجدِّد مَعَ السُّلْطَةِ السِّيَاسِية
يَتَّخِذُ المجتمع المدني بالصحراء، من زاويةٍ أنتروبولوجية ثقافية، أشكالاً متعدِّدة تتمثَّل في العديد من التنظيمات الأهلية (لَحْمِية، قرابية، قَبَلية..) التي تقتضيها ظروف ونمط العيش لدى بدو ورحل الصحراء، وذلك انطلاقاً من خلق مؤسسات قضائية عُرفية وتقليدية (إيتْ لَرْبْعِينْ مثلاً) لتنظيم وتخليق الحياة العامة والمحافظة على توازنها واستمراريتها عبر تسوية الأمور المجتمعية المتَّصلة بالنزاعات والصراعات حول الأملاك الخاصة والمشتركة، والبثِّ في قضايا الاعتداء والتظلُّم والنهب، والنظر في شؤون العلاقات الزوجية وفكِّها وحالات التعرُّض للسرقة والضرب وممارسة العنف بأنواعه المادية والرمزية..إلخ. أضف إلى ذلك، التحالفات والتكتلات السكانية ذات الأبعاد التعاضدية والتآزرية، لاسيما عند وقوع حالات الموت والمرض والشعور بالتهديد والأخطار، أو المشاركة في تدبير الأفراح والاحتفاليات الدينية والفلاحية والاجتماعية (تارزيفت، لمنيحة..)..
ورغم أن المجتمع المدني مفهوم حديث لم ينتعش كثيراً سوى مع بروز مفهوم الدولة الحديثة، دولة المؤسسات، فإن مظاهره كانت متجلِّية في فكر وحياة إنسان الصحراء منذ بواكيره الأولى وبداية نشأته بالرغم من خِصِّيصَةِ التِّرحال والتنقل الدائم التي تَسِمُ ثقافته وسلوكه ونمط عيشه..
غير أن المجتمع المدني بالصحراء أضحى يمثل في الوقت الراهن شيئاً آخر (مختلف) لا يتلاءم مع الدور الفعلي والحقيقي المنوط به بسبب خضوعه لمتخيَّل سياسي ضيّق يقوم بالدرجة الأولى على استعمال مختلف الوسائل المُمَسْرَحَة Théâtralisés لفرض السلطة والحفاظ على وجودها بالقوة. هذا النوع من السياسة يكون هدفه الأساس هو خلق أبطال وهميين، من ورق، للعب أدوار مؤقتة سرعان ما تنتهي بتحقيق الأهداف المنشودة. لذلك، تصِحُّ الفرضية القائلة بكون "السلطة القائمة على القوة وحدها، أو العنف المدجَّن، قد يكون وجودها مهدَّداً دوماً، والسلطة الواقعة فقط تحت أنوار العقل قد يكون لها القليل من المصداقية، إنها لن تتوصل إلى الحفاظ على نفسها لا بواسطة الهيمنة الشرسة ولا بواسطة التبرير العقلي. إنها لن تكون ولن تقوم وتستمر إلاَّ بواسطة تبديل موضعها، بواسطة إنتاج صور، بواسطة استخدام رموز وتنظيمها ضمن إطار احتفالي"، كما يقول جورج بالانديه G. Balandier في مؤلفه: "القدرة على التمثيل"(1).
من ثم، صار المجتمع المدني بالصحراء يشبه قميص عثمان تستغله السلطة كيفما ووقتما تشاء وتوجِّهه بعض النخب التقليدية المحسوبة على السياسة وفق مقاساتها وأمزجتها الخاصة. وحصيلة ذلك أنَّ الحركة المدنية بالصحراء لا تزال بحاجة ماسة إلى إنضاج حقيقي، والكثير منها فرَّخها الصراع السياسي الضيِّق وتنافس المصالح المالية والاقتصادية بالمنطقة.
إزاء ذلك، تحاول السلطة السياسية استغلال ضعف المؤسسات المدنية وذلك بممارسة كل أشكال الاحتواء والاختراق والاستبداد الذي يسمِّيه ميشيل فوكو Foucault M. بالتواجد المستمر للسلطة داخل شبكة العلاقات الاجتماعية، وهو صراع تقليدي حول (الزَّعامة) بين سلطة السياسة وسلطة المجتمع..
ووفقا لكارل ماركس الذي اعتبر تاريخ البشرية تاريخاً للصراع الطبقي، فإنه توجد بالمجتمع طبقتان رئيسيتان تتصارعان، هما: طبقة البورجوازيين (أصحاب رؤوس الأموال والأعمال) وطبقة البروليتاريا المكوَّنة من العمال والمستخدمين. فالبورجوازية ظهرت كقوة ثورية ضد الإقطاع وتمكنَّت بالتالي من بسط نفوذها داخل المجتمع، لكن مع مرور الوقت، استمرت البورجوازية وتركَّز هدفُها فقط على تحقيق الأرباح على حساب جهود وسواعد العمال، لكن طبقة الكادحين تصدَّت لها وثارت ضدها خالقة بذلك ديكتاتورية جديدة، هي ديكتاتورية البروليتاريا التي مهَّدت لظهور ما بات يُعْرَفُ بالمجتمع الطبقي.
ما قاله ماركس يُشَخِّصُ بجلاء الوضع المجتمعي في الصحراء الذي يمثل مجالاً للهيمنة والنفوذ والتمايز الاجتماعي والتراتب الطبقي الذي يُعَدُّ منبع كل المآزق والهزائم التي أدَّت إلى وجود طبقات إقطاعية سائدة Dominantes مقابل فئات مجتمعية مهمَّشة ومسحوقة. من ثم، أمسى سؤال النخب السياسية والطبقات الحاكمة بالصحراء موضوعاً مُلِحّاً ظل، ولا يزال، يشتغل طويلاً داخل المسكوت عنه واللاَّمُفَكَّرِ فيه Impensable، باعتبار أنه ارتبط كثيراً بالسلطة واحتكار آلياتها. فهيمنة هذه النخب والطبقات بالشكل الذي نَظَّرَت له الميكيافيلية الجديدة بقيادة ميشلز وأورس ياجي والباحث الأمريكي رايت ميلز، ساهم كثيراً في تقسيم المجتمع بالصحراء إلى نخبة قليلة العدد تمارس السلطة والحكم وجماهير غفيرة محكورة ومغلوبة على أمرها.
يلحُّ أغلب الميكيافيليين الجدد على كون النخبة السياسية تضم مجموعة من الأشخاص الحقيقيين والذين يدركون تماماً مواقعهم ومصالحهم الخاصة ويعملون جاهدين من أجل استمرارها والحفاظ عليها، مما يجعل منهم مجموعة ملتحمة ومنسجمة تملك وعياً واضحاً بذلك. وبالمقابل، فإنهم يؤكدون بأن الجماهير المحكومة تتسم في غالب الأحيان بغياب الاجتهادات الفردية وبالسلبية التامة، الأمر الذي يسهل عمل النخبة الحاكمة. وهذا ما عبَّّر عنه رايت ميلز بوضوح حين ربط ظهور النخبة الحاكمة بوجود مجتمع جماهيري سلبي وغير متميِّز (2).
فالمجتمع الجماهيري بالصحراء لا يزال في عموميته تابعاً ومجرَّد هلوسة مدَّعية. إنه بحاجة إلى التأهيل الثقافي الذي يُعَدُّ أساسَ المجتمعات المدنية الحديثة وخطَّ دفاعها الأخير، وأيضاً إلى تطوير آليات التحصين والمقاومة، خصوصاً إذا علمنا أن السلطة السياسية تسعى باستمرار إلى تنمية أدوات السيطرة والإكراه والاستعباد. ومن البَدَهي القول أن مؤسسات المجتمع المدني تُعَدُّ أهم أركان رشاد الحكم. وإذا ما تمَّ تفعيلها حقيقة يمكن لها أن تسهم في التسريع من عجلة التنمية، وعلى الخصوص إذا كانت مؤسسات المجتمع المدني متحرِّرة من تَسَلُّطِ الدولة وهيمنتها، وتتحوَّل بالتالي إلى نِدٍّ للدولة وتأخذ دورها في مساءلة ومحاسبة المقصِّرين والمهمِلين من الموظفين والمسؤولين الحكوميين(3).
إن المجتمع المدني بالصحراء إذا توفرت له شروط الإمكان Conditions de possibilité سيكون قادراً -ولو نسبيا- على فرض حضوره عبر العمل الدؤوب ومن خلال رسم خُطَطٍ ووضع استراتيجيات تنموية هادفة تجسِّد تطلعات الناس وتعبِّر بالفعل عن طموحاتهم وآمالهم لتحسين مستواهم المعيشي..ومؤسسات السلطة هي من يلزمه دعم هذه الاستراتيجيات بإشراك الفاعلين ومكوِّنات المجتمع المدني. وبالطبع، إذا ما كان للسلطة قيادات نزيهة فإن البرامج والمشاريع التنموية تجد طريقها نحو الفعل والتحقق..والعكس لن يكون إلاَّ صحيحاً.
ولا شك أن صيرورة الحكم ورشاده يعكسان مستوى العلاقة بين السلطة والمجتمع، أي بين الحاكم والمحكوم. وقد تحدَّث مونتيسكيو وجون لوك عن ذلك منذ مائتي عام ونيف. فرشاد الحكم ليس بديلاً عن الديموقراطية، لكن الحكم الرشيد يمكن أن يكون ديموقراطياً أو تسلُّطياً. فالطابع الاجتماعي-الطبقي للسلطة، هو الذي يحدِّد مساحة شرعيتها، إذ أن جوهر السلطة لا ينفصل عن النظام السياسي الذي تمارس السلطة من خلاله مهامها الاقتصادية والسياسية.
إن السلطة الرشيدة هي التي تعكس مصالح الشرائح العريضة من المجتمع وتتبنَّى الديموقراطية بالمعنى العريض للكلمة. وإذا ما توافر هذان الشرطان، فإن الجهاز المؤسَّسي للسلطة يكون أكثر حصانة في مقاومة عناصر الفساد، علماً بأن الدولة الرشيدة لا تخلو من الفساد، بيد أنه يتحوَّل إلى ظاهرة، بل يبقى محصوراً في ممارسات فردية محدودة يمكن بسهولة الحدّ منه ومكافحته عبر تطبيق العقوبات الزاجرة(4). ولا شك أيضاً، أن الحياة المجتمعية تخضع، في حدود ما، إلى نظام ما، أو تماسك ما، أو ثبات مُعَيَّن. فإذا لم تكن هذه العوامل موجودة، لا يعود أحد يقوى على العيش بصورة عادية حتى ولا أن تُلَبَّي أبسط حاجاته(5).
تأسيساً على ذلك، تحتاج الصحراء إلى مجتمع مدني قوي، فاعل ومؤسَّس على قواعد صلدة ومُوعَى بها Conscientisées تَمْتَحُ دعائمها من ترقي المجتمع وتَسَلُّحِه بالوعي والعلم والثقافة والتعليم..وغير ذلك من الشروط الأساسية التي تُمَكِّنُ من إلجام السلطة التي تحاول تجاوز الحدود، ومراقبة أداء المؤسسات المنتخبة وفضح المفسدين بها والتَّصدي لمخططي براثن الفساد والبغاء السياسي وقطع دابر الاستبداد والاضطهادات Persécutions..
تحتاج الحياة المدنية بالصحراء، كذلك، إلى توسيع مناخ الحرية والتعبير والمساواة الفعلية Egalité de faite..فلا حرية بلا مساواة..ولا مساواة بلا حرية(6)، وتحتاج أيضاً إلى من ينزع أوتاد الظلم والهوان والترعيب والتخويف والتضييق عبر المساءلة وتطبيق قانون "من أين لك هذا" الذي هو آلية ضرورية لمكافحة الفساد، رغم أنه كثيراً ما يصطدم بمشكلة احتكار القوة من جانب من يستحوذون على السلطة السياسية وينفردون بها، أو من جانب أولئك الذين يتحصَّنون بأموالهم في ظل ضعف مؤسسات المجتمع المدني وعدم فاعليتها، فضلاً عن غياب قوى الضغط في المجتمعات النامية التي من شأنها إذا وجدت أن تكافح السلبيات(7).
فضلاً عن ذلك، لا بُدَّ من تأهيل العنصر البشري وتربيته على القيم الأساسية للسلوك المدني، وهي عموماً:
- التسامح: حرية التعبير، حرية المعتقد، حرية الاختلاف، المساواة، الاحترام المتبادل..
- الكرامة الإنسانية: حرِّيات وحقوق مدنية وسياسية وثقافية واجتماعية وتنموية واقتصادية متنوعة.
- المواطنة، خصوصاً في علاقتها بالمشاركة الفعلية في تدبير الشأن المحلي والاستفادة من ثروات المنطقة وخيراتها والتصدِّي لكل من ينهبها.
فهذه القيم، وأخرى، لا يمكن إشاعتها وترسيخها سوى عبر المكوِّنات الأساسية للمجتمع المدني، وهي: الأسرة والقبيلة والعشيرة والتنظيمات الأهلية الأخرى المماثلة، والجمعيات والمؤسسات الإعلامية المحكومة بقواعد مهنية والنقابات والمراكز التأهيلية والخيرية والاتحادات النسائية والنوادي التربوية ودُورُ الرِّعاية والتنشئة الاجتماعية..وغيرها. ونستثني طبعاً في هذا الأحزاب السياسية لأنها مؤسسات صورية فاشلة يتمثل وجودها فقط في التملُّق للسلطة ومغازلتها للوصول إليها. فهي لا تُعتبر مكوِّناً من مكوِّنات المجتمع المدني وبعيدة عن هموم وانشغالات الناس ولا تعبِّر في أي شيء عن مشاكلهم وحاجياتهم. إنها باختصار تندرج ضمن المجتمع السياسي البراغماتي بالمفهوم السلبي للعبارة.
إن كل هذه المكوِّنات والتنظيمات المدنية تعيش في صراع دائم ومتجدِّد مع المجتمع السياسي داخل نظام مركَّب من الارتباط والتفاعل والتشابك. فهذا الرابط يُعَدُّ حلقة وصل أساسية بين المدني والسياسي، ولكي يؤدي دوره كاملاً وعلى نحو فاعل وناجح، يلزمه أن يكون مبنياً على قاعدة الديموقراطية الشَّرعية الاجتماعية والقانونية والإنجازية ليغدو المعبِّر الحقيقي عن الإرادة الاجتماعية والطموح التنموي المنشود.
ولا ريب في أن قيام نظام الارتباط والتفاعل بين النظام السياسي والمجتمع المدني على قاعدة الديموقراطية والحكامة الجيدة يحرم النظام من شرعيته الاجتماعية، على أقل تقدير، بفعل قطيعته مع مجتمعه، خصوصاً وأن غالبية الأنظمة من هذا النوع تنطلق من الافتراض بأن من ليس معها فهو ضدُّها ملغية بذلك كل تعدُّد وتنوُّع في الآراء والإرادات لما تجده في ذلك من خطر يتهدَّد وجودها واستمرارها(8). بسبب ذلك، يصير النظام السياسي وأدوار مؤسساته كياناً دخيلاً على مجتمعه ولا يعكس إرادته ومصالحه، لأن غياب الديموقراطية، أو قصورها، يُعَطِّل هذه العلاقة ويشلها ويضفي عليها طابعاً سلبياً كثيراً ما يزيد من احتمالات وقوع المواجهة والصدام بين المجتمع المدني والمجتمع السياسي (السلطة).
يَعِيشُ المجتمع المدني بالصحراء حالةً ملتبسة ووضعية متشظية، لذلك فهو بحاجة إلى تقويم وترميم حقيقيين للعب الأدوار التنموية المنوطة به. فهو أيضاً بحاجة إلى تمكينه من خلق أُطُرِهِ وإنشاء بنياته وهياكله وجعله قوياً وقادراً على التصدِّي لكل محاولة تروم إخضاعه وتفتيته وتمزيقه. ولأنه لا يزال بحاجة إلى ذلك، فإن المجتمع المدني بالصحراء سيظل يَعِيشُ التردُّد والخوف الذي انغرس في وجدان الناس نتيجة لتراكم النواهي والوصايات..ويَعِيشُ محنة دائمة مع محاربة الجشع والاختلاس والاحتكار واستعمال الهيمنة Hégémonie واستغلال النفوذ والمواقع وكل ما يندرج داخل خانة البيروقراطية الفاشلة.
تتخذ مِحَنُ ومآسي المجتمع المدني بالصحراء صوراً وأشكالاً متعدِّدة، منها:
- رجال المخزن الذي امتهنوا سماسرة الانتخابات لعقود..
- اعتبار المسؤولية لدى كثيرين بالصحراء امتيازاً، وهذا سبب رئيس ساهم كثيراً وطويلاً في تقوية مواقع المسؤولين وأعوانهم ومَنْحِهم إمكانية تحصين المكتسبات التي تمنحها لهم السلطة، والتي يتم بواسطتها امتلاك آليات "تدبير" الصراعات الدائرة على المستوى المحلي بشكل يسمح لهم بالحصول على موارد الهيمنة والسيطرة والاستحواذ (اقتصاد الريع مثلاً)..
- سلوكات العديد من المسؤولين الذين تعاقبوا على الجهازين السلطوي والإداري الذين حوَّلوا المنطقة الصحراوية إلى مرتع للفساد والرشوة والمحسوبية والشَّطَطِ في استعمال السلطة.
- الرِّهان على انتقاءات قَبَلِية -وليس كِفَائية Compétencielles- دون أخرى وبشكل عُنصري (من العُنصرية)، الأمر الذي يُلقي بِرَاهِنِ المنطقة إلى دائرة البؤس والخراب والتطاحن.
- الصراع المتجدِّد مع مهندسي التزوير وخصوم الديموقراطية الذين يحترفون إنتاج خطابات واهية عبثية تلهث باستمرار نحو بلوغ السلطة وممارستها.
والحال أنَّه -وفي ظل العديد من التذبذبات التي يشهدها الإقليم الصحراوي على أكثر من صعيد- يصعب في الصحراء الحديث في الوقت الراهن عن حركة مدنية متوازنة قادرة بالفعل على تسيير الشأن المحلي وتدبيره والتعبير عن القضايا المجتمعية الأولى بشكل حر ومستقل وفاعل يُعَبِّرُ بالملموس عن رهانات ومطالب الساكنة، وذلك بالنظر إلى مجموعة من المعيقات، من بينها:
- الشَّطط في استعمال السلطة الاقتصادية والمالية من طرف أجهزة الدولة ومقاولاتها وقمع الحريات وتعميق الجروح التاريخية التي لا تُنسى..
- الكثير من مكوِّنات المجتمع المدني فَرَّخَهَا الصراعُ السياسي الضيِّق وتنافسُ المصالح المادية والمعنوية بالإقليم، والكثير منها لا يرتبط طبيعياً بالتحوُّلات السوسيوثقافية والسياسية التي يشهدها المجتمع الصحراوي..
- جل المجتمعات والتنظيمات المدنية بالصحراء عاجزة ومعاقة، وكثير منها تحوَّل إلى أدوات ووسائل لتبرير سياسات مَشْلُولَة وبرامج حكومية خاوية بعيدة كل البُعد عن مآل الناس ولا تعبِّر في أي شيء عن واقعهم وحاجياتهم الأساسية.
- استغلال ضعف المجتمع (وغيابه) وفقره الثقافي من طرف أجهزة الدولة، واعتبار ذلك تُرْبَةً خِصبة تمارس فيها وعليها استبدادها السياسي (أو الهيمنة بالتعبير الغرامشي).
ولكي تتطوَّر تجربة المجتمع المدني بالصحراء وتتقوى وتترجم الأهداف التنموية المتوخاة منها، ينبغي أن تتوفر مجموعة من الشروط، من بينها:
- القضاء على كل أشكال الإعاقة التي تسم السلوك السياسي والإداري للكثير من المسؤولين بالصحراء ونشر العدالة الديموقراطية من أسفل الهرم..
- الانخراط في النشاط المدني بمطلق الإرادة دون السعي لجني مقابل مادي أو معنوي..
- اعتبار المجتمع المدني دينامية ثقافية واجتماعية وسياسية ينبغي بلورتها في سياق تحقيق شرطين أساسيين هما: حرِّية المواطن في التعبير والإبداع وحقُّه في الحلم والحياة والعيش الكريم.
- الوعي بالمسؤولية الجماعية التي هي القيمة الأخلاقية والرأسمال الحقيقي الذي يقوم عليه المجتمع المدني بمفهومه الصحيح.
- المساهمة الفعلية في بناء مسلسل التنمية الذي لا ينهض أصلاً سوى على الفهم الصحيح والإدراك الحَصِيف لأهمية المشروع المدني في تخليق الحياة الاجتماعية والسياسية.
- تعضيد العلاقات المشتركة داخل مكوِّنات وهيئات المجتمع المدني والعمل بروح جماعية Esprit d'équipe متماسكة تضع في المقام الأول المنفعة العامة.
- توليد الإحساس للمواطنين بأنهم كائنات إرادية مستقلة وحرَّة بعيداً عن أية ضغوط أو مصادرة مخزنية تُضَيِّقُ عليهم مساحة الخَلق والإبداع، وإشراكهم -ضمن مناخات ديموقراطية وعادلة- في صنع القرارات وصياغة برامج النماء والبناء.
إضافة إلى ذلك، ينبغي:
- خلق المناخات الديمقراطية الملائمة وإزالة شبح الخوف أمام أفراد المجتمع للمشاركة في الإدلاء بأصواتهم وآرائهم وتصوُّراتهم بكل شفافية ووضوح حول اختياراتهم في ما يتعلق بتدبير أمورهم الداخلية، وكيفيات تجاوز العقبات التي تحول دون بلورة المشاريع التنموية التي يسعون إلى تحقيقها على الأرض..
- تفعيل آليات التأطير الثقافي والسياسي للشباب الصحراوي ومنحهم المزيد من فرص التكوين والتأهيل العلمي والمعرفي وتحديث وتشبيب الهياكل والمؤسسات المسؤولة التي طالتها الكهولة والشيخوخة، ولم تَعُد قادرة على "الإنتاج" الأمر الذي زاد من تَرَدِّي الأوضاع الاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية بالمنطقة.
- إشاعة مفاهيم الديمقراطية والحكامة الجيدة وثقافة الانفتاح والحق في الاختلاف وتفعيلها (عملياً) داخل برامج وأنشطة هيئات المجتمع المدني بعيداً عن لغة العنف وأساليب الإكراه والمصادرة المخزنية الفاشلة..
ويمكن الحديث بالصحراء عن ثلاثة أصناف من المجتمع المدني، هي:
أ- مجتمع مدني مُدَوْلن Etatisé تابع لأجهزة الدولة، ويتمثل في مجموعة من التنظيمات المتواطئة التي يظل وجودها رهيناً بحماية الدولة وإشرافها عليه..
ب- مجتمع مدني نفعي (براغماتي) يتشكَّل من عدَّة مؤسسات جمعوية (مُتَسَوِّلَة) تسفيد من دعم الدولة وتشجيعها المادي، لكن على علاقة تشاركية تحدِّدها غايات ومرامي تصوغها أجهزة السلطة والحكم.
ج- مجتمع مدني مستقل يستمد قوته من ثقة الشعب (الرأي العام الشعبي) ويَعِيشُ على ذاته، غالباً ما يظل مُعَرَّضاً للعزلة والتهميش ويعاني من غضب الدولة وقلقها، مادام يشتغل من دون ولاءات وبشكل منفصل عن أجهزة الدولة الرسمية.
هذا الصنف الأخير من المجتمعات المدنية يكون مقبولاً من طرف عامة الناس إذ يظل قريباً منهم ومُتَّصِلاً بواقعهم المعيش ومُعَبِّراً عن انشغالاتهم بصدق وإحساس مشتركين يترجمان التشكل الطبيعي للمجتمع المدني الحقيقي (وليس المزيَّف) بتعبير المفكر الفرنسي ألكسيس توكفيل Alexis Tocqueville، مادام يُبرهن عن فعليته وفاعليته في إنجاز المشاريع التنموية وتحقيقها على الأرض (ثقافية، خيرية، إنسانية..) للحي والمدرسة والمحتاجين والمعوزين من دون محاباة أو تملُّق لأحد، وذلك بذهنية تطوُّعية لا تتوخَّى الربح المادي، أو التفرُّد السياسي، أو أي شيء من هذا النظير. فهو بهذا السلوك التنموي النبيل، يجسد المفهوم المعياري Normatif للمجتمع المدني الحديث، أي حين يستعمل أهدافه وبرامجه كغاية أخلاقية وكرؤية توجيهية تروم نسج العلاقة المفترضة بين مصالح الفرد ومصالح المجتمع (يمكن الرجوع في هذا الصدد إلى كتابات لوك وهيغل ورواد النقد الماركسي الحديث)..
والخُلاصة، أن الواقع الحالي للحركة المدنية بالصحراء، بات يفرض نهج سلوك عملي جديد ومقاربة حداثية تبدأ بالأساس من إعادة بناء وتركيب مختلف مكوِّنات وهياكل المجتمع المدني من جمعيات حقوقية ولجان أحياء ووداديات سكنية وتعاونيات حِرفية ومختلف التنظيمات وهيئات الأعمال الخيرية والنقابات العُمَّالية، بشكل يتلاءم مع التحوُّلات السوسيوثقافية والسياسية الراهنة التي تشهدها المنطقة الصحراوية، وذلك انطلاقا من قناعة راسخة مفادها أن تفعيل دور المجتمع المدني في تدبير الشأن المحلي، لا يمكن أن يتأتَّى إلاَّ بتوسيع هامش الحرية والتعبير، وأيضاً بزوال رموز القداسة والولاء والانبطاح وإجلاء مصادرها من الحياة العامة، وعلى الأخص في ما يتصل بشؤون الحكم والسلطة السياسية.
هوامش:
* هذا المقال مقتطف من مقدمة مطوَّلة لبحث ننكب على اتمامه راهناً، ويتعلق بحال ومآل الحركة المدنية في الأقاليم الصحراوية.
1- Georges Balandier : Le Pouvoir sur scènes
Paris ; Balland.
وأيضا: بيار أنصار: العلوم الاجتماعية المعاصرة
ترجمة: نخلة فريفر- المركز الثقافي العربي/ الطبعة الأولى 1992 (ص. 182).
2- حسن قرنفل: المجتمع المدني والنخبة السياسية/ إقصاء أم تكامل؟
أفريقيا الشرق، طبعة 2000 (ص. 149).
3- ناصر عبد الناصر: ظاهرة الفساد/ مقاربة سوسيولوجية- اقتصادية
دار المدى للثقافة والنشر- طبعة 2002 (ص. 22).
4- ظاهرة الفساد/ مقاربة سوسيولوجية- اقتصادية/ م. م. (ص. 20).
5- إ. إيفنز برتشارد: الإناسة المجتمعية/ ديانة البدائيين في نظيات الإناسيين
بيروت/ لبنان، الطبعة الأولى 1986 (ص. 61).
6- Etienne Balibar : Emancipation, Transformation, Civilité
In les temps modernes, no 587, 1996 (pp. 409-449).
7- ظاهرة الفساد/ مقاربة سوسيولوجية- اقتصادية/ م. م. (ص. 31).
8- علي عباس مراد: المجتمع المدني والديموقراطية
المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع- الطبعة الأولى 2009 (ص. 60).


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.