"حاصرت" الحرب وأهوالها الصحفي المغربي عبد الرحيم التوراني في بيروت الجريحة، وهو الذي تعود التردد عليها والإقامة بين أهلها كلما زار أهله هناك، لكن الحرب التي باغتت اللبنانيين وحاصرت بلدهم من الجو والبر والبحر، فرضت عليه المكوث هناك في انتظار ساعة الفرج والنجاة. ومع مرور الوقت وجد التوراني نفسه في قلب تجربة صعبة، وهو الانسان المبدع والمبدئي الذي لم يٌخف هواه يوما لبيروتوللبنان بكل يقاعه ولأهله بمختلف أطيافهم، فخط َّ مجموعة الخواطر التي ننشرها هنا، وهي عبارة عن لحظات ولقطات مسروقة من وقت مستقطع ما بين غارة وأخرى، تحكي لنا عن اليومي والإنساني والوجداني والذاتي والموضوعي.
*** *** *** لبنان على حافة الهاوية بسبب الغارات الجوية للعدوان الإسرائيلي. 80 % من سكان لبنان يعانون من فقر حتى قبل الحرب… الوضع الآن أصبح أكثر دراماتيكية… هذا ما تقوله الحقائق والبيانات الصادرة عن عدد من الهيئات والمنظمات الإنسانية، من بينها منظمتا الإغاثة الكاثوليكيتان "كاريتاس الدولية" و"ميسيو آخن" العاملة بلبنان، التي دعت وقف إطلاق النار. الألماني أوليفر مولر (رئيس كاريتاس الدولية)، صرح بأن الحرب ضد لبنان "تحصد العديد من الضحايا الأبرياء وغير المتورطين. ويجب أن ينتهي هذا الأمر، وكذلك التهديد المستمر الذي يتعرض له عمال الإغاثة الإنسانية بأن يصبحوا ضحايا للهجمات العسكرية". خلال غاراته الجوية في جنوبلبنان لم يستثن الجيش الإسرائيلي مباني تابعة لمنظمات إغاثة مسيحية قام بتدميرها. حتى الآن قتل ما يزيد عن 2450 شخصًا في الهجمات العدوانية، وأصيب أزيد من 11500 شخص وفرار أكثر من 1.2 مليون شخص. بحسب الحكومة اللبنانية. مجازر رهيبة ترتكب كل يوم وكل ليلة بحق النساء والأطفال والشيوخ، وضد المدنيين الأبرياء.. الدمار والعنف والخوف والموت.. الأضرار في لبنان هائلة. عدة أماكن في جنوب البلاد والبقاع وفي بيروت لحقها التدمير بشكل شبه كامل. "إن الأمر الآن مجرد مسألة بقاء".. تعليق من دبلوماسية أوروبية. *** يتزايد عدد النازحين الفارين من الحرب. ولكن حتى لو نجوا من الصواريخ والقنابل فإنهم غالبًا ما يعانون من إصابات نفسية. مثل هذه التجارب المؤلمة الشديدة يمكن أن تبقى في الذاكرة وتعذب الناس مرارًا وتكرارًا. النازحون لا يأتون من الجنوب نحو الشمال فقط، بل هناك نزوح داخلي وسط بيروت نفسها.. عائلات دمرت منازلها (في أحياء النويري وراس النبع والبسطة وغيرها من أحياء العاصمة الواقعة في بيروت الغربية، وفق التقسيم الطائفي الموروث عن الحرب الأهلية)، تفرقت في النزوح، بعضهم راح إلى بيروت الشرقية (المسيحية). حالياً ألاف من النازحين المتنقلين من غير مستقر.. لم يتمكنوا من الوصول إلى مكان آمن بالرغم من بذلهم جهدا كبيرا، جهد يلامس حدود المخاطرة بحياتهم. عائلات أخرى لجأت عند أقاربها بالبلدات القريبة من بيروت. مثل السيدة (ر) التي صادفتها ببيت إحدى قريباتها في إحدى بلدات جبل لبنانالجنوبي القريبة من مدينة صيدا.. تجلس السيدة (ر) ببهو البيت، لا تفارقها السيجارة، تعمل جاهدة على إخفاء توترها.. تحدثني عن أضرار القصف الذي حطم جزءا من شقتها في حي البسطة ببيروت. تضيف إن الحي قديم، وبه عدد من البيوت مغلقة منذ ما يقارب الأربعة عقود، أهل تلك المنازل غادوا البلد من سنين وأقفلوها وراءهم.. فقط بيت واحد من تلك المنازل المهجورة يستعمل كمخزن للأدوية أو كمستوصف، ولا حقيقة مطلقا لما تدعيه إسرائيل أن بالحي أماكن لسلاح حزب الله. يحرك زوجها (م) رأسه علامة على موافقتها الكلام. وبالرغم من مخاطر الطريق تحت هذا الوضع المضطرب، فإن الزوج (م) لا يزال يواصل الذهاب كل صباح إلى عمله في بيروت. ثم جاء ولدهما الصغير، من عمر لا يتجاوز 12 عاما، وبين يديه قطعة مثلجات. تقول (ر) إن المدارس الرسمية توقفت منذ فترة، والأولاد يعانون أكثر من الكبار من أهوال الصدمة.. ومن ضغط شديد… تدعو ولدها (س) الذي يعاني من الربو، للاقتراب منها لتعانقه.. تطفئ سيجارتها وتقول كمن تحدث نفسها: – لقد أصبحنا كلنا مرضى جسديًا ونفسيا.. لا أخفي أننا صرنا ضحايا المخاوف والكوابيس المتكررة.. وعند كل "خرق جدار للصوت" نصاب بخفقان القلب وبالانفعال والتوتر والإرهاق الهائل.. ولا أحد يعرف متى ستنتهي هذه الويلات الكارثية.. ولا متى موعد عودتنا إلى حياتنا اليومية الآمنة.. *** "الضاحية الجنوبيةلبيروت تتعرض من جديد لقصف جوي إسرائيلي"، "ليلة عنيفة قضتها بيروت… تحت غارات الطيران الحربي الإسرائيلي…"، "اشتداد المواجهات بين قوات العدو الإسرائلي ومقاتلي حزب الله في الجنوباللبناني…"… مثل هذه العناوين باتت زائفة، أو لا تفي بالغرض والمراد، أو على الأقل هي جمل غير خبرية بالمعنى المهني، لا صلة لها بحقائق الأرض وبتفاصيل الأحداث القاسية وبواقع المأساة الرهيبة، العصية على الشرح وعلى كل الشروح… وفي كل يوم تتلاشى الأحرف وتصدأ.. تفقد الكثير من معانيها ومراميها حد السخافة والهزء والبطلان… فلم يعد القصف جديدا، ولا الغارات جديدة، والضحايا هم الضحايا أنفسهم.. وكلهم رعب لا تدركه الكلمات ولا يمكن تصوره.. الاحْتِضار طويل يستعجل الأنفاس الأخيرة.. ويجهز على بطء النزع الأخير وسط وابل النيران الهادر.. الموت هلاك شاخص بعيون القتلى القادمين.. وتنفيذ الاغتيالات يسابق الخطى.. إن الانْدِثار واقف بعتبات كل بيت وعند مفرق كل شارع وزقاق، وفوق أسطح المباني.. والأضرار قديمة.. أقدم من جراحاتها… والدَمَار رَدىً وفناء… ولمن فاتته السكرة، يقال له: – استعد.. ليس أمامك هنا والآن غير سَكْرَة المَوْتِ.. *** يخلق السجناء مفرداتهم ولغتهم الخاصة للتواصل، أحيانا تكون لغة السجن معتمة أشد من ظلمة زنازنها.. لنا في أصحاب "تزمارمات" ولغتهم "الكازابالية" خير مثال.. فما بالك بضحايا الحروب.. لا نتكلم هنا عن شيفرات سرية للمقاتلين والمقاومة، بل عن اللغة اليومية العلنية للناس.. في لبنان، كما في فلسطين، أحدثت الاعتداءات الوحشية والهمجية الصهيونية لغة جديدة، ومفاهيم ومصطلحات جديدة بعدما فقدت الكلمات معناها الأولي… بعض التعابير والمفردات اللغوية تمرض، تصاب بالجراح، كما تتعرض للموت.. وتهجر وتدفن.. ولا يبقى بعدها سوى تسمية الأشياء بأسمائها المهجورة والمصادرة.. أسماؤها الحقيقية… اللغة هي المظهر الخارجي لروح الشعب.. كما قال لغوي فرنسي. اللغة روح.. وروح اللغة المتكلمين بها من أهلها الأصليين… إن روح اللغة لا تقبل الترجمة.. كما الفلسطينونواللبنانيون مرتبطون بوطنهم غير القابل لترجمة أراضية إلى لغة التفويت والتسويق في بورصات التفاوض وطاولات الاستسلام… *** في 1982 تمكن شارون من طرد منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان وتهجيرها إلى تونس الحبيب بورقيبة.. بورقيبة الذي دعا العرب في الستينيات ثم السبعينيات إلى القبول بقرار الأممالمتحدة ومبدأ تقسيم فلسطين لقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة 1947، وترسيم الحدود بين الدول العربية وإسرائيل، وإقامة دولة فلسطينية. اليوم بعد تدميره غزة، يسارع نتنياهو، وهو يسابق الوقت، كي يطرد حزب الله او يدحره إلى الخلف حتى يتراجع ويستجيب لمطالب اللبنانيين كما باقي الأحزاب السياسية التي وضعت سلاحها وتخلت عنه عملا بمقرارات مؤتمر الطائف (1989) الذي دعا إلى حل جميع المليشيات اللبنانية ونزع سلاحها وتسليمه إلى الجيش اللبناني وهو ما يرفضه حزب الله اليوم. *** غالبا ما يلجأ اللبنانيون إلى ذكر الحروب التي عايشوها في السابق، سواء الحرب الأهلية التي استمرت 15 عاما، أو الحروب مع إسرائيل، وقد بلغت أربعة حروب.. إلا أن المقارنة الأكثر تداولا هي التي يعقدونها بين حرب 2006 والحرب الحالية. مقارنة تُظهر تبايناً كبيراً في الظروف السياسية المحيطة بها. لذلك يقولون: في حرب 2006، أي قبل 18 عاماً، كان رئيس جمهورية للبلد، وحكومة تعمل على إنهاء النزاع، وعلى توفير الدعم المالي لإعادة الإعمار.. مما ساعد في تحقيق استقرار نسبي بعد انتهاء الحرب. أما اليوم، في 2024، فمنذ عامين على الأقل، هناك فراغ رئاسي، وصلاحيات حكومة تصريف الأعمال من دون صلاحيات حقيقية، وهي غير قادرة على مجاراة تداعيات الحرب والحصول على الدعم الدولي الضروري. *** رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يواصل توسيع حربه ضد الفلسطينيينواللبنانين. يقول إنه لا يريد لحزب الله أن يلتقط أنفاسه. مستغلا بشكل كلي الأيام الفاصلة عن الانتخابات الرئاسية الأميركية. الدول العربية أرسلت أمين عام جامعة الدول العربية إلى بيروت، قال أبو الغيط كلاما عاديا في مرحلة غير عادية ومشى. كأنه رفع عتب ليس إلا.. بينما يتوافد مسؤولو دول أوروبية على لبنان من أجل إيجاد حلول لإيقاف الحرب. اليوم الخميس (24 أكتوبر 2024) في باريس، عقد الرئيس الفرنسي ماكرون مؤتمرا لدعم لبنان، وأعلن عن مساعدة فرنسية بمليارات الأوروهات.. كأن الرئيس ماكرون بمبادرته هذه يرصد مكافأة مالية لمن يساعده في إلقاء القبض على لبنان.. لبنان البلد المطارد منذ إنشائه في أواسط القرن الماضي.. *** من "مديح الظل العالي" (محمود درويش) (…) الطائراتُ تعضُّني. وتعضُّ ما في القلب من عَسَلٍ/ فنامي في طريق النحل، نامي قبل أن أصحو قتيلا/ الطائراتُ تطير من غُرَفٍ مجاورةٍ إلى الحمَّام، فاضطجعي على درجات هذا السُّلّم الحجريِّ، انتبهي إذا اقتربتْ/ شظاياها كثيراً منكِ وارتجفي قليلا/ نامي قليلا. *** من يأتي النوم لمن يحاول أن يجربه تحت سماء القصف الاستراتيجي.. وتحت المجازر الجوية.. ما يحدث الآن في لبنان، على نفس النغمة الدمويةوالإيقاع الناري.. لا اسم له غير الإبادة الجماعية.. هذا الاضطهاد الوحشي والإرهابي هو أكثر من مجرد حرب إجرامية… (الأربعاء 24 أكتوبر 2024)