"حاصرت" الحرب وأهوالها الصحفي المغربي عبد الرحيم التوراني في بيروت الجريحة، وهو الذي تعود التردد عليها والإقامة بين أهلها كلما زار أهله هناك، لكن الحرب التي باغتت اللبنانيين وحاصرت بلدهم من الجو والبر والبحر، فرضت عليه المكوث هناك في انتظار ساعة الفرج والنجاة. ومع مرور الوقت وجد التوراني نفسه في قلب تجربة صعبة، وهو الانسان المبدع والمبدئي الذي لم يٌخف هواه يوما لبيروتوللبنان بكل يقاعه ولأهله بمختلف أطيافهم، فخط َّ مجموعة الخواطر التي ننشرها هنا، وهي عبارة عن لحظات ولقطات مسروقة من وقت مستقطع ما بين غارة وأخرى، تحكي لنا عن اليومي والإنساني والوجداني والذاتي والموضوعي.
*** *** *** في ضيافة عائلة لبنانية ببلدة غير بعيدة عن بيروت، نجلس بحديقة البيت نرتشف فناجين القهوة.. حولنا أطفال العائلة يركضون وراء كرة، يلعبون ويمرحون.. ثم يسمع دوي مرعب، نتج عن خرق جدار الصوت.. من قبل الطيران الإسرائيلي… يتوقف اللعب، يختبئون خلف الكبار… يعمل الأب على تهدئة الصغار وإعادة زرع روح الاطمئنان إليهم… يكلم أكبر أبنائه (حوالي 5 سنوات): – أنسيت يا ورد ما حكيت لك عن هذا الصوت…؟ – لا … لم أنس… ويصمت. أتدخل أنا وأسأل بدوري الصغير: – ما الذي لم تنسه يا ورد؟ بخجل يبتسم الصغير.. يتردد قبل أن يقول: – إنه صوت الطائرة… الطائرة لما تصطدم بسحابة كبيرة… كبيرة جدا… عندها يحدث هذا الدوي… فنسمع نحن: "بوووم"… هكذا اهتدى الأب لطريقة يفهم بها أبناءه الصغار ما يحصل حولهم، وحتى يأمنهم من الخوف…! يعود الصغار إلى اللعب، ليستأنف الكبار ارتشاف القهوة والدردشة.. دردشة تبدأ من ضفاف الحرب لتبتعد عن أجوائها قبل أن تؤوب للغوص في مجاهلها.. في آخر المطاف تتم العودة إلى أول الكلام.. لا مهرب ولا ملاذ من حرب تشن عليك من الجو.. تتوالى الغارات العدوانية من السماء.. فلا تنفع معها ابتهالات المؤمنين من كل الطوائف والمذاهب التي تعج بها البلاد.. حرب لا تفيد في إيقافها الدعوات المرفوعة إلى السماء ومن في السماء… رحماك يا إلهنا.. رحماك يا رب…! أتذكر فيلما تسجيليا مصريا، أسترجع عنوانه بما يناسب الحال.. "لا يكفى أن يكون الله مع المظلومين" حتى ينصرهم.. أغتنم وصول كرة تدحرجت صوبي، أعيدها إلى الطفل حسين (أقل من 6 سنوات)، بقدمه الصغيرة يعيدها بدوره إلي، أقترب منه وأسأله عما يجري في لبنان. يرد سريعا: – إنها الحرب؟ – ومن يشن هذه الحرب؟ يلتقط الكرة ويجيب في الآن: – إسرائيل… إسرائيل الكلبة… أترك الصغير، أخشى عليه وعلى جميع الأطفال من ويلات الحرب ومن لغة الحرب.. ثم أستأذن بالانصراف… *** الحرب مرادف للعيش في الخوف.. خوف يمكن أن يستمر معك في ما بقي أو تبقى من عمرك.. معاناة من القلق والاكتئاب، معاناة لها ما بعدها من كوابيس ما بعد الصدمة.. خوف يترك ندوبًا عميقة على الأطفال أكثر من الكبار. *** كنا نعتقد أن جرائم القتل والإبادة الجماعية انتهت، أو أن معظمها قد أصبح في الماضي.. لكن الحرب شر لا يطاق… مئات الآلاف من الصور والفيديوهات والمشاهد تتدفق يوميا كشلالات ضخمة تقذف من علٍ فوق رأس العالم.. جثث الأطفال والكبار ملقاة على الأرض وفوق التراب وبين الأنقاض.. ضحايا مدنيون ملطخون بالدماء.. نساء باكيات، أطفال ينتحبون، مباني منهارة متفجرة… للأسف، هناك واقع ثقيل يحدث أمام عيني.. الحرب شر لا يطاق… بالرغم من كل هذا أجتهد كي أحافظ ما أمكنني على الحياة العادية.. وإن كانت الحياة في ظل الصواريخ والقنابل الثقيلة لا تستحق اسم الحياة.. أنام وأصحو، أتناول بانتظام الوجبات اليومية الثلاث، أشرب القهوة والشاي.. أستمع لأغاني فيروز وأم كلثوم وعبد الهادي بلخياط وعبد الوهاب الدكالي وناس الغيوان وجيل جيلالة.. المهم، أعمل ما في وسعي كي أخفف عني أعباء واقع ثقيل يتفاعل أمام بصري وأحاسيسي… أن أتخلص من الخوف وعدم اليقين… لما ترهقني أخبار الحرب والعنف والاضطهاد، أتفادى المزيد من الارتباك ومن خيبة الأمل.. فأتحول إلى القنوات الرياضية لأتابع أطوار مباريات كرة القدم، ومنها القناة الرياضية المغربية، عندما تبث لقاءات الوداد أو الرجاء.. أصادف الحرب شاخصة مستمرة هناك.. أعلام فلسطين ترفرف عاليا.. في المبارتين الأخيرتين للفريقين البيضاويين: نادي الرجاء ونادي الوداد، حضر يحيى السنوار وحيا جميع المغاربة من أعلى مدرجات ملعب المرحوم العربي الزاولي في الحي المحمدي بالدار البيضاء، ووعدهم بأن القضية لن تخسر باستشهاده ولن تنتهي سوى بالنصر… هكذا هتفت المظاهرات الحاشدة، تصلني على الوتساب صورها وفيدوهاتها، وهي تجوب ساحات وشوارع طنجة والرباط والدار البيضاء وباقي الخريطة المغربية.. *** قرأنا في التاريخ عن قصص الطغاة في العصور القديمة، وهم يرتكبون الإبادة الجماعية.. عن هولاكو وجنكيز خان ونيرون.. وجرائمهم الفظيعة.. في مرحلة ما ظننا أنها قصص أقرب إلى الخيال.. فإذا بنا نراها أمامنا ومعنا على نفس الأرض وتحت السماء نفسها.. أخبرونا أن الحرب الباردة انتهت، فإذا بهم يعيدون تقديمها إلى العالم ساخنة، في أفغانستان والعراق والسودان، وفي فلسطينولبنان… ويقدمونها في "أبهى الحلي والحلل" وبآخر صيحات الاستبداد والهمجية المحدثة… *** ما يحدث في غزة وفي لبنان ليس حرباً، أو على الأصح ليس حربا عادية.. ليست هناك أطراف متكافئة في هذه الحرب.. فقط جيش إسرائيلي مدجج بأحدث أسلحة الفتك والقتل وآليات الدمار.. التي تنجز القصف العشوائي اليومي للأطفال والنساء.. وتقصف المستشفيات والمدارس… *** تعرض القنوات اللبنانية روبورتاجات عن النازحين، تسأل الكبار والصغار منهم، لا شيء غير فيض من مشاعر العزلة والوحدة وانعدام الأمن.. مشاعر الحزن والضعف بعد اقتلاعهم من منازلهم وقراهم ومناطقهم ومجتمعاتهم ومحيطهم المألوف.. مشاعر البراءة المسروقة من الأطفال.. والاجثثات من الحياة الطبيعية.. *** هذه السردية لا تريدها بعض الجهات المتخفية وراء حملات إعلامية مسلحة بالماركوتينغ السياسي الموجه… الذي تنخرط فيها قنوات بعينها، قنوات مهيأة بشكل مفضوح للتأثير عن بعد في المشاهدين والرأي العام.. وربما تسعى لتلقيح الناس بهرمونات إنسانية مغايرة لأحماضهم النووية. *** بينما تتواصل الغارات العنيفة على مختلف المناطق في لبنان، لاسيما في الجنوب والبقاع والضاحية الجنوبية لبيروت، يصل الوسيط الأميركي أموس هوكشتاين اليوم الاثنين إلى بيروت، بهدف إجراء محادثات مع المسؤولين اللبنانيين سعيا للتوصل إلى حل دبلوماسي يوقف إطلاق النار بين إسرائيل وحزب الله. مصادر أفادت بأن الحكومة الإسرائيلية سلمت إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن شروطها للحل في لبنان. ومن بين تلك الشروط التي تضمنتها الوثيقة الإسرائيلية أن تتمتع القوات الجوية الإسرائيلية بحرية العمل في المجال الجوي اللبناني، وأن يكون لقواتها حق التحرك في الجنوب اللبناني والتحقق من أن حزب الله لا يبني بنيته التحتية العسكرية. إلا أن دبلوماسيا أميركيا استبعد موافقة الجانب اللبناني على هذه الشروط. *** تسعى إسرائيل إلى دفع حزب الله إلى شمال نهر الليطاني، بغية خلق ما يشبه المنطقة العازلة أو الفاصلة على الحدود، منطقة خالية من المسلحين، بما يتيح عودة المستوطنين الإسرائيليين الذين فروا إثر المواجهات إلى منازلهم. *** أكدت جهات نقابية لبنانية، أن الحرب تسببت في أزمة كبيرة، يعاني منها اليوم آلاف العمال والموظّفين، منهم من تمّ طردهم تعسّفًا من قبل شركاتهم، ومنهم من حُرم بشكلٍ كاملٍ من راتبه". وأشارت الجهات نفسها إلى أن بعض المؤسّسات أصبحت مقفلة ومتضرّرة. أهم القطاعات التي تدهورت وتراجعت، هي القطاعات السّياحيّة والإنتاجيّة والتّصنيع، وكلّ ما يتعلّق بصناعة البناء والمواد الغذائية والزّراعة. *** خلال ساعات الليل الماضية، طالت 16 غارة إسرائيلية مواقع لجمعية "القرض الحسن" التابعة لحزب الله، في مختلف المناطق اللبنانية، لاسيما في الضاحية الجنوبية لبيروت. ووثقت العديد من المقاطع المصورة حجم الدمار الذي أصاب مقرات تلك الجمعية، التي تعتبر بمثابة "البنك المركزي" لحزب الله، أو "إحدى أذرعه المالية" كما يتردد. فما الهدف من ضربها لاسيما أن تلك المقرات فارغة بكل تأكيد من أي عناصر الحزب؟ لعل الإجابة على هذا السؤال أتت مباشرة من أفيخاي أدرعي (الناطق باسم الجيش الإسرائيلي)، الذي أكد عبر منصة "إكس" أن "جمعية القرض الحسن تشارك في تمويل نشاطات حزب الله ضد إسرائيل". كما قال مسؤولون إسرائيليون إن الضربات تهدف إلى الإضرار بالأصول المالية لحزب الله وكذلك إضعاف علاقاته مع المجتمع اللبناني. أما الهدف الآخر، بحسب المسؤول الإسرائيلي، فيكمن في أن الضربات هدفها تقليص الثقة بين حزب الله والشعب اللبناني. في نفس السياق، اعتبر نائب أميركي الجمهوري السابق، ديفيد رمضان، (من أصل لبناني)، أن استهداف تلك المؤسسة يهدف إلى زرع الفتنة بين مناصري حزب الله نتيجة الخوف من ضياع أموالهم. وأضاف أن "الاختراق السيبراني للجمعية قبل سنوات كشف وجود ما يقارب 250 ألف حساب". كما استهدفت مقرات ل"القرض الحسن" في بعلبك، والهرمل، ورياق في شرق لبنان، فضلا عن مدينة صور وغيرها من المدن الجنوبية. في المقابل، أفادت مصادر مقربة من حزب الله والقرض الحسن، بأن الجمعية نقلت كافة الأموال والموجودات إلى أماكن آمنة. أما في مدينة صيدا الساحلية بجنوب بيروت، فقد دفع الذعر داخل مدرسة تحولت إلى ملجأ بالقرب من أحد فروع القرض الحسن، النازحين المقيمين فيها إلى المغادرة على عجل بحثا عن الأمان، وتحديدا من خلال التوجه إلى الواجهة البحرية. يذكر أن "جمعية القرض الحسن" ليس لديها أي ارتباط بالمصرف المركزي اللبناني، ولا تخضع لقانون "النقد والتسليف" الذي يحكم علاقة المؤسسات المالية بمصرف لبنان، وهي مسجّلة لدى وزارة الداخلية بصفة جمعية خيرية". إلا أنها استفادت بحسب العديد من المصادر المصرفية من الأزمة الاقتصادية والنقدية التي هزت البلاد منذ 2019، وباتت أشبه بمؤسسة مصرفية تُعطي القروض على عكس المصارف اللبنانية الشرعية. *** أعلن رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي، اليوم الاثنين، في حديث لإحدى القنوات العربية: "أبلغت القيادات الإيرانية أن يخففوا العاطفة تجاه لبنان". فيما ردت الخارجية الإيرانية أن إيران ترفض اتهامات ميقاتي، وأن طهران لا تتدخل في شؤون لبنان. *** أطل من نافذتي، تلوح أمام ناظري أبراج فندق ضخم، لكنه لا يعدو عن طلل من الأطلال.. لقد توقف استكمال بناء هذا الصرح منذ الأعوام التي أعقبت حرب 2006.. سمعت أنه كان مشروعا من تمويل قطري.. أرى طيورا سوداء تحوم حول الطلل الشاهق.. أكثر من 20 طبق.. في لمحة عين تتحول الطيور السوداء إلى طائرات حربية تسوي البنيان بالأرض.. أفتح عيني.. تختفي الطيور السوداء، ويستمر الفندق صامدا ينتظر فرصة لاستكمال تشييده.. كذلك لبنان في انتظار فرصة سلام، فرصة أمل لتغيير المشهد اللإنساني، من أجل بعث الحياة من جديد لأبنائه وأهله من أجل استكمال البناء.. بناء الإنسان أولا… وليستمر بلد الأرز منارة للثقافة والفكر.. لبنان التاريخ والحضارة. (بيروت، صباح الاثنين 21 أكتوبر 2024)