"حاصرت" الحرب وأهوالها الصحفي المغربي عبد الرحيم التوراني في بيروت الجريحة، وهو الذي تعود التردد عليها والإقامة بين أهلها كلما زار أهله هناك، لكن الحرب التي باغتت اللبنانيين وحاصرت بلدهم من الجو والبر والبحر، فرضت عليه المكوث هناك في انتظار ساعة الفرج والنجاة. ومع مرور الوقت وجد التوراني نفسه في قلب تجربة صعبة، وهو الانسان المبدع والمبدئي الذي لم يٌخف هواه يوما لبيروتوللبنان بكل يقاعه ولأهله بمختلف أطيافهم، فخط َّ مجموعة الخواطر التي ننشرها هنا، وهي عبارة عن لحظات ولقطات مسروقة من وقت مستقطع ما بين غارة وأخرى، تحكي لنا عن اليومي والإنساني والوجداني والذاتي والموضوعي.
*** *** *** أصحو في صباح مبكر.. غاب نهار وأتى نهار آخر، لكنه نهار غير جديد.. "ونْهار يلوحَكْ لنْهار…".. تغني مجموعة جيل جيلالة… أقف أمام المرآة، أتأمل ملامح وجهي.. أكتشف أمامي آخرا غيري.. شخص بلحية رمادية وشعر كث طويل.. يتطلع الشخص إلي بعطف، أحس به يريد بث الطمأنينة إلى دواخلي، ويبتسم لي نصف ابتسامة.. يزرع في إحساسا بالارتباك.. أتساءل هل الذي في المرآة يُعبِّر عن حالتي من الداخل؟ ثم أجدني معجبا بانعكاس صورتي في المرآة.. أربأ بنفسي أن أسحبها إلى ضفاف الغرور المفرط.. تخيفني ابتسامتي الغامضة التي تطورت بسرعة إلى ما يشبه ضحكا، أتساءل في سري عن سبب وجيه يبرر هذه الابتسامة المبتسرة، وهذا الضحك الجنوني.. لقد نشأنا على ضرورة ألا يأتي الضحك من دون أن يحضر معه أسبابه الموضوعية، وإلا عُدَّ الأمر عجبا وعجابا.. أتحاشى الانشغال بإيجاد معنى لهذه الحالة.. ثم أجدني أدخل في حالة تآلف ممتعة مع من يسكن الآن في المرآة، لكنه يحدق فيَّ كمن يمعن في الفراغ والغبار.. يقولون إن النظر في المرآة كثيرًا يمكن أن يزيد من ثقتك بنفسك.. لكني لا أراني الآن بالصورة الصحيحة التي أنا عليها الآن.. من هو المحق وعلى صواب في ترجمة حالتي النفسية؟ هل أنا المكتئب أم هذا الذي يبستم متفائلا في المرآة.. ثم سرعان ما أتطير من هذا الاسترخاء والطمأنينة، أتهمها بالزيف والتضليل، وتكبر في داخلي الأسئلة، وأحزن.. وأخاف.. نعم أخاف.. إن الخوف أمر مفهوم في مثل هذه الأوقات.. *** تتعاقب الغارات، وتتوالى مشاهد الدمار بإيقاع لا يكاد يتوقف. أتجمد في مكاني، تمتلئ رئتي بالأدخنة والغبار، وتسد روائح اللهب ثقبتي أنفي.. الأمر يتعدى الخراب والحرائق المشتعلة والنيران المتوهجة.. فوضى عارمة لا تطاق.. "هي فوضى"… بالمختصر المفيد. أحسني أعاني من رضوض داخلية ومن نزيف.. والمزاج كرة "بينغ بونغ" يتقاذفها العجز والإرهاق.. *** يتكرر خرق جدار الصوت وفق إيقاع غير منظم، وكل عملية خرق تعقبها صحوة قاسية… قبيل أيام، شاهدت فيديو على قناة "اليوتيوب" يسخر من الاختراقات المتكررة لجدار الصوت التي تقوم بها طائرات الجيش الإسرائيلي على علو منخفض، فيديو يظهر لبنانيين، كلما سمعوا "الخرق" يلتفتون نحو الكاميرا ليرددوا مستخفين عبارات دعائية، يفهم منها: "لا تعبأوا.. إنه مجرد خرق جدار صوت.."… والحقيقة أن هذه العمليات المروعة، تؤدي مهمتها بشكل فعال في خلق حالة من انعدام الأمن النفسي ومن الترهيب… بالنسبة لي، عند كل خرق متكرر، يسيطر علي إحساس كأن الطائرة المغيرة ستسقط فوق رأسي، فيشتد خفقان القلب ويرتفع الضغط أكثر.. إنها ردة فعل لا تستجيب لما يطلق عليه في الفقة الديني "فرض كفاية"، يكفي أن يقوم بها المرء مرة واحدة لينوب عن الآخرين، بل هي "فرض عين" لا إرادي.. ينتج إثر كل خرق متجدد، أو عند سماعك وإحساسك بضربة صاروخية جديدة ينتشر صداها ليصلك بالرغم منك ومن دون هواك.. *** تحاول بيروت كل صباح أن تلملم جراحاتها، وأن تتحدى كل هذا الرعب والترهيب الذي يهدد أركانها.. أن تستمر في الصمود عاصمة لبلد كتب عليه القدر أن يكون دائما مسرحًا للصراع العنيف.. و"القدر" هنا معروف ولا يأتي من السماء، بل هو الذي يأتي سماء لبنان.. يخترقها ويمطرها بالموت والدمار والإرهاب… يواصل "البيارتة" الذهاب إلى أعمالهم، وإلى الأسواق لشراء حاجياتهم، يتبادلون سؤال: "تْمَوَّنْت؟"، أي هل اشتريت ما يكفي من مؤونة لهذه الأيام الصعبة؟ وكل شيء حتى الآن متوفر في السوق، كما الأدوية في الصيدليات.. والمقاهي لا زالت تستقبل زبائنها.. لا تعتقدوا أن جميع هؤلاء الزبائن يتحدثون عن الحرب وتداعياتها، ربما يحصل هذا، لكن لا يأخذ منهم كل وقتهم.. في جلسة جمعتني بأصدقاء لبنانيين، أغلبهم مرَّ بتنظيمات اليسار اللبناني، أساسا الحزب الشيوعي واليسار الديمقراطي، وعاشوا الحرب الأهلية والاجتياح الإسرائيلي في 1982.. كلهم التفتوا إلي وقالوا الكلمة نفسها: "ما فيهش شي.."… أي لا شيء حاصل! كيف؟ يطرحون أمامك تصوراتهم للمرحلة الحالية وما سيليها، بناء على معرفتهم الدقيقة واللصيقة بالواقع السياسي والاجتماعي في بلدهم… ثم يعودون لاستئناف الخوض في أحاديثهم العادية، البعيدة عن مستنقع الحرب… ولا أحد سمعت منهم أنه يخشى الحرب ويشعر بالعجز أو الإنهاك.. ألا يبدو هذا أمر مربك بشكل لا يصدق..؟! *** يدفعني هذا الوضع إلى الدخول في حوار مع نفسي… أتساءل كيف ومتى ستختفي أيها الخوف؟ لكنه لم يجد جوابا.. هكذا أقرر أن أنتقل إلى الخطة الموالية، أن أقمع الخوف الذي يهدد بأن يستهلك روحي، ومواجهته بكل ما يلزم من شجاعة ومن رباطة جأش. أتذكر فيلما ألمانيا بعنوان "خوف يأكل الروح"، يعرض قصة مغربي مهاجر في فرنسا.. لكن عند عرضه في فرنسا والبلدان الفرنكفونية جرى تغيير عنوان الفيلم ليصبح: "كل شخص آخر يسمى علي"… وأنا في هذا الوضع العبثي لا أتمنى أن أكون شخصا اسمه علي.. وقد آخذ الجمهور المناوئ للشيعة في لبنان الفنانة الكبيرة فيروز لما احتفت باسم علي في إحدى أغانيها التي كتبها ولحنها ابنها الفنان زياد الرحباني، وهي أغنية: "عودك رنَّانْ"… (عودك رنَّان.. رنَّة عودك إلي/ عيدا كمان.. ظلك عيد يا علي/ سمَّعْني العود ع العالي/ عيدا كمان، عيدا كمان…)… [وبمناسبة ذكر الفنانة فيروز، فقد ظلت صامدة في وطنها لبنان متشبثة به، ولم تفكر في الابتعاد عنه رغم الحروب التي مرت بالبلد على مدى عقود]. *** أعود إلى الوقوف أمام المرآة، أكلم خوفي.. وأحاوره: – أنظر بوضوح، لا تهددني مرة أخرى. سأتغذى بك أيها الخوف لأسترد قوتي. وكي أستمر في المضي قدمًا، حتى إيجاد مخرج وحل.. علي التخلص من الخوف الذي يمنع علي التفكير… لهذا قررت أن أجعل من هذه التدوينات العابرة، عيادة للشفاء من القلق والتغلب على الإحباط.. وأن أشارك مخاوفي مع الأصدقاء والآخرين، لعلي أتوصل إلى إدراك أن الآخرين سيشعرون بنفس الشعور وأني لست وحدي. *** من أيام لم ألتق بصديقي الشاعر بول شاوول، هاتفه لا يرد، لدي سلام خاص له من صديقه القديم الشاعر المغربي محمد بنيس. سألت عنه إحدى الصديقات، أخبرتني أن بول شوهد في مقهى "الدونكان" بشارع الحمرا، حيث اعتاد الجلوس بسطيحتها منذ فترة، وأنه غيَّر أوقاته، أصبح "يفل" في الساعة 11 قبل الظهر عائدا إلى بيته في الطابق الثامن من عمارة تطل على الجامعة الأمريكية في بيروت. وأخبرتني أيضا أنه سيخضع من جديد لعملية على كتفه الأيمن. وكان الشاعر بول شاوول قد تعثر في الشارع وسقط قبل أشهر… *** لكن بيروت غابت عنها لياليها، وقد تحول ليلها إلى غارات وقصف جوي وتدمير وقتلى وجرحى… أصبحت شوارعها تفرغ مع بدء مغيب الشمس.. وبعد أن ضاقت مراكز الإيواء بالنازحين، تبرع صاحب ملهى ليلي في بيروت وفتح الملهى لإيواء المهجرين… *** أول أمس عقد وزير الداخلية مؤتمر صحفيا، وأكد فيه أن مراكز الإيواء مخصصة فقط للنازحين اللبنانين دون سواهم من السوريين أو غيرهم. وغيرهم هنا تخص أساسا الخادمات بالبيوت الإفريقيات، وقد وجدن أنفسهن في الشارع والعراء.. هؤلاء الخادمات لا يعولن على أن تقوم دولهن بعمليات إجلاء لفائدتهن.. غالبيتهن من إثيوبيا وكينيا وسريلانكا والسودان ومن بنغلاديش والفلبين أيضا.. وبلدان أخرى. ومع احتدام الحرب في لبنان، بدأت العديد من الدول في إجلاء مواطنيها بالطائرات، في اليومين الأخيرين أرسل الرئيس أردوغان باخرتين لإجلاء مواطنيه الأتراك.. أما مغاربة لبنان، فأكثرهم نساء متزوجات بمواطنين لبنانيين، وتتحدث الأرقام عن ما يوازي 1500 مغربي ومغربية.. المصالح القنصلية بالسفارة المغربية في بعبدا ببيروت فتحت لوائح تسجيل خاصة بالإجلاء.. ولا يزال القرار معلقا في الرباط.. وإنه لحصار حتى الإجلاء.. "قل فانتظروا فإني معكم من المنتظرين" (قرآن). (بيروت، صباح الجمعة 11 أكتوبر 2024)