بدأت الحياة العادية تعود تدريجيا إلى شوارع بيروت، فتحت بعض المحلات والمقاهي والمطاعم، رغم عدد الزبائن القليل. صباح هذا اليوم خرجت إلى الشارع، وعلى وجهي كمامة، حتى أتجنب دفع ذعيرة 50 ألف ليرة. حركة السير عادية، السيارات تملأ الشوارع، وحواجز المراقبة الأمنية منتشرة بكثافة. المؤسسات المصرفية مفتوحة، طوابير عند بعض الشبابيك البنكية، من دون ترك المسافة بين منتظر وآخر. بعض ماسحي الأحذية يطاردون المارة. النَوَر أو الغجر ولاجئون سوريون، يتسولون السائقين أمام إشارت المرور الحمراء. أكشاك الصحف والمجلات تعرض بضاعتها البائرة. بعض المحلات المشهورة أقفلت بشكل نهائي، ومنها محل "إل سي ويكيكي" التركي للملابس الجاهزة في شارع الحمرا. مسرح المدينة لنضال الأشقر ينتظر عودة الحياة الفنية وعودة جمهوره إليه، لكن المقهى المجاور له "دنكن دونات" به بعض الجالسين على موائده الرصيفية. دائما أسير في شارع الحمرا، أشهر شوارع بيروتولبنان، هنا كانت فضاءات الشارع تحتضن أبرز الأدباء والشعراء، ب"الحمرا" مرّ كلّ من محمد الماغوط ومحمود درويش وعمر أبو ريشة وأنسي الحاج ومحمد الفيتوري ونزار قباني وبلند الحيدري. * على بعد أمتار أصل إلى مقهى "روسا"، كانت تسمى سابقا "الهورس شو"، وكانت تعد أهم ملتقى للمثقفين اللبنانيين والعرب، على اختلاف مشاربهم وعقائدهم وأحلامهم. هنا في ديسمبر 2017 كنت ألتقي بالصديق عبد القادر الشاوي، لما جئنا للمشاركة في معرض بيروت للكتاب، كانت المقهى حينها تحمل اسم "كوستا". وهنا رأيت شوقي بزيع وعباس بيضون ومحمد كشلي وبول شاوول وغيرهم من كبار مثقفي وصحفيي لبنان. * بدت لي مقهى "روسا" من خلف الواجهة الزجاجية فارغة من روادها، لكن لما ولجت إلى الداخل صادفت الصديق الشاعر بول شاوول واقفا على الكونتوار صحبة الرسام فوزي بعلبكي، كلاهما بالكمامة يرخيانها حول الرقبة. استقبلني بول كعادته بمرح. بسط ذراعه اليمين ومد لي يدا مغلولة، فسلمنا كملاكمين بملامسة سطح قبضتي اليد. – وينك يا زلمة.. اشتقتلك.. (أينك يا رجل.. اشتقت لك). هكذا بادر صاحب " الهواء الشاغر"، أجبته: – وأنا أيضا مشتاق لك يا صاحبي، لكنها أحكام كورونا… ثم تضاحكنا. * بول شاوول واحد من كائنات المقاهي، وأظنه قد عانى من الحجر الصحي مرتين، هو الأعزب القديم. الجلوس بالمقهى صار لديه أسلوب حياة، جزءا أساسيا من برنامجه اليومي، بعد إقفال صحيفة "المستقبل" صار يبدأ نهاره بالمقهى، حيث يلتقي بالاصدقاء ويقرأ الصحف والمجلات، ويكتب أيضا. في مرة سابقة حكى لي بول شاوول أنه لم يعد يكتب شعرا منذ قرابة أزيد من عقد من السنوات، "لقد نفد ما لدي، ويجب على الشاعر أن لا يكرر نفسه"، يقول بول. وأخبرني أيضا أنه لم يتردد في إتلاف وتمزيق ديوان كامل تزيد صفحاته عن المائتين صفحة، كان أعده للنشر وسلمه لناشر، حين اكتشف أنه تكرار لما أنتجه في السابق، رغم أن الأصدقاء والناشر نوهوا بذلك العمل وناشدوه ألا يفعل ويدعه للنشر ولحكم القراء. لكن ماذا يكتب اليوم شاعر " بوصلة الدم" غير الشعر؟ لا ننسى أن بول شاوول ناقد أدبي وكاتب مسرحي وسيناريست ومترجم كبير. قد تكون ثورة "17 تشرين" أعادت بول شاوول إلى كتابة الشعر، لكنه تأخر في نشر ما كتبه عن ثورة الشعب اللبناني المبهرة، ونخشى أن يكتشف أن ما كتبه هو مجرد استنساخ لكتابات سابقة له. لا أظن، لأن الثورة اللبنانية ثورة أصيلة نابعة من الشعب وإلى الشعب، ولن تلهم المبدعين الحقيقيين أمثال بول شاوول إلا إبداعا أصيلا وحقيقيا، إبداعا خالدا. * لم تطل وقفتي اليوم مع بول شاوول وفوزي بعلبكي، حيث انصرفت لقضاء بعض الأغراض، وتواعدنا على موعد قريب، موعد خارج "روسا"، نلتقي فيه لتناول الغذاء، وسيكون غذاء سمك. * ما أن مشيت بضع خطوات حتى رن "الوتساب"، فتحته لأجد رسالة نعي الأستاذ عبد الرحمان اليوسفي. وكنت أول ناقل للخبر لعدد من أصدقائي في الدارالبيضاء والرباط، أغلبهم كانوا نياما.