قبل أن يغلق عينيه إلى الأبد ليدخل الأبد الشعري عن جدارة واستحقاق ورسوخ، حقق أمجد ناصر ما حلم به، وما جاء به إلى بيروت في السبعينات من القرن الماضي، قادما من الأردن يحمل معه، كجِبِلَّةٍ مركوزة، قيم المحبة والمروءة، وصفاء البداوة، وتلقائية العاطفة، وسلاسة الصداقة، ومشروعية الطموح في مُكاتَفَة ومُسامَتَة الشعراء والكتاب الذين كانوا يشعلون نهارات وليلات بيروت في شارع الحمراء، ومخالطة كتاب الرأي، وقادة الثورة الفلسطينية الذين شرعوا يرسمون فترتئذ أفق الخروج من النفق، وأفق تدويل القضية الفلسطينية التي شاء العدو الصهيوني، والرجعية العربية، طمسها وركنها في زاوية ضيقة، مراهنين على نسيانها وإقبارها بصفة نهائية. لما قدم أمجد ناصر إلى بيروت، اكتظ بالشعر الحديث المغامر والمغاير الذي صار يصارع أطياف الردة، وأشباح التقليد والنكوصية، شكلا ومضمونا ولغة، ورؤية ورؤيا. هكذا، اختار الصف التحديثي، وطفق يبني معه، وهو الفتى المشحون والمريد، نصا شعريا مختلفا قوامه تعرية الواقع، وإبراز بشاعته بجمالية اللغة، وتنقيته من طبقات الكلس القومية التي أغرقته وخنقته في طوبى انتظارية، كان يعلك معها، كبقرة شاردة في إصطبل العزلة، أعشاب الجنة الاصطناعية الموعودة التي باتت في ناظره الأعمى طوع اليد، أو، في الأبعد، على مرمى حجر. لهذا، وهو ينخرط روحا ولغة وتجربة وجسدا في أتون التجربة الشعرية الجديدة الحية الموسومة ب " القصيدة بالنثر"، والفكر المستنير المتوثب، والميدان الفلسطيني المتحرر والمتحلل من ربقة وصايا الجامعة العربية المعطوبة، والمؤامرات الليلية ل" زعماء" عرب، صادف نفسه، ما يعني أنه صادف سَمْتاً تعبيريا مخصوصا قُدَّ إذا صح الفعل من سيماه وخصوصيته، وخلفيته، وذخيرته الجمالية والمعرفية. فشُحْنَتُه الفوارة صنعت شعره الذي، سرعان، ما لفت إليه أنظار دائرة الشعراء " الملاعين" المتميزين الذين كانوا ملء الأفواه والتداول، والصحافة والمقاهي، ومدرجات الجامعة اللبنانية. وآية ذلك احتفاء واحتفال الشاعر سعدي يوسف بتجربته الشعرية وهي في بداياتها وطراوتها، لكن المبشرة بجمال واتساق، وفوران تشكلها، وبنائها واختلافها. فكأن تقديم سعدي لأمجد، صك اعتراف، وجواز مرور إلى ساحة الضوء والشهرة التي كانت تغمر شعراء عربا معدودين. ومنذ مجموعته الشعرية اللافتة: ( سُرَّ مَنْ رآكِ )، ثم مجموعته الشعرية: ( مرتقى الأنفاس )، اللتين جمعتا، في تشبيك لغوي وجمالي بديعين بين الحب والتاريخ، كما لم يجتمعا، وينشبكا، ويتمظهرا متقدين بالرؤية والروعة إياهما في غيرهما من مجاميع تلك الفترة، وما بعدها إلا في القليل النادر، قال الشاعر أمجد كلمته، ورسخ قدمه، وكرس حضوره الشعري، وكيانيته التعبيرية الجمالية الشخصية التي ساهمت على نحو أو آخر في بناء نصوصية المدونة الشعرية العربية التحديثية والحداثية. ويمكن القول، من دون غلواء ومبالغة، وفي بناء أسطورته الشخصية من خلالها. وما دل على رسوخه وحضوره الأنيق والعذب، انتباه النقد المسؤول لتجربته، واحتضان الشعراء السابقين والمجايلين له، أقصد من هم في مضمار مراسه وسعيه الدؤوب إلى كتابة نص جديد على المستويات جميعها، أيْ بما هو انبعاث وانبثاق من الأنا في علاقته بالآخر والعالم والناس. وبما هو تمثل واستيعاب وتحويل لغوي ودلالي وإيقاعي لتحولات الواقع والتاريخ، والقيم والمُثُل، والعلائق. ومن ثَمَّ، ألفينا محمود درويش، وسعدي يوسف، وأدونيس، وقاسم حداد، ومحمد علي شمس الدين، وشوقي بزيع، وشربل داغر، وبول شاوول، وعبد المنعم رمضان، وغيرهم ممن يضيق حجم المقالة عن إيراد أسمائهم، يحتفلون بشعره، ويعتبرونه بُنْياناً لغويا مرهفا، وأداء تعبيريا شفيفا، وأسلبة مشرقة مبهرة، وسَبْراً عارفا بأغوار الذات والواقع، والتاريخ، والشعر واللغة، وتشخيصا جماليا مؤتلقا لعذابات الإنسان العربي وانسحاقه في رحى الظلم والديكتاتورية والطغيان، والتسلط، ومرآة بيضاء، من غير سوء، للآلام والآمال الإنسانية. وإذاً، كيف يموت من بنى وجوده وعبوره بهذا وبأكثره؟ فلئن صمت الطائر الغرّيد فجأة وهو في الشأو، وفي المكان الأرفع، بعدما شنَّف الأسماع والقلوب والعقول زمنا مديداً، فإن ترجيعات صوته وشعره، ومكان عشه وبيته، ونبضه، محفوظ مصون ومصان، وممتد حتى يقبض الله روح الأرض والكون. هامش: لم أشر إلى علاقتي الفعلية بالشاعر أمجد ناصر، وكنت عرفته في العام 1990 في أثناء فعاليات المؤتمر الأول للشعر العربي الذي انعقد بفاس. واستمرت معرفتي واتصالي بالشاعر عبر مئات المكالمات الهاتفية حينما كان مشرفا على الملحق الثقافي لصحيفة ( القدس العربي ) بلندن. وعبر عشرات النصوص الشعرية والمقالات النقدية التي كان ينشرها لي بكرمه وأناقته، وأريحيته المعهودة، وخلقه الرفيع، وشاعريته الفياضة والمتوقدة. فكيف أنسى تلك الليالي الفاسية الموشومة في الوجدان والذاكرة مع أمجد ناصر، ومع الشاعر الفلسطيني غسان زقطان، والراحل محمد القيسي، والشاعرة السورية مرام المصري. كنا عصابة ليل. أحشرهم في سيارتي المتصدعة الحمراء: ر9 ، التي سماها أمجد: ( المقاتلة الصبور )، ثم نتوه في رحلة "خيامية"، نذرع شوارع وحواري فاس القديم والجديد، ونحط الرحال، بعد إعياء وتعب، بمقاهيها، وخماراتها. ألم يكن الوقتُ، رغم الطواغيت، وبؤس واقع الحال، وقتَ وردٍ وحب، ويفاعةٍ، وشعر، وطيشٍ جميلٍ، وحماقاتٍ مُبرَّرَة؟.