شارك الشعراء محمد بنيس وعبد الله زريقة ورشيدة مدني في الدورة الثالثة من مهرجان »أصوات حيّة« الشعري الذي تستقبله كل عام مدينة سيت الفرنسية. وقد دُعي الى المشاركة في نشاطات هذه الدورة (من 20 إلى 28 يوليوز)، إلى جانب جمهور المهرجان الغفير الذي يزداد عاماً بعد عام، 103 شعراء بينهم 95 شاعراً من دول شاطئ المتوسط وثمانية شعراء من بلجيكا ومقاطعة كيبك ودول أميركا اللاتينية وإفريقيا. واللافت في برنامج المهرجان هذا العام كثافة نشاطاته اليومية التي تجاوزت الستين أحياناً وتراوحت بين أداءات وقراءات شعرية، واكبها أحياناً عزفٌ موسيقي، ونقاشات في ساعات النهار، وحفلات موسيقية ومسرحية في المساء؛ نشاطاتٌ توزّعت على ساحات المدينة وشوارعها الضيّقة وحدائقها العامة والخاصة وبلغت مرفأها ومسرحها البحري ومراكب صيّاديها. وكما في الدورتين السابقتين، كانت نسبة الشعراء العرب المدعوين هي الأكبر مع ثلاثين شاعراً وشاعرة، وهم بالإضافة إلى الشعراء المغاربة: أمجد ناصر (الأردن)، عبدالرحمن الطهمازي وعبد الزهرة زكي وصلاح الحمداني (العراق)، صلاح ستيتيه وفينوس خوري غاتا وشارل شهوان وغسان علم الدين (لبنان)، عبدالوهاب المؤدب وطاهر بكري وصلاح بن عياد (تونس)، محمود أبو هشهش وعثمان حسين (فلسطين)، أكرم القطريب ولينا الطيبي (سورية)، علاء خالد وغادة نبيل (مصر)، عبدالسلام العجيلي وسعاد سالم (ليبيا)، سعيد هادف والطيّب لسلوس (الجزائر)، محمد الدميني وحمد الفقيه (السعودية)، ظبية خميس (الإمارات)، مهدي سلمان (البحرين)، عبد يغوث وفاطمة الشّيدي (عُمان)، سعدية مفرّح (الكويت). ومن الشعراء العرب الذين سجّلوا حضوراً لافتاً أثناء المهرجان، نذكر أولاً الطهمازي الذي خلب المستمعين إليه بقصائد هرمسية مستقاة من عمق كينونته، ولكن أيضاً بشخصيته الشفّافة والمتواضعة ومداخلاته الجانبية حول جيل الستينات العراقي الذي ينتمي إليه. وشكّل أمجد ناصر بحضوره الحيوي ونصوصه المرجعية في حداثتها ومواقفه الشعرية والسياسية الجريئة محوراً رئيساً لمعظم الشعراء العرب المشاركين. وبينما غصّت أماكن قراءات ستيتيه بجمهورٍ غفير نظراً إلى شهرته الكبيرة والمُستحَقّة في فرنسا، شكّلت شخصية شارل شهوان الشعرية وطرافته نقطة جاذبية واضحة خلال المهرجان، كما لفتت نصوص أكرم القطريب انتباه الكثيرين بشكلها الحديث ومضمونها المستوحى تارةً من تجربة المنفى وتارةً من وضع بلده المأسوي. أما محمود أبو هشهش وعثمان حسين فنال كلّ منهما قسطه من الاهتمام بفضل قصائد شخصية حديثة المبنى مستوحاة من حياته اليومية الخاصة وتتجلى المأساة الفلسطينية فيها كواقعٍ حميم أو خلفي. ولا ننسى غسان علم الدين الذي شارك بقصائد، تارةً قصيرة ومشدودة على ذاتها وتارةً طويلة على شكل حوارٍ مع نفسه أو مع الحبيبة تعبره صور شعرية مبتكَرة، أو محمد الدميني الذي أذهل المستمعين إليه بنصوصٍ مشغولة بعناية وخطابٍ شعري بليغ ولغةٍ متينة وجميلة. طبعاً، ألقت أحداث "الربيع العربي" بظلّها على الحوارات التي أُقيمت مع بعض الشعراء العرب. وإذ يستحيل هنا الخوض في كل ما قاله شعراؤنا حول هذا الموضوع، فالمضمون كان في كل مرّة هو نفسه، وإن بكلماتٍ مختلفة، ويمكن اختصاره على النحو الآتي: ضرورة الاستمرار في الثورة حتى التخلّص من كل أنواع الجور والطغيان والفساد المستشرية كأمراضٍ قاتلة في جسد عالمنا العربي، والتنبّه كي لا تقع مكتسبات هذه الثورة في أيدي جهاتٍ ظلامية أو رجعية فاعلة. ولا شك في أن الوقع الكبير للثورات العربية على نفوس الفرنسيين هو الذي يُفسّر وقوع بعض مُحاوري شعرائنا مراراً في خطأ قراءة أو تفسير عددٍ من قصائدهم على ضوء الأحداث العربية الراهنة حصراً، قبل أن يتنبّهوا لاحقاً إلى حق الشاعر في الحياة والكتابة من منطلق فردي، خارج نطاق هويته القومية وبمنأى عن المشاكل التي يعانيها وطنه الأم. وعلى مستوى تمثيل شعر الضفة الشمالية لحوض المتوسّط في المهرجان، لم تشمل حصة الفرنسيين العالية جداً (29) وجوهاً شعرية كبرى وقوية، وإن كان لافتاً حضور بعض شعراء الأداء فيها، مثل ساندرين جيروند وسيباستيان ليبيناس وفريديريك سومانيه. وفي المقابل، جاء تمثيل الدول المتوسّطية الأخرى ودول أميركا اللاتينية قوياً على رغم محدوديته (شاعرَان من كل دولة)، مع غي غوفيت من بلجيكا وجوزيبّي نابوليتانو من إيطاليا، وقد وزّع هذا الشاعر على الشعراء العرب مختارات من قصائده مترجمة إلى العربية، ونونو جوديس من البرتغال وخوسيه أنجيل لايفا من المكسيك وإدواردو كيرينو من البيرو ... لكن أهمية هذه التظاهرة لا تقتصر على هاتين النقطتين، فقراءات الشعراء خلالها تتم دائماً بلغاتهم الأم وباللغة الفرنسية، وهو ما يستدعي نقل نخبة واسعة من نصوصهم إلى لغة موليير (نحو 2500 نص!)؛ مهمةٌ شاقّة تستبق انطلاقة المهرجان بشهور وتحوّله إلى مختبرٍ فريد في ميدان ترجمة الشعر. وكما لو أن كل ذلك لا يكفي، تعمد إدارته كل عام إلى إصدار أنطولوجيا تتضمن قصيدة ونبذة عن سيرة جميع الشعراء المدعوّين بالتعاون مع دار »برونو دوسيه« الباريسية، إضافةً إلى خمسة كُتُب شعرية باللغة الفرنسية وبلغة الشعراء الخمسة المختارين، بالتعاون مع دار »المنار«.