"حاصرت" الحرب وأهوالها الصحفي المغربي عبد الرحيم التوراني في بيروت الجريحة، وهو الذي تعود التردد عليها والإقامة بين أهلها كلما زار أهله هناك، لكن الحرب التي باغتت اللبنانيين وحاصرت بلدهم من الجو والبر والبحر، فرضت عليه المكوث هناك في انتظار ساعة الفرج والنجاة. ومع مرور الوقت وجد التوراني نفسه في قلب تجربة صعبة، وهو الانسان المبدع والمبدئي الذي لم يٌخف هواه يوما لبيروتوللبنان بكل يقاعه ولأهله بمختلف أطيافهم، فخط َّ مجموعة الخواطر التي ننشرها هنا، وهي عبارة عن لحظات ولقطات مسروقة من وقت مستقطع ما بين غارة وأخرى، تحكي لنا عن اليومي والإنساني والوجداني والذاتي والموضوعي.
*** *** *** [لم تجئ مثلما حلمت بك دنياك/ قبل انطفاء عيون الدمى/ واشتعال جلود القرابين/ جئت سماء من الشفق القرمزي/ عرياناً كالشمس/ مختبئاً في معانيك/ خلف زجاج العيون ومنحنيات المرايا/ مثل روح بدائية/ لبست شكلها الميت الحي/ ثم مضت تتحسس غربتها/ في وجوه الضحايا….] (محمد الفيتوري) *** أشعر الآن، وأنا أهم بكتابة هذه الكلمات والأسطر، كمن يدخل حلبة هذيان بصراخ مكتوم، أو يلج ساحة رقص مجاذيب يتنافسون في ترويض الروح الإنسانية المقهورة والمعذبة.. وكمن لا يلوي على شيء.. أهرب "عرياناً يرقص في الشمس"، وفق تعبير الشاعر السوداني الكبير محمد الفيتوري، دفين "مقبرة الشهداء"، على ضفاف المحيط الأطلسي في الرباط… ولأني لست محللا سياسيا أو خبيرا عسكريا يفهم في خبايا وأسرار الحروب.. فإني أعتذر سلفا لمن ستقع بين يديه وأمام عينيه هذه الكلمات، فليتجاوز عن هذياني… *** كل صباح أستيقظ حزيناَ، بشعور جارف من شدة الوجل… منذ وصول الحرب إلى بيروت، إلى الضاحية الجنوبية، صار نومي متقطعا أكثر من السابق. بين ساعة وأخرى أغادر وسادة غصَّتْ بالكوابيس.. أنهض من على سرير النوم الذي لم يعد يستحق اسمه، مثل كثير من الأشياء والأمور والحالات التي أفقدها واقع الحرب معانيها.. أقوم لأتفقد الهاتف الذكي، أفتح التلفزيون، أو "الوتساب" لأطلع على آخر الرسائل المتصلة بتطور الوضع.. رسائل لمجموعات أنشئت حديثا، ولمجموعات أخرى غيرت اهتماماتها وتحولت إلى مصدر لتبادل أخبار النازحين والمهجرين، أو لسرد قصص إخبارية لا يصل صداها إلى مراسلي القنوات الفضائية.. ومنها الاصطدامات التي حدثت في منطقة "الحمرا" بين مجموعة محسوبة على الحزب القومي السوري الاجتماعي ومجموعة ثانية من حركة أمل.. وأطلق فيها الرصاص من سلاح شخص قيل إنه يحمل الجنسية المصرية.. وأصيب فيه ثلاثة أشخاص بجروح متفاوتة… أو واقعة "اقتحام" في ساعة ليل متأخرة لعناصر من "حزب الله" إلى "قصقص" أحد أحياء منطقة "طريق الجديدة"، على تخوم المخيمين الفلسطينيين صبرا وشاتيلا، بمحاذاة منطقة "الغبيري" التي تعرضت لقصف وغارات… ما زاد من حدة الخوف والرعب لدى الساكنة. خصوصا بعد تصادم أهل الحي مع عناصر قافلة الثنائي الشيعي، أو"القمصان السود" كما يطلق عليهم، وهم يركبون الموتوسيكلات. ومن المعروف أن المنطقة سنية، وساكنتها محسوبة على "تيار المستقبل" الذي أسسه الراحل رفيق الحريري.. وواضح أن سبب التصادم هو أن الناس يتخوفون من تسلل بعض المطاردين من العدو الإسرائيلي، ممن يحتمل أن يكونوا مستهدفين لغاراته الهمجية، ولاقتناص صواريخه الدقيقة المدمرة.. والجواسيس بالباب وعلى الأرض… ولولا تدخل دورية من الجيش اللبناني لتطور الأمر إلى "ما لا تحمد عقباه"، كما يقال… *** وطبعا، مع وجود الفارق، فقد ذكرني هذا التصادم بالسلوك العنيف لجماهير ألتراسات الكرة في المغرب، وبشراسة الجمهور الذي يسمي نفسه ب "العسكريين"، أي أنصار نادي الجيش الملكي، وأنصار الفريق الأصفر، نادي المغرب الفاسي، والألتراسات المتعددة لكل من "القلعتين الخضراء والحمراء" في الدارالبيضاء، أي الوداد والرجاء.. أتذكر الشباب (أغلبهم من صغار العمر) من ضحايا المواجهات ممن ماتوا أو جرحوا في تلك المواجهات، وأؤلئك الذين تم اقتيادهم إلى المحاكم والمعتقلات.. لا شك أن لعبة كرة القدم تشبه الحرب، هناك الملعب كميدان مواجهة وقتال، وهناك الخطط المرسومة، والتجسس على خطط الخصم، وهناك الدفاع والهجوم والأجنحة، وهناك القائد (العميد).. وكذا الرايات المختلفة الألوان مع الشعارت والأهازيج والأناشيد… أما هنا… فنقف على اختلاف الانتماءات الدينية وتعدد الولاءات الحزبية والسياسية.. بالإضافة إلى أهل البلد من اللبنانيين، ستجد السوريين بأعداد جد كبيرة، ممن نزحوا إلى بلد الأرز مع اندلاع "الثورة السورية" في عام 2011.. حتى أصبحوا يشكلون عبئا ثقيلا على الحكومة وعلى المجتمع اللبناني، والإحصائيات تقدر عددهم بملايين تقترب من نصف عدد سكان لبنان.. وكما لا يتم التعامل مع العنف في ملاعب الكرة بشكل جاد من طرف المجتمع الرياضي، بل أحيانا يشجع على مثل هذا السلوك، نجد أن الولاياتالمتحدةالأمريكية، بترسانة أسلحتها المتطورة، وببوارجها وجيوشها، وبتصريحات مسؤوليها، وصمتهم أيضا، يشجعون ويوافقون على ما يجري الآن في غزةولبنان من قتل وتقتيل ودمار وتدمير.. *** لا أملك اللحظة سوى الهذيان، ما دامت الكلمات عاجزة عن أداء أو تبليغ مهمتها. مع تدمير المباني والمنشآت وسقوط الأرواح، يجري بالموازاة تدمير اللغة وتعطيلها.. في أوقات القصف وساعات الغارات، وتحت وطأة خوف حقيقي، ألجأ إلى كلماتي غير المفهومة من المحيط الذي أعيش به، كلمات مألوفة في ساعة الغضب، كلمات وقحة ونابية حتى، من قاموس الدارجة المغربية، لغتي الأم.. ودارجة الدارالبيضاء، بحكم الواقع الاجتماعي المحتدم بالمدينة، تزخر بأعنف وأوقح ما أنتجته لهجات ولكنات الدارجة المحلية المغربية بهذا الشأن، مقارنة مع باقي المدن التقليدية والمناطق الزراعية الهادئة.. هكذا عن غير عمد، ينطلق لساني ليتحرر من أي تكلس لغوي محتمل، ليتنفس بأنفاسه الأصلية… عادة، في تواصلي الاجتماعي مع الناس في لبنان، أو في غيره من البلاد العربية، ألجأ دائما إلى اللغة الفصحى، أو على الأصح بما يسمى "اللغة الثالثة"، مزيج من فصيح وعامي "مُفَصَّح"، ولا أنجر إلى محاكاة لهجتهم.. ساعدني في ذلك أن أغلب علاقاتي وارتباطاتي هي مع مثقفين ومتعلمين… لكني سأنتبه إلى أن استعمالي للدارجة سيكون مثل اختيار إرادي لعزلة لغوية، لا شك أنها ستفضي بي إلى عزلة أعمق.. وليس من المستبعد أن يحولني هذا الاختيار إلى منفي، أو شبيه بسجين في حبس انفرادي، أو أسير حرب ينتظر في وجوم موته الصامت.. يا له من عقاب سيء.. أكثر من موحش ومدمر… *** "فضفضة" مترجمة من اللهجة اللبنانية: "فجأة قرر الشعب اللبناني أن يتفاجأ. لديك من هو متفاجئ بالإجرام الإسرائيلي، ومن هو متفاجئ بتخزين السلاح بين بيوت الناس… والمتفاجئ بخرق جدار الصوت.. والمتفاجئ بالتهجير.. والمتفاجئ من غياب الدولة.. والمتفاجئ من الصمت العربي.. والمتفاجئ بموقف إيران.. والمتفاجئ من مراكز الإيواء… والمتفاجئ بالردع.. والمتفاجئ بقدرات الحزب (حزب الله).. والمتفاجئ من الإعلام.. والمتفاجئ بالمحللين (السياسيين والعسكرين).. والمتفاجئ بارتفاع الأسعار.. والمتفاجئ بالمساعدات.. والمتفاجئ بالآراء السياسية المتشددة.. والمتفاجئ بالشماتة.. والمتفاجئ من حجم الدمار.. والمتفاجئ من حاله… "وبعد فيه.."…. منذ 16 سنة وأنا مقيم خارج البلد، ولست متفاجئا مثلكم يا أخي… "مش متفاجئ قدكن خيي!! شو القصة؟ وين عايشين؟…"… *** وين عايشين.. وإلى أين رايحين… وإلى أين سنصل…؟! هل سيكون "الوصول إلى مدينة أين"؟ كما عنون الشاعر العراقي الراحل سرغون بولص أحد دواوينه، وهو يحوم حول الأرض مغتربا منفيا نازحا مطاردا خائفا حاضنا لغته ك"عصفور مبتل".. يفتش عن المكان المجهول الخالي من غارات العدوان.. ومن فائض كوليسترول العنف وأدرينالين التوحش والهمجية… *** مرت أكثر من سبع ساعات دون أن يحدث قصف جديد على الضاحية الجنوبية. وإن تكرر خرق جدار الصوت، أو حلق الطيران الإسرائيلي فوق سماء بيروت على علو منخفض.. فهذا أمسى من الأخبار العادية.. الأخبار المريحة… التي يمكن للمرء التنفس فيها… سأغلق علي في غرفة معتمة، وأطلق لساني ليتنفس بأنفاس لغته الأم، أصرخ بكل قوتي وأدين العالم.. كل العالم… أشتمه وأسبه وألعنه.. "الله يلعن بو العالم"*… هذا العالم "زيرو".. "دوبل زيرو".. "زيرو" مكعب وأكثر… (بيروت، حوالي العاشرة ليلا من مساء الأربعاء 9 أكتوبر 2024) *شتيمة مغربية خالصة، وقد جاءت على لسان الممثل المغربي أحمد يرزيز في فيلم "الزيرو" للمخرج نور الدين الخماري..