بمناسبة عيد الأضحى المبارك وما باتت تصطحبه وتليه من احتفالات بديعة ومبتدعة، يتوارى تزامنا معها مول الحانوت عن الأنظار بشبه إغلاق كامل لقطاع تجارة القرب بالمغرب، البلد المتفتح بغِنَى وتعدد ثقافاته، المنفتح على مختلف العوالم المحيطة به. أطَلت من جيوب ذاكرتي الغاصة عن آخرها بالأحداث والوقائع تحفة مضحكة، جرت معي في مقتبل العمر، بداية تحسسي لملامح الحياة البارز منها والمستتر.. كُنّا ثمانية شبان يافعين من عائلات مرتبطة بنفس القبيلة، جمعَنا الشغف إلى قضاء أول صيف مثل سياح وافدين على عاصمة سوس، رغم أصولنا الطاطاوية القريبة! ولأننا ورَدنا جميعا من نفس الجب الإجتماعي، اتّفقنا أن نكتري "كراجا" في إنزكان بغاية إقتصاد المصاريف، لأن سومة كراء المحلات المعدة للسكن في أكادير مرتفعة مقارنة بالأحياء الشعبية، إضافة إلى سوق الخضر والفواكه المغري بتغذية على مقاس ضِعاف القدرة الشرائية ومنعدميها! وقع اختيارنا على حانوت مهجور بزقاق وسط حارة من حارات إنزكان. تكَيّفنا بسرعة قياسية مع الأجواء السائدة حوله وفي جوفه، إلّا أننا ما كدنا ننعم بالإستقرار المنشود على قدر الإستعداد المرصود، حتى انبعتث السلطة من رماد العيون المراقِبة، ممثَّلةً في شخص المقدم مرفوقا بجوقة مَهيبة، بناءً حسب زعمهم على شكاية مرفوعة من الساكنة إلى سعادة قائد المقاطعة. عجّلت من وثيرة اتخاد القرار بعد مشاورات سريعة، أملاها السياق المشحون بالتخويف. فكان أن نتفاوض مع مالك ملجئنا على أمل استرجاع أكبر قدر ممكن من قيمة الكراء، قبل الرضوخ التام والنهائي لحكم قضَى دون سابق إشعار بالإفراغ الفوري. على طبيعتي لم أستطع فهم الدافع القانوني والأخلاقي من وراء ذلك الإستعجال في تنفيذ حُكم غيابي، ولا حتى استوعبتُ المنطق الذي تذرع به مبتكر المطاردة. فقد كان الأمثل وفق درايتي المحدودة بظواهر الأمور آنذاك، أن يفتح معنا أعوان السلطة باب الحوار للإطلاع على أسباب الشكاية وسياقاتها، ثم سلك أقصر الطرق وخيرها لإيجاد حلول توافقية أو معالجتها بأخف الأضرار الممكنة، سيّما وأننا جميعنا قادمون من بيئة مؤيدة للتعايش واقتسام المساحات الضيقة في الغربة الشاسعة، بغض الطرف عن نظرة الآخر إلى جيلنا، من باب الإستثناء الوارد، وما يُعتقَد أن يترثب من سلوكات محتملة، قد تصدر عن شباب في عُمر الطيش! على أيٍّ.. كان الإتفاق بالأغلبية أن نغادر ذالك الحانوت، وكان الوقت قد تجاوز موعد آذان صلاة العشاء بقليل. ولأننا لا نخطو خطوة دون التقيد بميزانيتنا المتواضعة، راعينا بحيطة وحذر شديدين لكي لا تتشقق أو تثقب من حدة هذا الطارىء المباغث، فاقترحتْ على الإخوان أن نبيت تلك الليلة تحت أقواس قيسارية إنزكان، ولم تكن قد اكتملت بعدُ في البناء بشكل نهائي! بدايةً من حيث شكل القيسارية وما بدى لنا حولها وداخلها من تفاصيل، لم نرى مانعا في اللجوء إليها، ولا ظهر لنا المبيت فيها مستحيلا أو خارج المتناول، ولكن ما إن شرعنا في تجهيز زاوية منها بما يكفي من أفرشة ومن لوازم التخييم المؤقت، حتى بدأت جحافيل المتشردين والمختلين عقليا تتقاطر علينا تباعا. مدججين بعلامات استفهام مترنحة مثل أجسادهم المتمايلة، أخضعونا دون استئذان لمعاينات بطيئة ومتكررة، نحن الطائفة التي حَطّت الرحال في مكان غاب عنّا أنه مخصص لشريحة معينة من الهائمين في أرض الله الواسعة! مع توالي قدوم الزوار الوافدين من أجل الإستطلاع والمسح الطوبوغرافي للمكان، إنخرط الرفاق بجدية في مناقشة تدابير وترتيبات هذا المبيت الطارىء، في ظل الإشكال القائم حول مسألة من سيتوليان النوم مثل حارسَين على طَرفي الكوكبة؟ نقطتَي التماس والإحتكاك! بطبيعة الحال لم أكن لأتخلف عن التطوع لملء أحد الخندقين، وسد باب من بابَي الإرتياب والخوف، ما دمت صاحب الفكرة المريعة، وعلى اعتبار أنه ما سوايَ المفروضُ فيه بالدرجة الأولى التحلي بالشجاعة اللازمة للتصدي لأي تسرب محتمل، قد يهدد لُحمتنا في باحة المعسكر، سيما وأن عملية الإنزال قد بدأت بالفعل. وبأعداد لا يخطئهم الناظر، أضحت القيسارية نُزلا للقادمين من المجهول أفواجا وفرادى، كأنما يتعلق الأمر باستعراض من كرنفالات بوجلود، كل واحد منهم يتفحص المكان بعيون متقدة كالجمر، قبل الشروع في إفراغ الحمولة وبسط النفوذ وتحديد الملكية بالأفرشة والأغطية المهترئة، إعلانا عن حجز أمكنة النوم! من الجانب الأخر تحمس أحد الرفاق مشكورا، وتطوّع هوّ الآخر، ليغلق على الجماعة منفذا من منافذ التوجس، لعل أول ليلة عصيبة من هذا الصيف العجيب تمر بسلام، والشاهد أنني قضيت مجملها تحت تأثير الكوابيس، أصارع شتّى أشكال الكائنات وحشية، ولم أتنفس الصعداء إلّا والصّبح قد أقبل متذبذبا بعد مخاض عسير، وحركة لا يهدأ معها جفن طيلة ليل مليء بالإثارة.. استَيقَظنا جميعا على غير العادة مفزوعين من هول التجربة، كما لو أننا نجونا للتو من كارثة عظمى، ولم نصدق بعد أننا لا نزال على قيد الحياة! لنواصل مسيرة البحث عن الراحة والإستجمام في مدينة سمعنا عنها أنها سياحية بامتياز، إلّا أننا كنّا نتُوق بشوق وجيوب شبه فارغة، إلى قضاء عطلة مقدور على تكاليفها! فاكتشفنا أن المدينة مريحة وصاخبة، وتتسع لكل المتناقضات في الآن نفسه! خلاصة القول أن إنزكان ظلت إلى يومنا هذا عبارة عن قيسارية كبيرة وقبلة جذابة، من الجذب للتمشتردين اجتماعيا، ومن الجذبة للمضطربين سلوكيا، تستقطب وفوذا من المخلوقات العجيبة، ويتناوب على تسيير شؤونها منتخبون من كوكب آخر، حوّلوها إلى كرنفال مفتوح، بلغ مداه، وفاق كل التصورات عندما جرى تطويره، وربطه بمرسوم تقليدي، يثمن العبث، ويعلل المسخ، وينفس عن الحماس الشائع منه والمتشدد. مرقده المفضل إنزكان أو بؤرته الإستعراضية الدشيرة الجهادية، لا يهُم.. المُهم أن بوجلود صار متحورا! بالنهاية ألمْ يقل العرب: "أُكِلْنا يوم أُكِلَ الثور الأبيَضُ" فحقّ على مول الحانوت أن يقول اليوم : "أُكِلْنا يوم أُكِلَ الكبش الأصرَدُ والمستوردُ"!!