خرج شباب الانترنيت إلى الشارع يوم 20 فبراير 2011 للمطالبة بالتغيير، ودعوا مواطنيهم للخروج، فاستجاب لدعوتهم عشرات الآلاف. التظاهرات التي عرفتها المدن المغربية هي حادث غير مسبوق، ذلك أن المبادرة اتخذها عدد من شباب الفايسبوك والتويتر واليوتوب، بشكل تلقائي، أما الهيئات الأخرى التي شاركت في المسيرات، فهي ساندت الفكرة ودعمت المقترح، وانضمت إلى المشروع. وهذا معناه أننا دخلنا مرحلة سياسية جديدة، إذ ظهر إلى العلن فاعل سياسي جديد، لم يطلب الإذن من أحد من أجل أن يتحرك، ولم ينتظر ترخيصا أو تزكية من جهة من الجهات، ولم يتقدم بالتماس الحصول على وصل الاعتراف من أجل ممارسة حقه المشروع في التعبير بأسلوب سلمي راق عن رغبته في التغيير. إن مسيرات 20 فبراير، بالشكل الذي جرت به، قد أكدت على أننا أمام عمل يحمل عددًا من السمات الأساسية : أولاً : إنه ليس نوعًا من اللهو، والتقليد الأجوف، والحماس العابر، والوعي السطحي. والدليل على ذلك هو قوة إرادة الشباب التي لم تنفع معها الحملات المضادة. لقد ذكر التصريح الصحفي لوزير الداخلية أن حركة التظاهر شملت 53 عمالة وإقليمًا، فهي إذن لم تكن حركة محدودة من حيث المكان. أغلب الأحزاب السياسية قرر رسميًا مقاطعة الحركة، بل هناك أحزاب دعت المواطنين إلى عدم الاستجابة لدعوة التظاهر لاندراج هذه الدعوة –في نظرها- ضمن أجندة ومنطلقات ومرام غير واضحة. إلا أن العمل الذي قام به ما يمكن تسميته ب "حزب الدولة الالكتروني" كان مثيرًا ويعكس الخوف من الديمقراطية. لقد جرت محاولات لتشويه سمعة أصحاب المبادرة وتقديمهم في صورة مخربين مرتبطين بمصالح خارجية، وأعداء للوطن ومتآمرين مع أعدائه وخصوم وحدته الترابية، ومنحلين أخلاقيًا، وجرى تخويف الناس منهم، وقرصنة حساباتهم، وتوجيه أخبار كاذبة ورسائل مزيفة باسم تلك الحسابات الالكترونية، وتنظيم حملات لصد الناس عن المشاركة في التظاهرات، وتجند بعض أعوان الداخلية للاتصال بعائلات عدد من الشباب قصد دفعها إلى الضغط على أبنائها للتخلي عن فكرة المسيرة أو عدم المشاركة فيها. لم يسبق في تاريخ المغرب المستقل أن تعرضت فكرة تنظيم مسيرة لكل هذا القدر من المحاربة والتسفيه والتشويه، ولم يسبق أن تجند كل هذا القدر من الأحزاب والصحف والأجهزة والأبواق لتعطيل ممارسة حق التظاهر. ثانيا : أن مسيرات 20 فبراير مثلت بحق إنجازاً رائعاً، وذلك بالنظر إلى الوسائل المحدودة التي توفرت للشباب وضآلة إمكاناتهم وحجم الحملات المضادة وأخبار الإلغاء الكاذبة والإشاعات وأساليب الترهيب. لقد شارك في المسيرات عشرات الآلاف من المواطنين. وذكرت يومية "التجديد" الناطقة باسم حركة لم تشارك رسميًا، أن مسيرة الرباط شارك فيها 30 ألف مواطن، وتحدثت جريدة "العلم" عن "إقبال متوسط" واعتبرت الاتحاد الاشتراكي أن "الاستجابة كانت متفاوتة"، أما وزارة الداخلية فصرحت أن مجموع عدد المشاركين هو حوالي 37 ألف مشارك في المغرب كله، ومن يعرف العقلية التي تشتغل بها وزارة الداخلية عندنا لن يستغرب سعيها إلى التقليل من حجم مسيرات 20 فبراير. المهم هو أن المسيرات تمت وبأعداد محترمة، وأن الداعين إليها نجحوا في رفع التحدي. ثالثا : إن المسيرات نجحت في خلق روح عامة من الانسجام والتكثل بين مختلف الأطياف والتوجهات والمرجعيات التي وجدت بدون صعوبة – ورغم بعض الاستثناءات والمشاكل هنا وهناك – مساحة مشتركة للفعل والتحرك. هناك تيار يخترق اليوم كل الأحزاب الحقيقية، ويعتبر أن ما يجري في العالم العربي يتعين أن يكون محفزاً لنا في المغرب على الدخول في عهد جديد من النضال السياسي، لإنجاز تغيير نوعي تاريخي في بلادنا يقطع مع الأساليب التي اتُبعت منذ نصف قرن، ويثبت الأسس الحقيقية لملكية برلمانية ديمقراطية واجتماعية. نحن أمام تكثل جديد في طور البزوغ والتبرعم، يتخطى الحدود التنظيمية الحزبية ويتجاوز القيادات التقليدية، يقوده الشباب الذي أخذ مبادرة 20 فبراير، وتسنده قوى حية مدنية وسياسية وفاعلون ورموز وطنية، تعتبر أن الحسم مع الاختيار الديمقراطي يجب أن يتم الآن وليس غداً. رابعا ً: إن مسيرات 20 فبراير قد أسقطت أسطورة عزوف الشباب عن السياسة، وأثبتت أن هناك ربما عزوفا عن الطريقة التي تُمارس بهما السياسة في المغرب عموما وأن هناك استشرافا لآفاق جديدة، ورغبة في خلخلة مشهد سياسي فقد الكثير من وهجه ومصداقيته وارتباطه بنبل السياسة كخدمة عمومية، وتخلى عن الكثير من أدواره ووظائفه واستقلاله. إن المبادرة التي قام بها عدد من الشباب المغاربة المستعملين للأنترنيت كان يجب في الأصل أن تتولاها الأحزاب الديمقراطية التي تتحدث في بعض المناسبات أحياناً باحتشام عن تعثر أو تأخر أو تعليق أو إجهاض الانتقال الديمقراطي ولكنها لا تبادر باتخاذ أي إجراء ملموس لتدارك الوضع. خامساً : إن مسيرات 20 فبراير قد كشفت عن نضج الشباب المغربي الذي دعا إليها، وعن قدرته على الالتزام بقواعد التعبير السلمي الحضاري عن المواقف والأفكار، دون تشنج أو عنف أو استفزاز أو تعريض لحقوق وممتلكات الآخرين للأخطار. سادساً : ان مسيرات 20 فبراير قد أعادت التذكير بالمطالب التي سبق أن أُعلنت، ولم يتم ركوب جانب التطرف والمغالاة، ولم يجر رفع أي شعار يمس بشخص رئيس الدولة أو يدعو إلى تقسيم البلد أو يساند الانفصال أو ينادي باستعمال العنف أو الكراهية أو التمييز ضد الآخرين. وهكذا فإن الشعارات المرفوعة بصورة عامة لم تخرق في النهاية سقف المطالب الآتية : إقرار دستور جديد مؤسس للملكية البرلمانية. محاربة الفساد ومحاكمة المفسدين. حل الحكومة والبرلمان. إزاحة بعض المسؤولين والعاملين في الدائرة المركزية للقرار. إطلاق سراح المعتقلين السياسيين. تشغيل العاطلين. التخلي عن فكرة "حزب الدولة". توفير الخدمات الاجتماعية للجميع. تحسين مستوى معيشة المواطنين والحد من غلاء الأسعار. وفي مواجهة حركة 20 فبراير، يظهر أن النظام المغربي يريد ربما أن يقدم الدليل على رفضه اختيار القبول الطوعي للتغيير والتجاوب مع المطلب الديمقراطي الذي يعم أرجاء العالم العربي اليوم، كما يتعمد النظام ربما تأكيد مقولة عدم وجود استثناء مغربي. فبخصوص المسيرات، تم اعتماد نوعين من التعامل : النوع الأول –أريد له أن يكون ظاهرًا- وتلخص في عدم منع المسيرات، وعدم إيذاء المتظاهرين أثناء سيرانها. والنوع الثاني – الذي أريد له أن يكون خفياً- تجلى في عمل كل شيء لإفشال المسيرات والسعي إلى عدم حصولها. لقد أطلق بعض أصحاب المبادرة على ما قامت به وسائل الإعلام العمومية مصطلح "البلطجة الإعلامية". فإذا كان البلطجي هو الذي يسعى بالنسبة للثورة المصرية، إلى تعطيل ممارسة حق التظاهر باستعمال الحجارة والعصي والجمال والخيول في ميدان التحرير، فإن البلطجي الإعلامي هو الذي سعى إلى تعطيل ممارسة حق التظاهر باستعمال التضليل والكذب والتحايل والإشاعة وتشويه سمعة الأشخاص. ووصل الأمر إلى حد ترويج خبر يوحي بإلغاء المسيرات، من طرف وسائل إعلام لم تمارس في الأصل واجب إخبار الناس بأن هناك إعلاناً عن تنظيم المسيرات. وهذا يعني أو وسائل الإعلام العمومية إنما تكشف حقيقة كون السلطة عندنا هي ضد هذه المسيرات، حتى ولو تظاهرت بأنها تعتبرها عادية وجزءا من ممارسة حق التعبير والتنظيم، إذ لو كانت السلطة ترى الأمر عادياً لما لجأت إلى الإيحاء للناس بأن المسيرات أُلغيت. ولو كانت ترى الأمر عاديا لاستضافت منظمي تلك المسيرات ليشرحوا للناس أفكارهم بكل حرية قبل تاريخ التظاهرات وليدافعوا أمام الجميع عن رأيهم –كما يحصل بالنسبة للمسيرات التي تكون محط مباركة رسمية- لو كنا في بلد ديمقراطي لتم فتح تحقيق ولتم إقالة أو استقالة وزير الاتصال، بعد نشر خبر يوحي بإلغاء المسيرات. لو كانت السلطة ترى الأمر عادياً لما أجهدت نفسها في تقديم أرقام ضعيفة عن نسبة المشاركة. فما الذي يريدون تبليغه لنا من خلال تقديم هذه الأرقام الضعيفة. هل يريدون الإشارة إلى أن المطالب المعبر عنها خلال مسيرات 20 فبراير هي مطالب أقلية في المجتمع وأن الاستجابة إليها بالتالي غير ملزمة، وأن قطار الإصلاح يجب أن يسير بالإيقاع الذي ترتضيه "الأغلبية". إن هذه "الأقلية" يا سادة تطالب بالديمقراطية، فحتى ولو تظاهر مغربي واحد فقط من أجل الديمقراطية، أو لم يخرج أي مغربي للمطالبة بها، فإنها واجبة ومفروضة حتى يكون للحكام شرف الانتماء إلى العالم المتحضر، وإلا فليعلنوا صراحة رفضهم للإعلان العالمي لحقوق الإنسان وخروجهم من منظمة الأممالمتحدة . وبما أن صيغة التوفيق الوحيدة بين نظام ملكي وراثي وقواعد الديمقراطية هي الملكية البرلمانية، فإن إقرارها ببلادنا هو حق ثابت لنا، لا يمكن أن يمنعنا أحد منه، وهو ما تمنحنا إياه المادة 21 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان التي تؤكد أن "إرادة الشعب هي مناط سلطة الحكم" وأن هذه الإرادة "تتجلى من خلال انتخابات نزيهة تجري دورياً بالاقتراع العام". وليس من خلال البيعة أو تأويل خاص للإسلام أو الاستمرارية التاريخية. لقد انتهى عهد الأنظمة الجمهورية أو الملكية المطلقة أو شبه المطلقة منذ زمان، واليوم فإن الصحوة الديمقراطية بمنطقتنا إنما تعيد تأكيد هذه الحقيقة. ونريد لبلادنا أن تتجاوب مع هذه الصحوة ومتطلباتها بدون إراقة قطرة دم واحدة . إن الشباب الذين دعوا إلى مسيرات 20 فبراير قد شقوا أمامنا سبيلاً للنضال من أجل التغيير. إنهم عملياً صنعوا "الحدث الكبير" الذي كان ينتظره الكثيرون، إنهم خلقوا تياراً داخل المجتمع وحددوا مطالبهم بوضوح، وانتقلوا إلى الفعل، ووجدوا بجانبهم قوة إسناد من مكونات عدة تجاوبت مع المبادرة. إننا اليوم أمام قيادة شبابية استطاعت جر هياكل وطاقات فردية وجماعية إليها، وأخرجت الحياة السياسية من الرتابة والجمود، وو َّفرت لنفسها قاعدة مناضلة، وبدأت معركتها الأولى. بهذه الطريقة، يمكن أن نصبح بصدد كائن سياسي جديد، عبارة عن نواة أولى لتكثل القوى والعناصر المطالبة بالتغيير الديمقراطي الحقيقي والمستقلة عن الدولة، بقيادة شبابية، وبرنامج نضالي وتعاقد على الالتزام بأخلاقيات الفعل السياسي النبيل . في 20 فبراير 2011 خرج مولود سياسي من الرحم بعد حمل عسير ومخاض طويل. وربما يقع على عاتق المغاربة الملتزمين بالمعنى الحقيقي للديمقراطية، والذين يرفضون الانتظارية وأنصاف الحلول غير المجدية ومنطق الانتقالات المعلقة وصيغ ربع أو نصف الديمقراطية، أن يلتفوا حول شباب 20 فبراير، بلا وصاية أو أبوية أو استغلال سياسوي، وأن يفسحوا لهم مجال قيادة المرحلة وتشكيل البديل المستقبلي . التكثل السياسي الجديد، ليس حزبا سياسياً، بل هو جزء من متطلبات النضال من أجل الانتقال الديمقراطي، وهو قادر على التحول إلى لاعب أساسي لا محيد عنه في صنع هذا الانتقال. هذا التكثل يمكن أن يتشكل من: شباب 20 فبراير كقيادة، ومن أحزاب يسارية معارضة، ومنظمات حقوقية، وهيئات مدنية حداثية، وجمعيات الحركة الثقافية الأمازيغية، ونقابات، ومناضلين وتيارات أو حساسيات من الأحزاب الديمقراطية، ومناضلين أو تيارات أو حساسيات إسلامية تقبل بدولة مدنية ديمقراطية، ورجال أعمال، وشخصيات فكرية وإبداعية، ورموز وطنية..إلخ. سيمثل هذا التكثل، حال قيامه، إضافة نوعية للحياة السياسية المغربية وسيغير إيقاعها. وفي جميع الأحوال فإن حركة 20 فبراير في المغرب، إذ تذكرنا بأن الزمن العالمي والزمن العربي دخلا مرحلة التحولات المتسارعة، فإنها تنبهنا إلى ضرورة الإسراع بإنجاز مهام إعادة هيكلة الحقل السياسي المغربي التي تتطلبها مواكبة تلك التحولات .