في خضم عالم معلوماتي ذابت فيه الضدية بين الافتراضي والواقعي، حيث الافتراضي رحم يولد منه الواقعي والوقائع الملموسة، في شتى تفاصيلها المسموعة والمرئية، الشاردات والواردات، تصبح موردا للافتراضي وضمانة لمصداقيته، مكسبة إياه مقدرة هائلة على دفع الناس إلى معرفة الحقيقة كاملة غير منقوصة... ومن بين ثنايا هذا العالم، جاءت فكرة هذا الملف، الذي ستحاول فيه «المساء» الوقوف عند الدور الذي باتت تلعبه الثورة الرقمية والمعلوماتية المعاصرة في المتغيرات التي يشهدها العالم العربي، بالاستناد إلى عدة مؤشرات تضع القارئ في صورة ما يقع... ففي مجتمعات عربية مغلقة وأخرى تتهجى أبجديات الانفتاح، طرحت التقنية الرقمية منذ بداية دخولها إلى العالم العربي مشاكل حقوقية وقانونية وأخلاقية وسياسية وقيمية بالجملة، فالحاكم العربي /الراعي، الذي أسس بنيان حكمه على التعتيم والاختزال وتشويه حقائق الواقع وتزييفها، دون أن يتم اكتشاف جرمه، صعب عليه أن يأتيه حين من الدهر يصبح فيه مجبَرا على أن يعمل في المكشوف، لكونه عاجزا عن الاستمرار في «المستور»، فالمواطن العادي/الرعية لم يعد قاصرا جاهلا يكتفي بما يُصرَّح له به، فهو قادر على الوصول إلى المعلومة بحرية وأمان ودون أدنى مجهود.. بل ويصبح فاعلا في تغيير الواقع. إن حال الأنظمة العربية مع الثورة المعلوماتية كحال من أوصد أبوابه الهشة في وجه طوفان عارم، معتقدا أنه قد أمِن شرها، بينما الطوفان يهدر، ليقتلع في طريقه الأخضر واليابس... فبالأمس، أباد حافظ الأسد مدينة بكاملها تدعى «حماة» ولم ير أحد -حتى الآن- صور الضحايا، وقام ب«توريث» سوريا لابنه، بكل أمان، أما بن علي، اليوم، فقتل 002 فقط ورأى العالم كله صورهم... وها هو طريد ومستجار في بلاد الآخرين.. إنها الثورة الرقمية...
لعب ظهور الأنترنت، دون شك، دورا هاما في تسريع نقل الأخبار والمعلومات وفي دمقرطة المعرفة والاتصال. وقد ارتبط ظهور الأنترنت، عموما، بالوظيفة المتزايدة التي أصبح «العالم الافتراضي» يلعبها في الحياة اليومية للناس، باعتباره مجالا للتفكير والتأمل في بدائل مغايرة للواقع المعيش. ينضاف إلى هذا أن الأنترنت، وعلى مستوى النقل السريع للمعلومات، ارتبط بهاجس السرعة التي اجتاحت المجتمعات الحديثة، سواء على مستوى التنقلات والترحيلات أو الحياة اليومية أو الاستهلاك وغيرها، حيث أصبحت ضغطة واحدة على زر في لوحة المفاتيح تُفضي بك إلى كنز هائل من المعلومات، في «غوغل» أو «ويكيبديا»... إلخ. الدور الآخر الذي لعبه الأنترنت، أيضا، هو أنه في المجتمع الحديث، حيث تسود العزلة الفردية، خلق عالما افتراضيا مشترَكا بين الناس، يتعرفون داخله على بعضهم البعض ويتبادلون الأفكار والاقتراحات، وحوَّل العالم بالتالي إلى قرية صغيرة افتراضية، ألغت المسافات والفروق بين القارات والهويات والأعراق والثقافات، قرية داخلها يعلن أي شخص كان حضوره وهويته، ويرسم البروفيل الذي اختاره لنفسه. وسائط الاتصال تقرب بين الناس لقد لعبت وسائط الاتصال الحديثة، المتمثلة خصوصا في المواقع والشبكات الاجتماعية، مثل «فايسبوك» و»تويتر» هذا الدور، أي التقريب بين الناس، الجمع بين الأفكار والطموحات والرغبات المشتركة، دفع الناس إلى اجتراح طرق التعبير عن آرائهم في حرية تامة، بعيدا عن الطابوهات وأشكال القمع الذاتية والجماعية وبعيدا عن الرقابة والمنع. لقد أصبحت هذه الشبكات الاجتماعية (Réseaux Sociaux) بمثابة «أغورا» (agora) إغريقية، أي ساحة مفتوحة لتبادل الآراء، فيها يعبر الفعَلة عن رغبتهم العارمة في الحياة وفي التمتع بالحرية وممارستها. وقد ازداد دور هذه الفضاءات الأنترنتية وتعاظم، خصوصا في المجتمعات التي يلفي داخلها الناس أنفسَهم -كأفراد أو كجماعة- محرومين من حرية التفكير والتعبير، مراقبين يوميا في أنماط التواصل بينهم، أي في مجتمعات تسلطية واستبدادية لا تعترف للمرء بحقه في المواطنة، وهو ما يحدث الآن في الصين وروسيا وفي العديد من البلدان العربية، حيث صار «فايسبوك» و«تويتر»، على مدى سنوات، المتنفَّسَ الوحيد للناس. لعبت هذه الوسائط، إذن، دورا أساسا في مواكبة التحولات الحديثة التي تحدُث في أكثر من بقعة في العالم، كما في مولدافيا منذ سنوات، وفي إيران مؤخرا، مع انتفاضة «الحركة الخضراء»، إذ يكفي أن يتوفر المرء على هاتف محمول يصور به الأحداث مباشرة، كأي مراسل صحافي، لينقلها إلى الشبكة العنكبوتية وتنتشر عبر العالم، كما حدث مع مشهد اغتيال الطالبة ندى سلطاني من طرف أعضاء الحرس الثوري «الباسيج»، حيث انتشرت صورة وجهها الدامي في كل منتديات الأنترنت وصارت بمثابة «أيقونة» للشباب. لقد لعبت وسائط الاتصال الاجتماعية، مثل «فايسبوك» و«تويتر»، دورا أساسيا في تعبئة الشباب وفي نشر التوعية السياسية وفي توحيد توجهاتهم بالشكل الذي يحولهم إلى جماعة ضاغطة حقيقية في الشارع، تنادي من أجل التغيير وتمارس مواطنتها بالشكل الذي تراه ملائما. لقد خلقت هذه الوسائط جيلا من الشباب «الفايسبوكيين»، الذين قد يبدون عموما ككائنات افتراضية، ما دامت بورتريهاتهم والمعلومات عنهم موجودة في عالم افتراضي ولا أحد بإمكانه التحقق من صحتها، لكن هذه «الكائنات»، وهو ما تناساه الكثيرون، وخصوصا في الأنظمة السياسية التسلطية وأجهزتها الأمنية، هي مجرد امتدادات لأشخاص موجودين بالفعل، أشخاص من لحم ودم، لهم آراء ومشاعر وأفكار وطموحات، أشخاص هم أنفسهم هذا الحشد الهائل من الشباب الذي تجاوز بالكاد سن العشرين في الوطن العربي ولم يعرف غير البطالة وانعدام فرص الشغل وانسداد الآفاق والبؤس الاجتماعي واللا مساواة... حشد من الشباب ظل مقصيا من خيرات اقتصاد الريع، بمختلف أشكاله، ومن فوائد صعود مؤشر التنمية الاقتصادية إلى 5%. هنا بالذات، برز الدور الذي لعبته المدونات (Les blogues) والمدونون (blogueurs) في توحيد الآراء وفي خلق نوع من التصورات المشترَكة بين مستعملي «فايسبوك»، مثلا. لقد رأينا كيف أن المدونين ومستعملي «فايسبوك» و»تويتر» في مصر علقوا على أحداث تونس في صفحاتهم، مما أدى إلى ظهور ما يمكن تسميته ثورة متعاطي الأنترنت ورواده، الذين تبادلوا التهاني والتشجيعات، بحماس، على الشبكات الاجتماعية، حتى إن أحدهم كتب على «فايسبوك»: «التحقوا بثورة المرضى العقليين المصريين من أجل التغيير»، في إشارة ساخرة إلى إحراق البوعزيزي التونسي نفسَه. وخلف هذا الوصف الساخر كانت هناك دعوة جادة هي التي أسهمت في تجمع 25 جانْفْيي، إذ إن أكثر من خمسين ألفا من رواد الأنترنت المصريين أعلنوا، حسب المنظمين، إبان ذلك، أنهم قد يشاركون فيها. لقد عوض «فايسبوك» و«تويتر»، إلى حد بعيد، الدور الذي كانت تلعبه الأحزاب والزعماء السياسيون في صياغة رؤى وأفكار نظرية من أجل التغيير وفي قيادته وتوجيهه، بل إن وسائط الاتصال الحديثة هذه غطت على «الإفلاس» المريع لهذه الأحزاب والشخصيات السياسية. لقد كان دالا أن أغلب هذه التحركات الجماهيرية الشبابية، التي هدفت إلى التغيير وحققته بالفعل، كانت متعددة المشارب والتوجهات، حيث بدت أحيانا كما لو أنها هلامية، تماما كما هي متعددة الشبكة العنكبوتية وغرف الدردشة التي داخلها يتحاورون ويتبادلون الآراء. داخل هذه الشبكات الاجتماعية، يمكن لأي كان أن يصير حزبَ نفسه وزعيمَ نفسه، دون الحاجة إلى أوصياء أو آباء إيديولوجيين رمزيين أو إلى فعلة سياسيين بدا أن الكثيرين منهم بعيدون، كلَّ البعد، عما يفكر فيه الشبان والشابات. كل شيء يقول إنهم شباب مُعوَلم، بنفس الشكل واللباس الذي يمكن أن تجد عليه حشود الشباب، سواء في ساحة «تيانانمين» أو في «ساحة التحرير» أو في «نهج بورقيبة» أو في غيرها من الأماكن. إن «ثورة الياسمين»، مثلا -وهو الاسم الذي أطلقته وسائل الإعلام الغربية على التحول السياسي الذي حدث في تونس- تحيل على أحداث أخرى، مثل «الثورة المخملية» في تشيكوسلوفاكيا، بعد انهيار جدار برلين (1987)، لكن التاريخ لا يكرر نفسه هنا، لأن تونس تمنحنا نمطا جديدا من التغيير السياسي يمكن أن نطلق عليه اسم «الثورات الناشئة أو الوليدة» (émergentes)، التي لم تستخلص دروسها إلى حد الآن، رغم أن الكثيرين، كما في بعض الجرائد المغربية، بدؤوا يكتبون نفس مقال الرأي تحت عنوان متشابه «دروس أو درس ثورة تونس»، علما أن ثورة 1917 نفسَها لم يبدأ الباحثون في استخلاص دروسها إلا عقودا بعد حدوثها. إن الشبان من حملة الشهادات، بنظاراتهم الطبية، هم الذين تقاطروا على نهج بورقيبة وعلى ميدان التحرير، «مسلَّحين» بهواتفهم المحمولة وبصفحاتهم على «فايسبوك»... إنها «ثورة النخب»، المنسجمة مع العولمة، ثورة النخب الطامحة إلى ولادة سياسية مغايرة غير التي عاشوها لسنوات، ثورة بلدان منخرطة في لعبة النمو الاقتصادي وفي خطاطة صندوق النقد الدولي، دول تبنّت، منذ سنوات، سياسة الخوصصة واستثمرت العديد من الأموال في قطاع التربية والتعليم وقامت بتوزيع العديد من الشهادات والدبلومات. لقد اكتشف هؤلاء الشباب، الذين يشكلون نصف ساكنة الدول العربية، أن الشهادات لا تؤدي، بالضرورة، إلى الوظائف المأمولة وأن خيرات النمو موزَّعة بطريقة غير عادية ومنفلتة منهم لكنهم، عبر العولمة والأنترنت، كونوا تصورات وسيناريوهات عما يمكن أن يطمحوا إليه ويحققوه، لو أن بلدانهم لا تمارس «التوريث السياسي» ولا تكون فيها الرشوة هي القاعدة الأساس وتكون فيها انتخابات حرة ولا تستحوذ فيها نخبة لا تتجاوز خمسة أو عشرة في المائة على خيرات البلاد... إن ما يهدد هذه البلدان الناشئة اقتصاديا هو، بالتحديد، حجم المعرفة والعطش إلى التقدم، لدى هذه الفئة الاجتماعية الوليدة، وليس لدى «الخطر الإسلامي»، الذي كثيرا ما وظفته هذه الأنظمة التسلطية لممارسة القمع وإفراغ الساحة السياسية وطرح الفكرة التي سادت في تونس ومصر وفي غيرهما لسنوات والقائلة «إما النظام أو الإسلاميون». منذ سنوات، وبالضبط سنة 2002، دق التقرير الصريح والمؤلم حول التنمية البشرية في العالم العربي، والذي نشره برنامج الأممالمتحدة للتنمية (PNUD) ناقوس الخطر، حين سلّط الضوء على كوارث الحكامة الرديئة التي تمارسها الأنظمة التسلطية، وها هو الشارع يُذكّرها الآن بذلك. أمام قوة الأنترنت والشبكات الاجتماعية، مثل «فايسبوك»، عملت الأنظمة القمعية على تقوية أجهزتها الأمنية. لقد كان دالا في هذا السياق أن البوليس المصري كان يستخدم «فايسبوك» للتعرف على أولئك الذين يحاولون الدعوة إلى تنظيم تظاهرات محدودة العدد لاعتقالهم، لكن الأمر انقلب عليه وعوض أن يكون «فايسبوك» أداة قمعية، تحولت الوسائط الرقمية إلى وسائل للتحرر. وقد أتت تسريبات موقع «ويكليكس» مباشرة قبل ذلك، لتكشف، عبر الوثائق الدبلوماسية الأمريكية السرية، للعالم أجمع أن ما كان الحديث عنه يتم همسا هو حقائق ملموسة أثارت غضب النُّخَب المحلية الشابة في كل من تونس ومصر مثلا. لقد «منَع» النظام المصري «توتير» و«فايسبوك»، للحيلولة دون اتصال الناس في ما بينهم، لكن سرعان ما تضامنت «غوغل» معهم ووفرت لهم منذ فاتح فبراير خدمة جديدة للاتصال، إذ وضع العملاق الأمريكي خدمة هاتفية للسماح للمصريين بتجاوز انقطاع الأنترنت وإرسال رسائلهم على «تويتر». لقد كان دالا أن مجرد الدعوة إلى موعد في مكان ما ك«نهج بورقيبة» في تونس، تؤدي إلى احتشاد الآلاف من حمَلة الشموع، ضمن احتفالات تُذكّر بماي 8691 في فرنسا، احتفالات سياسية يدعو فيها الشباب إلى تركه يضطلع بمهمة التغيير. لقد أسهمت وسائل الاتصال الحديثة، المتمثلة في الشبكات الاجتماعية، مثل «فايسبوك» و«تويتر»، في خلق نوع من الصحافة التشاركية، التي ساهمت بدورها في حركة التغيير السياسي. «الفايسبوك» كفضاء لتداول المعلومات «كان كل شيء في تونس «مكمما» وكان «فايسبوك» الموقعَ الوحيد الذي يسمح لنا بتبادل المعلومات»، تقول لينا بن مهنّي، أشهر المدونات التونسيات، صاحبة مدونة (Tunisien girl). من الدال هنا الإشارة إلى أن المدون سليم عمامو، الذي اعتقله بن علي، صار الآن في الحكومة التونسيةالجديدة سكرتيرَ دولة مسؤولا عن الشباب وأنه يعلق، مباشرة في «تويتر»، على كل مجلس من المجالس الحكومة، باسم أخلاق الشفافية والوضوح والتشاركية. إذا كان مركز الزلزال «الأنترنتي» والسياسي محددا في تونس ومصر، فقد امتدت دائرته وهزاته الارتدادية حتى أقصى شرق آسيا، حيث رأت دول مثل فيتنام والصين وسنغافورة في هذه الثورات الناشئة، نموذجا يهدد أنظمتها الأوتوقراطية بالمعجزة الاقتصادية في الصين، مثلا، والتي انتهى الغرب إلى القبول بها، باسم «القيم الأسيوية»، التي تظل، مع ذلك، نظرية وغير مقبولة، تماما كالحديث عن «الاستثناء العربي» الذي يعني الرفض القدَريَّ للديمقراطية. الدليل على هذا القلق القادم من أقصى شرق آسيا هو أن خدمة الأنترنت في الصين أوقفت إمكانية البحث في محركاتها انطلاقا من كلمة «Egypte»، كما أن التغطية الإعلامية الصينية ركزت فقط على مشاهد الفوضى والعنف والتخريب. تجمع الصين، مثل تونس ومصر، الكثير من السمات المرتبطة بالاقتصاديات الناشئة: نمو قوي، انعدام العدالة الاجتماعية، رشوة وحكامة رديئة ومجموعات هائلة من حملة الشهادات العاطلين، والخطر الأكبر بالنسبة إلى الصين هو أن يتمكن هذا العدد الكبير، يوما ما، من التواصل عبر «فايسبوك» أو «تويتر»، ليوحد كلمته ويتجاوز دفعة واحدة كل الجهد الكبير الذي تبذله أجهزة الرقابة الأمنية ل«مراقبة» الأنترنت... والغريب أن الكثير من الأنظمة التسلطية تنسى، في خضم بحثها عن تأمين مصالحها السياسية والاقتصادية المافيوزية، أن شبكة اجتماعية، مثل «فايسبوك» أو غيرها، يمكن بسرعة وكفاءة عاليين، أن تعوض الساحة السياسية ككل، بأحزابها وصحفها وبياناتها ومواقفها، ويكفي هنا التذكير بأن واحدا من كل زائرَين للأنترنت يلج صفحته في «فايسبوك»، التي صارت الموقع الثالث في العالم من حيث عدد الزائرين، وأن هدف مارك زوكربيرغ، مؤسسِها، هو ولوج بورصة «وول سترت» والاستحواذ على الأنترنت كلها. يتعاطى أغلب التونسيين، تماما كما شباب البلدان العربية، الأنترنت ويرتادون مواقعها ويتقنون تكنولوجيات التواصل. إنه الجيل الذي خلق، عبر المدونات و«فايسبوك» و«تويتر»، فضاءه الخاص والجماعي للحرية والاحتجاج. لقد فقد سؤال «ما العمل؟» اللينيني، بعدَه النظري وصار مرتبطا بكل شخص على حدة، وبكل صفحة من صفحات «فايسبوك». صار بإمكان كل واحد، انطلاقا من تصوره الخاص، أن يمارس على الجبهة الواقعية. يُبيِّن هذا، بالملموس، الدور الكبير الذي أصبحت الأنترنت تلعبه في العالم الحديث، باعتبارها وسيلة من وسائل العولمة الثقافية والسياسية. يتم ابتكار شكل للاحتجاج انطلاقا من العالم الافتراضي (الشبكات الاجتماعية «فايسبوك» و«تويتر»)، لكنْ سرعان ما يشتغل هاجس المحاكاة، ليتم تعميم ذلك الشكل عبر مناطق أخرى من العالم، بعيدا عن حدود الدول وسيادتها الوطنية. لقد لعبت الأنترنت دورا حاسما في هذا السياق، لأن التعبئة والتحرك تمّا، أساسا، انطلاقا من الشبكة العنكبوتية. دعا التونسيون، عبر «فايسبوك» و»تويتر»، المصريين إلى الخروج من عزلتهم، ليجيبهم هؤلاء قائلين، عبر مدوناتهم: «لم نعد وحدنا»، مسلحين بدعم الآلاف من رواد الأنترنت عبر العالم، ومن ضمنهم الجماعات التي يسمي نفسها «Anonymous»، وتتكون من «مناضلين» أنترنتيين هاجموا المواقع الحكومية. لقد بدأت الحركة المصرية، على نموذج الحركة التونسية، عبر تحديد مواعيد اللقاء والتجمع على «فايسبوك»، ل«قصف» الأهداف قصفا افتراضيا، وحتى الملصقات والشعارات تم تقاسمها افتراضيا. على صورة إحدى الملصقات، هناك رأس فرعون ضاحك، بشنب ولحية صغيرة مكتوب تحتها: «اخرج! الموسم الثاني، الحلقة الأولى»... إنها ثورة الهواتف المحمولة التي عوضت، إلى حد كبير، كاميرات الفضائيات. تقول إحدى النصائح التي وجهها التونسيون للمصريين: «لا تنقصوا من سلطة الصور والفيديوهات، صوروا ما أمكنكم ذلك». كان رد فعل النظام المصري سريعا حين «قطع» الاتصال عبر شبكة الأنترنت، لكن رد الفعل تجاوز هذا القطع، تماما كما حدث في بيرمانيا (7002) وفي إيران (9002)، حيث ظل قطع الأنترنت جزئيا مع ذلك. لكن المصريين تجاوزوا قطع الاتصال هذا وسرعان ما «ابتكروا» أرقامَ تشفير سرية، لفتح هذا الفضاءات التي أفلتت من الرقابة الرسمية، حتى ولو كانت صغيرة، لتبادل الأخبار والمعلومات وللتعرف على المبادرات من خلالها بسرعة، وهو ما أربك الأجهزة الأمنية والرقابية ودفعها إلى المزيد من العنف، لأنها صارت عاجزة عن رد الفعل على المستوى الافتراضي، المرتبط بشبكة الانترنت.
«فيسبوك» و«تويتر» يؤديان إلى انهيار آليات القمع الممنهج أظهر «فايسبوك» وباقي وسائط الاتصال الحديثة المرتبطة بالشبكة العنكبوتية أنه عامل من العوامل المهمة في شحذ الهمم وتعبئة الحشود وصياغة شعارات المرحلة من التحولات السياسية التي تعرفها بعض أقطار العالم العربي. أفرز هذا الأمر، أيضا، جيلا من المدونين الفاعلين بقوة في المجتمع المدني، يمكن تسميتهم المدونين -المقاومين أو المدونين -المنشقين، الذين جسّدوا، عبر كتاباتهم وإسهاماتهم، الحسَّ المدني الثاوي تحت أرتال القمع والرقابة، الحس الداعي إلى المواطنة كاملة الحقوق وإلى الحرية والمساواة في توزيع الثروة الوطنية وتحقيق العدالة الاجتماعية. لقد كان زهير يحياوي في تونس أحدَ أوائل هؤلاء المدونين المنشقين الشبان، وقد مات في سجون زين العابدين بن علي سنة 5002، بعد أن قضى سنة ونصف في الاعتقال التعسفي وخاض ثلاثة إضرابات عن الطعام. نشر مجلة إلكترونية بعنوان «tunizine» وكان يوقع مقالاته باسم «التونسي»... كان زهير يحياوي أولَ ضحية ل«القمع الأمني الإلكتروني»، فقط لأنه نشر رسالة للقاضي مختار يحياوي، عمه، الذي فصله نظام بن علي، لرفضه إصدار أحكام انطلاقا من تعليمات خارجية داعية إلى خرق القانون. كان كل شيء في مدونة زهير يحياوي مفتوحا على هذا «الممكن»، الذي سرعان ما تجسَّد سنوات بعد ذلك، انطلاقا من التخيلات السياسية الجريئة والسخرية السوداء والمقالات التحليلية، ليتم القبض عليه في النهاية، بتُهم نشر أخبار كاذبة وسرقة وسائل اتصال والاستعمال السري لها. لم يكن يحياوي غيرَ «عنوان» دال على هذا الجيل القادم، من مرتادي شبكة الأنترنت والمواقع الافتراضية والمدونات، الجيل الذي بيَّن بالملموس أن الاختيار المفروض من طرف الأنظمة العربية بيْن البديل الإسلامي المتطرف أو استمرارية النظام العربي القمعي ليس الاختيارَ الوحيد أمام شباب تشرَّب -بعمق- مكومات العولمة الإعلامية والتواصلية والثقافية. انطلاقا من هنا بالذات، يمكن القول إن التحولات السياسية الملموسة في العالم العربي لم تعد تصاغ في اجتماعات المكاتب السياسية للأحزاب ولا في بيانات المثقفين واجتماعاتهم الماراطونية، بل في غرف الدردشة والمدونات... إنه مجرد تفسير، من ضمن تفسيرات أخرى، لانهيار النظام الأمني العربي، الذي بلور الدولة الأمنية المفصولة عن الشعب وطموحاته، إلى جانب أخرى، كالانفجار الديموغرافي ونِسَب الدولة الريعية (من الريع) التي استحوذت على ثروات بلدانها، ومشكلات التوريث في الجمهوريات الوراثية (سوريا... إلخ). لقد وجدت الدولة الأمنية نفسها، بغتة، أمام جيل من الشباب، نما وترعرع في أحضان غرف الدردشة ومواقع الأنترنت وصفحات «فايسبوك» و«تويتر»، جيل بدا لها صعبَ الفهم، نظرا إلى اختلاف مرجعياته عن مرجعيات النخب الدولتية (من الدولة) والحزبية والثقافية التي صارت مكونة من مجموعة من الشيوخ والعجَزة... لقد كان دالا جدا أن بن علي كرَّر، في خطابه الأخير، الذي كان خطاب الارتباك والخوف والعجز والإحساس بنهاية اللعبة، لفظة «فهمتكومْ»، بالدارجة التونسية مرات، لكنْ بعد فوات الأوان. لم يفهم النظام الأمني العربي أجياله الأنترنتية الشابة، بالرغم من التطور المدهش للأنترنت والشبكات الاجتماعية، الذي كان يحدث تحت أنفه وقريبا جدا من أجهزة رقابته ومخابرته. يكفي هنا التذكير بأن بلدانا، مثل تونس ومصر والمغرب، تعرف نسبة استعمال للأنترنت تتجاوز ما هو معروف في دول متقدمة، مثل الأرجنتين وتركيا والشيلي، وهو ما يترجم، إلى حد ما، مطلبا ظل صامتا وسريا لسنوات، في الخروج من الانغلاق الذي يعاش من طرف هذه الأجيال كبؤس وجودي وحياتي. هكذا صارت الشبكات الاجتماعية ومواقع الأنترنت والمدونات رأسَ حربة المجتمعات المدنية العربية. يتعلق الأمر بتحول جذري في أشكال التمرد والاحتجاج لم يعد معها ممكنا بقاءُ المطالب والحركات الاحتجاجية داخل فضاء محكم الإغلاق!...