الأحداث المؤلمة التي وقعت في الحسيمة وطنجة والعرائش ومراكش وصفرو وكلميم يوم عشرين فبراير لا يجب أن نحولها إلى شجرة لإخفاء الغابة، لقد خرجت مظاهرات سلمية وحضارية في 53 عمالة وإقليما، ولم تقع حوادث الشغب والعنف والحرق سوى في 7 مدن، ومادام القضاء لم يقل كلمته فيها فإن دواعيها ومن يقف وراءها لا يمكن أن تكون إلا غامضة إلى حدود كتابة هذه الأسطر. الآن نحن أمام حدث استثنائي في مغرب اليوم، فطيلة 20 سنة الأخيرة لم تشهد البلاد خروجا كبيرا ومكثفا للشارع للمطالبة بالديمقراطية والإصلاح والتغيير كما حدث يوم الأحد، فالمظاهرات التي خرجت في العقدين الماضيين كانت إما للتضامن مع الشعب الفلسطيني أو العراقي، وإما للاحتجاج على غلاء الأسعار من قبل النقابات والتنسيقيات، أو للمطالبة بالتشغيل من لدن الفئات العاطلة عن العمل، أما أن تخرج 53 مظاهرة سلمية في 53 إقليما وعمالة في يوم واحد كلها ترفع شعارات متشابهة تدعو إلى ملكية برلمانية، واستقلال قضائي، ومحاربة الفساد، وحرية الإعلام والصحافة، والشكوى من البطالة وقلة الكرامة، والمطالبة بحل البرلمان والحكومة، وتنظيم انتخابات نزيهة، فهذا لم يحصل قط في التاريخ الحديث للمغرب. الذي وقع يوم 20 فبراير هو استفتاء شعبي واحد حول الأجندة الحقيقية للإصلاح، ولو كانت أحزابنا تحترم إرادة المواطن لدعت مؤسساتها إلى اجتماع طارئ، ولأعادت النظر في حساباتها ومطالبها وأسلوب عملها، ف99 في المائة من الطبقة السياسية كانت مترددة في الدفاع عن أجندة الإصلاح هذه، بعضها خوفا، وبعضها تملقا، أما الآخرون فإنهم يناهضون هذه الأجندة لأنها لا تصب في خانة مصالحهم، وأما القوى الصغيرة التي كانت تطالب بهذه الإصلاحات وكانت تنعت بأنها راديكالية وعدمية، فإن ضعفها جعل السلطة لا تلتفت إليها. الآن جاء شباب 20 فبراير، وتحت تأثير وضغط ربيع الديمقراطية العربي الذي تفتح قبل شهر، جاء هذا الشباب وقلب الطاولة على الجميع، وخرج يدعو إلى أجندة حقيقية للإصلاح بلا رتوش، ولا حسابات سياسوية، ولا أطماع شخصية، ولا مفاوضات بورصوية، فهل سنستمع إلى ندائه؟ وزير الداخلية، الطيب الشرقاوي، الذي يجمع الصحافة ويلقي عليها بياناته بلا سؤال ولا جواب وكأنه يتلو بيانات عسكرية، قال أمس إن عدد المشاركين في مظاهرات 20 فبراير لم يزد على 30 ألفا في كل العمالات والأقاليم، وإن المظاهرات خرجت في 53 عمالة وإقليما، وإذا قسمنا عدد الذين يزعم الشرقاوي أنهم شاركوا في هذه المسيرات فإننا سنحصل على معدل مشاركة في كل مسيرة يعادل 698 مشاركا، فهل يعقل ذلك؟! في الرباط وحدها، حيث كانت الصحافة الوطنية والأجنبية حاضرة، قُدرت أعداد من شاركوا في المسيرة بما يفوق 20 ألفا، والرباط كانت ثالث أو رابع مدينة من حيث أعداد المشاركين، وذلك راجع إلى هطول الأمطار ودعاية وزارة الداخلية ووكالة الأنباء الرسمية وقنوات التلفزة التي قالت السبت إن تظاهرة يوم الأحد قد ألغيت. لنترك الآن هذه الحسابات الصغيرة ولنلتفت إلى عمق المشكل.. عدد المشاركين يوم الأحد الماضي تجاوز نصف مليون مغربي، وإذا أخذنا في الاعتبار قاعدة علمية معروفة في تقنية استطلاع آراء المستهلكين، والتي تقول إن كل بضاعة فاسدة (السياسة بضاعة أيضا) يرفضها واحد ويعلن ذلك، فإن خلفه 27 فردا آخرين لا يعلنون رفضهم لذات البضاعة، أي أن ليس كل الناس الذين يطالبون بالتغيير وبالإصلاح يخرجون للتظاهر في الشارع، ولهذا يمكن أن نصل إلى رقم تقريبي للأغلبية الصامتة يقارب 13.5 مليون مغربي يؤيدون أو قريبون من المطالب التي أعلنت يوم الأحد الماضي، وقريبون من هذا الرقم أولئك الذين يقاطعون صناديق الاقتراع كما حصل في 27 شتنبر 2007، فعلى الذين كانوا يتساءلون عن آراء 80 في المائة ممن قاطعوا الانتخابات التشريعية السابقة أن يبحثوا في صفوف المتظاهرين عن إجابات قد تسعفهم في الفهم. لا نطلب من وزير الداخلية أن يصبح متخصصا في السوسيولوجيا السياسية، ولكن نطلب منه أن يقدم الأرقام كما هي، لا كما يريد آخرون أن تكون.