أولا : الانقسام الكوني وترسيخ قانون وحدة المميز إذا كان التكوين الإنساني قد عرف وحدة في الأصل والبداية كما دلت عليه الآيات القرآنية والأحاديث النبوية ،وأيضا مقتضى الواقع الإنساني إجمالا وتفصيلا، ظاهرا وباطنا، دقة وتحليلا للخصائص الجسدية الموحدة بين الذكر والأنثى، فإن التكوين الكوني هو بدوره سيقتضي وحدة هي نفسها المعتمدة في برهان الخلق لإثبات الوجود الإلهي، والذي يتضمن ضرورة إثبات الوحدانية بالتلازم، وذلك من خلال قول الله تعالى: " أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ "[1] . إذ في الآية دلالة على وحدة بنية الكون الأصلي، كما فيها الانقسام والتطور إلى ظاهرة الزوجية القابلة للانقسام ، مع الاختلاف الشكلي والاسمي لتحديد التميز أو قانون التمييز الذي يسلب الكمال الذاتي عن كل كائن يخضع للكثرة والتعدد، وبالتالي ففي الآية الدلالة على أن مصدر الحياة واحد في الكون، وهو ذو طابع كلي أحادي الشمول، إذن فالمالك دائما هو الواحد "وكان عرشه على الماء". كما نصت عليه الآية القرآنية. وفي هذه الآية تصريح بحقيقة الكون الأولى ذات الصورة المادية وهو ما يجعلها تخضع إلى ملاحظة الحس الظاهري واستنتاجات العقل من خلال تحليل العناصر المادية التي تنتهي إلى عنصر الذرة أو الجوهر الفرد، كما استقر عليه مذهب جمهور المتكلمين وخاصة الأشاعرة ،ومن هنا فيكون البرهان الكوني حسيا: مشاهدة واستنتاجا إجمالا وتفصيلا. ولقد جاء القرآن بهذا البرهان الدال على وحدانية الله تعالى وهو يعتمد العدد في الظاهرة الكونية، وخاصة العدد الزوجي باعتباره أول الأعداد والرقم الذي تترتب عنه الكثرة ،ويخضع للتمييز والتكاثر بالانقسام والضرب وما إلى ذلك من مقتضى العدد الذي يقابله عدد مثله. لكن العدد الواحد يبقى واحدا لا زيادة فيه ولا نقصان، لأنه ليس بمركب ولا قابل للقسمة ذاتا وعددا كاملا. ولا يكون بمقابله سوى الصفر الذي لا يساوي شيئا بالنسبة إليه، فكما يقول الشيخ محيي الدين بن عربي: "إن الواحد في ذاته لا يتصف بالقلة ولا بالكثرة، لأنه لا يتعدد وبهذا نقول: إن الواحد ليس بعدد وإن كان العدد منه ينشأ، ألا ترى أن العالم وإن استند إلى الله ولم يلزم أن يكون الله من العالم، كذلك الواحد وإن نشأ منه العدد فإنه لا يكون بهذا من العدد، فالوحدة للواحد وإن نشأ منه العدد فإنه لا يكون بهذا من العدد، فالوحدة للواحد نعت نفسي لا يقبل العدد وإن أضيف إليه"[2] وهذا المعنى يفسر لنا قول النبي صلى الله عليه وسلم: "كان الله ولم يكن شيء قبله" [3] وفي رواية "كان الله ولا شيء معه" ثم أدرج "وهو الآن على ما عليه" و "كان الله ولم يكن شيء غيره وكان عرشه على الماء وكتب في الذكر كل شيء وخلق السموات والأرض" رواه البخاري في كتاب بدئ الخلق. فمن الآيات القرآنية المبرهنة على وحدانية الله تعالى من النظر في الكون وظواهره مع اعتبار الواقع الإنساني فيه سلوكا وتاريخا، وجسدا ونفسا، نجد قول الله تعالى: " وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ ، يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ ، أَمِ اتَّخَذُوا آَلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ ، لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ ، لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ ، أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ ، وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ "[4] " قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آَلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا "[5] " مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ ، عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ "[6] ثانيا:برهان التمانع وتلازم وحدة الذات والصفات وعن هذه البراهين القطعية على وحدانية الله تعالى وخاصة عند قول الله تعالى: "لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا" يقول عباس محمود العقاد: "ولن يقوم على ثبوت الوحدانية برهان أقوى من هذا البرهان، وهو برهان التمانع كما يسميه المتكلمون والباحثون في التوحيد"[7]. وهنا ذهب إلى اعتبار ما استنتجناه من برهان العدد والزوجية الإنسانية والكونية على سبيل المطابقة في الرأي والتفسير كما يقول: "وصواب الأمر أن وجود إلهين سرمديين مستحيل، وأن بلوغ الكمال المطلق في صفة من الصفات يمنع بلوغ كمال مطلق آخر في تلك الصفة ، وأن الاثنينية لا تتحقق في موجودين كلاهما يطابق الآخر ولا يتمايز منه في شيء من الأشياء، وكلاهما بلا بداية ولا نهاية ولا حدود ولا فروق وكلاهما يريد ما يريده الآخر ويقدر ما يقدره ويعمل ما يعمله في كل حال وفي كل صغير وكبير، فهذان وجود واحد وليسا بوجودين، فإذا كانا اثنين لم يكونا إلا متمايزين متغايرين....فلا ينتظم على هذا التمايز والتغاير نظام واحد، وإذا كانا هما كاملين فالمخلوقات ناقصة ولا يكون تدبير المخلوق الناقص على وجه واحد بل على وجوه. وعلى هذا فبرهان القرآن الكريم على الوحدانية برهان قاطع وليس ببرهان خطاب أو إقناع"[8] وهذا المعنى قد عبر عنه أبو حامد الغزالي كمتكلم أشعري بأسلوب آخر قريب منه أو مطابق له فيما سبق ورأينا، لكننا نلاحظ على ابن رشد الحفيد في اعتراضه على منهج المتكلمين وخاصة الأشاعرة عدم إحالته أو إهماله الإشارة إلى من سبقه بهذه المعاني أوالاستنتاجات البرهانية كابن حزم الأندلسي والغزالي رغم أنه وظفها بوجه أو بآخر كما يقول في تفسير البرهان القرآني على وحدانية الله تعالى: "فأما الآية الأولى فدلالتها مغروزة في الفطر بالطبع وذلك أنه من المعلوم بنفسه أنه إذا كان ملكان كل واحد منهما فعله فعل صاحبه فإنه ليس يمكن أن يكون عن تدبيرها مدينة واحدة، لأنه ليس يكون عن فاعلين من نوع واحد فعل واحد، فيجب ضرورة إن فعلا فعلا أن تفسد المدينة الواحدة إلا أن يكون عن أحدهما يفعل وينهى الآخر وذلك منتف في صفة – الآلهة- فإنه متى اجتمع فعلان من نوع واحد على محل واحد فسد المحل ضرورة، هذا معنى قوله سبحانه: "لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا" وأما قوله "إذا لذهب كل إله بما خلق" فهذا رد منه على من يضع آلهة كثيرة مختلفة الأفعال، وذلك أنه يلزم في الآلهة المختلفة الأفعال التي لا يكون بعضها مطيعا لبعض أن لا يكون عنها موجود واحد، ولما كان العالم واحدا وجب أن لا يكون موجودا عن آلهة مختلفة الأفعال وأما قوله تعالى:"قل لو كان معه آلهة كما تقولون إذن لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا" فهي كالآية الأولى أعني أنه برهان على امتناع إلهين فعلهما واحد، ومعنى هذه الآية أنه لو كان فيهما آلهة قادرة على إيجاد العالم وخلقه غير الإله الموجود حتى تكون نسبته من هذا العالم نسبة الخالق له لوجب أن يكون على العرش معه، فكان يوجد موجودان متماثلان ينسبان إلى محل واحد نسبة واحدة، فإن المثلين لا ينسبان إلى محل واحد نسبة واحدة، لأنه إذا اتحدت النسبة اتحد المنسوب، أعني لا يجتمعان في النسبة إلى محل واحدكما لا يحلان في محل واحد، إذا كانا من شأنهما أن يقوما بالمحل وإن كان الأمر في نسبة الإله إلى العرش هذه النسبة أعني أن العرش يقوم به لا أنه يقوم بالعرش ولذلك قال الله تعالى " وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا " فهذا هو الدليل الذي بالطبع والشرع في معرفة الوحدانية"[9]. ذلكم هو محور البحث التوحيدي صلب العقيدة الإسلامية ولبها ،حيث مجال الكمال والجمال وملاءمة سياقا واتساقا للقلوب السليمة والمطمئنة، إذ لا اطمئنان إلا بتوحيد القلب عند مناجاة الأحد الواحد الفرد الصمد، فطرة وبنية وغريزة واغتذاء واستجداء. كلية الآداب والعلوم الإنسانية وجدة المغرب [1] سورة الأنبياء آية 30. [2] ابن عربي الفتوحات ج1 ص253. [3] رواه البخاري في كتاب التوحيد [4] سورة الأنبياء آية 19 – 25. [5] سورة الإسراء آية 42. [6] سورة المؤمنون آية 91. [7] عباس محمود العقاد: (الله) ص 234. [8] عباس محمود العقاد: (الله) ص 235. [9] فلسفة ابن رشد: الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة، ص 65 – 66.