أولا: خصوصية الوحدانية ومبدأ جنس العدد إن البرهان على وحدانية الخالق سبحانه وتعالى من خلال العدد النوعي في الكائنات الممكنات قد نجد له صياغات متقاربة على المستوى العقلي أو الوجداني العملي لدى بعض المفكرين المسلمين من متكلمين وصوفية وغيرهم، ندرج بعض أقوالهم باعتبارها تفسيرات مباشرة أو غير مباشرة لمعنى آية التنزيه المطلق لله تعالى " فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ". أ)وفي هذا المعنى أي اعتماد برهان الزوجية أو العدد لإثبات الوحدانية يقول ابن حزم الأندلسي: "ما كان أكثر من واحد فهو واقع تحت جنس العدد، وما كان واقعا تحت جنس العدد فهو نوع من أنواع العدد وما كان نوعا فهو مركب من جنسه العام له ولغيره، ومن فصل خصه ليس في غيره، فله موضوع وهو الجنس القابل لصورته وصورة غيره من أنواع ذلك الجنس، وله محمول وهو الصورة التي خصته دون غيره، فهو ذو موضوع وذو محمول، فهو مركب من جنسه وفصله، والمركب مع المركب من باب المضاف الذي لا بد لكل واحد منهما من الآخر، فأما المركب فإنما يقتضي المركب من وقت تركيبه، وحينئذ يسمى مركبا لا قبل ذلك"[1]. وعن الوحدانية ونفي التعدد والمثلية والتمييز، يقول الغزالي، "وأما قولنا فلا ند له فنعني به أن ما سواه هو خالقه لا غير، وبرهانه أنه لو قدر له شريك لكان مثله في كل الوجوه، أو أرفع منه أو كان دونه، وكل ذلك محال، فالمفضي إليه محال، ووجه استحالة كونه مثله من كل وجه أن كل اثنين هما متغايران، فإن لم يكن تغاير لم تكن الاثنينية، فإنا لا نعقل سوادين إلا في محلين أو في محل واحد في وقتين، فيكون أحدهما مفارقا للآخر ومباينا له ومغايرا إما في المحل وإما في الوقت، والشيئان يتغايران بتغاير الحد والحقيقة كتغاير الحركة واللون، فإنهما إثنان، فإنهما وإن اجتمعا في محل واحد في وقت واحد فهما إثنان في الحقيقة والحد كالسوادين فيكون الفرق بينهما إما في المحل أو في الزمان، فإن فرض سوادان مثلا في جوهر واحد في حالة واحدة كان محالا إذ لم تعرف الاثنينية، ولو جاز أن يقال إنه إنسانان بل عشرة وكلها متساوية متماثلة في الصفة والمكان وجميع العوارض واللوازم من غير فرقان وذلك محال بالضرورة، فإن كان ند الله سبحانه مساويا له في الحقيقة والصفات استحال وجوده، إذ ليس مغايره بالمكان والزمان، إذ لا مكان ولا زمان، فإنهما قديمان فإذا لا فرقان، وإذا ارتفع منه كل فرق ارتفع العدد بالضرورة ولزمت الوحدة ..."[2]. وفي هذا السياق التوحيدي يقول ابن عربي عن برهان النسب والزوجية، "ولما كانت حواء عين آدم لأنها عين ضلعه فما كان إلا أب واحد في صورتين مختلفتين كما هو التجلي، فعين حواء عين آدم فهي عين آدم انفصال اليمين عن الشمال وهو عين زيد كذلك انفصال حواء عن آدم فما ثم إلا أب واحد فما صدرنا إلا عن واحد، كما أن العالم كله ما صدر إلا عن إله واحد فالعين واحدة كثيرة نسب، إن لم يكن الأمر كذلك وإلا فما كان يظهر لنا وجود ولا لنا وجود عين ولا لنا إيجاد حكم"[3]. ويقول أيضا بأن "أن الأجسام الإنسانية وإن كانت واحدة في الحد والحقيقة والصور الحسية والمعنوية فإن أسباب تأليفها مختلفة لئلا يتخيل أن ذلك لذات السبب، تعالى الله، بل ذلك راجع إلى فاعل مختار يفعل ما يشاء كيف يشاء من غير تحجير ولا قصور على أمر دون أمر، لا إله إلا هو العزيز الحكيم"[4]. وإذا كان الإنسان يعرف زوجية من حيث النوع فإنه سينتهي ضرورة إلى وحدة السبب يدركها توحيد القلب الذي لا يقبل سوى اعتقاد واحد في إله واحد لا شريك له، ولا يمكن أن يزاحمه شيء، لأن قلب الإنسان مجازا هو بيت الرحمن لا يقبل ولا يتسع لأن يسكن معه فيه غيره من مخلوقات مهما علا شأنها. ثانيا:وحدة النسب في تسلسل نحو وحدة السبب ومن هذا الربط بين وحدة النسب ووحدة السبب للدلالة على وحدانية الإله، يمكن لنا فهم معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم "اثنتان في الناس هما بهم كفر: الطعن في النسب والنياحة على الميت"[5] و "ليس من رجل ادعى إلى غير أبيه وهو يعلمه إلا كفر"[6]. إذ نسبة الرجل إلى غير أبيه يكون من حيث قاعدة السببية بمثابة نسبة الكون إلى غير خالقه حيث لا يوجد غير. رغم أن مقام الخالق لا يقارن بمقام المخلوق في هذه النسبة، وإنما تكون نسبة المخلوق دليل على سبيل قياس الأولى، وعناصره هي: إذا لم يجز عقلا أو عادة أن ينسب الرجل إلى غير أبيه فإنه يكون من الأولى أن لا ينسب الكون أو الوجود الممكن إلى غير خالقه الواحد الأحد. ب)ومن هنا نفهم أيضا لماذا حرم الله الزنا وشدد على تحريمها مع قربها من موضوع الشرك العقدي الذي هو الظلم العظيم، إذ الزنا مؤدي إلى إهدار الأنساب واختلاطها لا من حيث حقيقتها في ذاتها وإنما من حيث تضييع وفقد نسبتها إلى أصلها، لأن ولد الزنا من حيث نسبته النسلية وتكوينه النطفي ينتهي عادة إلى أبيه غير الشرعي الذي زنى بأمه، إلا أنه حيث لم يلتزم الضوابط الشرعية والعقلية لتحديد هذه النسبة فقد كان المؤدى هو ضياغها في دائرة الشك والتعدد الوهمي الذي لا حقيقة له، وبالتالي نسبة الولد إلى غير أبيه، بمعنى كفره به ابتداء وانتهاء، لأن صلته بأمه لم تكن صلة شرعية، ومن ثم ضاعت النسبة والنسب أو وقع الشك والوهم فاختلط الأمر والفهم. فالطعن في النسب كفر بصريح النص الحديثي، وأسبابه الزنا والقذف، والنتيجة هي الشك والوهم والنفي والحذف، وبالتالي نسبة الفرع إلى غير أصله الواحد الذي عنه صدر وبواسطته وجد، "وما جعل أدعياءكم أبناءكم ذلكم قولكم بأفواهكم والله يقول الحق وهو يهدي السبيل ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله". وفي ربط النسب بالقلب كما رأينا في الآية وما تلاها، فإنه باعتباره مركز الاستقبال والجزم العقدي فسينبغي لتحصيل سلامة العقيدة لديه ألا يكون في تقبله سوى بث واحد، واضح وقار . مثال ذلك على سبيل تقريب المعنى"ولله المثل الأعلى" نجد جهاز التلفاز من حيث استقباله الكامل على الشاشة، إذ لا يمكن أن يستقبل صورة كاملة على شاشة إلا حين يتلقى البث من مركز واحد، لكن إذا تداعت عليه الإذاعات فإن الصورة تفسد لا محالة، فلا تتميز إذاعة عن أخرى ولا يستفاد من هذه أو تلك، وإنما الحالة عندئذ تشويش وتموج وإتعاب للأبصار والأفكار، إذ يستحيل أن يحل شيئان في مكان واحد وفي وقت واحد، وهذا من بدائه العقول ومن الضروريات المتفق عليها. فالقلب لا يمكنه أن يسلم إلا بالواحد لأنه بدوره أحدي التكوين والخلقة، ولهذا فمهما ظهر على سلوك بعض الناس من مظاهر الشك و الشرك والوثنية وفقد الإخلاص العقدي على مستوى التوحيد المطلق لله تعالى فسيكون شأنهم شأن الطاعن في النسب أو المهدر ضوابطه بنفسه، إلا أن الملاحظ على هؤلاء الوثنيين أو المشركين أنهم ينتهون ضرورة إلى الاعتقاد في الواحد المتميز بوجه أو بآخر، لأن الفطرة لا تقتضي سوى التخصيص رغم الانزلاق في أوهام الشرك وظلماته، "وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون" الآية "قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبل كان أكثرهم مشركين" وجمل القول هنا هو أن هذا البرهان العقدي المبين على مبدأ الزوجية والاختلاف للدلالة على الواحد المتميز والذي لا يماثله شيء لهو برهان دقيق وراقي ومرقي لمن يريد السلوك إلى معرفة الخالق الواحد من خلال الكثرة التي هي عينها تثب الوحدة والأحدية في الذات والصفات والأفعال. كما أن هذا البرهان يعطي الحجة البالغة والداحضة لكل خلط بين الأجناس وتحميل صفات الذكور على الإناث والإنسان على الحيوان والجان ،إذ كل له خصوصيته وعالمه ومعالمه ،وإلا فإن فكرة الشذوذ ستكون هي السائدة عند العبثيين واللاأدريين والتطوريين بغير دلبل ولا برهان.وبضدها تتميز الأشياء وبنفس هذا الضد تتحد وتتكامل لتنشئ المجتمعات وتندمج معها أنواع الذرات.فيبقى أن الواحد الذي لا يتعدد ولا يشابه ولا يتداخل مع غيره هو الحكم العدل والفاصل في ربط هذه المختلفات بعضها ببعض.ومن هنا أيضا وجب القول بأن لا تثليث ولا تربيع ولا تخميس ،إذ كل هذه التصورات عبارة عن متاهات لا أساس لها منطقيا ولا دينيا أو حتى غريزيا ،فلا حلول ولا اتحاد ولا تجزؤ ولا اندراج.وإنما الأحد واحد بذاته وصفاته والكثرة متشابهة ومختلفة ومميز بمميز. يقول الله عز وجل:" قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ"." فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ". [1] ابن حزم: الفصل في الملل والأهواء والنحل، دار الكتب العلمية، بيروت. ج 1 ص 61. [2] الغزالي الاقتصاد في الاعتقاد. ص 70 – 71. [3] ابن عربي الفتوحات المكية ج 3 ص 503. [4] ابن عربي الفتوحات المكية ج1 ص 125. [5] رواه مسلم في كتاب الإيمان . [6] رواه البخاري ومسلم.