ذ. طارق الحمودي هوية بريس – الأربعاء 10 فبراير 2016 كان لابن رشد الفيلسوف موقف نقدي قوي وظاهر من المنهج الفكري للمتكلمين معتزليهم وأشاعرتهم على وجه الخصوص والذين خصهم بمساحة نقدية كبيرة من كتابه "الكشف عن مناهج الأدلة"، وقد كان قاصدا تسفيه أصولهم وتكذيب قضاياهم يدفعه إلى ذلك مشروع اجتهد في إقامة دعائمه والانتصار له، ليفصل الفلسفة اليونانية عن المؤثرات الإسلامية، منتقدا سياسة التلفيق أو التوفيق بينهما كما يقال، وهو ما جعل الغرب يتلقف أعمال ابن رشد شاكرا له تخليصها لهم من هذه الديانة المشرقية اللاهوتية في زعمهم. وقد أثار انتقاده هذا ابن تيمية وغيره، ودفعه لمتابعة أعماله وملاحظتها ومحاسبته علميا على جملة من نظرياته ودعاويه، وكان من ذلك موقفه من نقده للأشاعرة، وقد حاولت قراءة ما كتبه في ذلك في درء تعارض العقل والنقل قراءة تتبع لمواطن الموافقة والمخالفة في خصوص موضوع أدلة الوجود الإلهي والوحدانية، للكشف عن المنهج الذي وجهه أثناء المحاسبة، وقد استطعت أن أضع يدي على جملة من محددات منهجه ورتبتها، وسأعرضها مشفوعة بشواهد لذاك مع شيء من التحليل والمناقشة، ثم أنتهي إلى خاتمة مناسبة. سار ابن تيمية على طريقته في إبطال مذاهب الفلاسفة في مباحث الإلهيات، ولم يسلم ابن رشد تبعا لهم من نقده الشديد، بحيث يصف ما يقوله بالحيرة والتناقض أو أخف من ذلك فيسمه بالفساد، وقد بدأ أولا بالتنبيه على عدم ذكره لمذهب السلف في إثبات الصانع. وقد يعترض على هذا بأن ابن رشد إنما قصد الفرق الضالة التي سلكت غير طريقة القرآن فلا محل لاستدراك ابن تيمية عليه، كما قد انتقد عليه تخطئة المتكلمين في استعملاهم دليل التمانع وصححه. وانتقد عليه حصره صفة اليقين في الفلاسفة، لأن فيه نوعا من الإقصاء الظاهر للمتكلمين خاصة، فقال: "أما دعواه أن العلماء المذكورين في القرآن هم إخوانه الفلاسفة أهل المنطق وأتباع اليونان فدعوى كاذبة"[1]. وانتقد عليه حصره طرف الاستدلال العقلي القرآنية في طريقتي الاختراع والعناية مع موافقته عليهما مستدركا عليه بغيرها من الطرق.[2] وانتقد عليه سوء تفسيره لآية "قل لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا"، مدعيا أنها متعلقة بمفهوم الألوهية لا الربوبية خلاف ما فهمه ابن رشد. وانتقد عليه سوء استدلاله بقصة إبراهيم عليه السلام مع الكواكب على حجية الحركة في الدلالة على المحرك، بدعوى إن إبراهيم احتج بالأفول لا بالحركة[3]. وانتقد عليه إقحامه قاعدة الفلاسفة التي أدت بهم إلى القول بنظرية الفيض أو القول بصدور الكون عن حركة وهي أن "الواحد لا يصدر عنه إلا واحد"[4]. وانتقد عليه محاولته التلفيق بين القول بعلم الله بالجزئيات وبين نفي الفلاسفة له[5]. ومع ذلك فقد وافقه في إنكاره طريقة المتكلمين في الجزء الذي لا يتجزأ وما يتبعها من قواعد متعلقة بالأعراض، ووافقه على دليلي الاختراع والعناية[6]. وكانت طريقته في ذلك أن يستعرض كلامه وإن طال حتى لا يفسد النسق والسياق، ثم ينبه على مضمونه تصريحا أو تضمينا في رده[7]، وهو يدل على أنه كان يستوعب كلامه جيدا قبل الرد عليه عارفا بمقاصده منه منتبها للوازمه، ولذلك تجده يتفطن لبعض محاولات الحيدة عن اللوازم فيصفه في بعض الأحيان بالفرار من بعض اللوازم[8]، رادا كلامه إلى أصوله الفلسفية كما يرد مسائل الأشاعرة المنتقدة إلى أصولها عندهم[9]. وألزمه بإبطال مذاهب الفلاسفة كما أبطل مذاهب المتكلمين، كما تعداه إلى إلزام الفلاسفة من جهته بأمور مثل القول بالإرادة الإلهية لقولهم بالحكمة الغائية التي أنكروا على الأشاعرة نفيها كما انتقد ابن رشد في جعله[10]. ومما سلكه ابن تيمية وفاء لمنهجه التنبيه على ما قد يتسبب فيه الإجمال[11] والاشتراك والاشتباه الواقع في الألفاظ الكلامية والفلسفية من فساد في الشكل والمعنى وتنازع لفظي خلاف طريقة أهل السنة الذين "يفسرون المجملات ويوضحون المشكلات ويبينون المحتملات[12]،ولذلك نبه على وجوب ملاحظة التمايز بين المصطلحات ليظهر المعنى[13] كما في لفظ الانقضاء المشترك بين معنى الكمال ومعنى الزوال والانتهاء والزوال[14]،كما نبه إلى أن بعض الأبواب الكلامية والفلسفية يكون فيها النزاع لفظيا[15]. ولم يفوت ابن تيمية الفرصة للتنبيه على أن المعتزلة أصل للأشاعرة في منهجهم الكلامي وبعض مسائله مع ذكر بعض أصول المعتزلة وأقوالهم المنسوبة إلى بعض كبار منظريهم كالنظام في قوله بالطفرة عند حديثه عن قضية انقسام الجواهر. وقد سلك في ذلك طريقة الحوار "إن قالوا.. قلنا.." كما استعمل الأقيسة المنطقية كالقياس الشرطي المنفصل. وكان يبدي اطلاعا ظاهرا على كتب اليونان خاصة أرسطو مع معرفة بأصول ومقاصد فلسفتهم ومباحثها كدلالة حركات النجوم على المحرك الأول. ومعرفة بمصنفاتهم ككتاب كاتيغورياس[16] وخلاصة هذا أن ابن تيمية أصل وحرر، وصف وعرض، أنكر وقرر، ألزم ونبه. خاتمة لابد لمن وقف على هذه المتابعة التيمية لما كتبه ابن رشد في خصوص نقده للأشاعرة خاصة أن ينتبه إلى حضور سلطة المنهج في القراءة الفكرية عند ابن تيمية، وبغض النظر عما إذا كان موفقا في كل جزئيات متابعته فقد لمست نوعا من محاولات الإنصاف لطرفي النقد الرشدي، فتجد ابن تيمية تارة يوافق ابن رشد وتارة الأشاعرة، مع إشارات منهجية تنبه القارئ إلى جملة من الشروط العلمية اللازمة مراعاتها في عمليات القراءة الفكرية، وأحسب أن استقراء معالم منهج ابن تيمية النقدي في درء تعارض العقل والنقل كفيل بأن يضع كثيرا من القضايا تحت عين الاستشكال والملاحظة، قصد فهم جيد لطبيعة المنهج النقدي عند أمثال هؤلاء المفكرين في مثل هذه القضايا. [1] 5/ص28/دار الكتب العلمية [2] ص152. [3] ص10 [4] ص154 [5] ص20 [6] ص151 [7] كما في ص21و23 [8] ص14 [9] كما في ص15و17 [10] ص22 [11] ص16. [12] ص153. [13] ص14 [14] ص13. [15] ص24 [16] ص25