لا شيء أطيب من أن يأخذ الإنسان نفسا عميقا بين الذكرى والذكرى، يغمض عيناه برهة من الزمن، يبتسم في خفر كبير، وكأنه يلعق شهدا من أصبع ملاك عصرته نحلة تسوقت من أزاهير حدائق الأندلس... لا يطيب المقام في بلاد أخرى، دون أن تقضي ليلتك في قلب ألبوم صور عالقة بذاكرتك الفتية، تستأسد أطباق أمّك كل لحظاتك وأن ملقىً على ظهرك وبقربك مارسيل خليفة يشتم من بيروت رائحة خبز أم درويش في رام الله...ورائحة الخبز حين تمتزج برائحة نوار الشمس تكون أعطر من زينة نساء الجنة...على الأقل...وتكتشف في غفوة منك أن شاي أمك له رائحة الاستثناء، فلا هو ببنّيّ اللون ولا هو بحنّائيّ الأثر على راحة كفِّ كأس من زجاج شفّاف كوجه أمّك تماماً... ترشف فنجانك على مهل، لأن بعض الفناجين تفتقد عذريتها إذا استعجلت رشفها.. يملأك الغياب بأحزن التفاصيل، كأن تمشي على إسفلت مدينة حللت بها ضيفاً خفيف الحقيبة، ويدك التي كانت تنشرح لأصابع امرأة تشابك أصابعك –هي أمك- بدت خائفة ترتعش من رياح تعبر براحتها وتحدث فزعا بخطوطها، تفرك بعضها البعض، تنتبه في لحظة عابرة أن حزن المدينة أعمق من حزنك...وطبعك أنك لا تقبل بحزن الأماكن...تنسى حزنك في خضم حزن بنايات شاهقة تحس أنها تطل على جوفك من أعلى، تلتمس لها الاعذار..." في كل مدينة حزن، وكل حزن فيَّ بحجم المدينة". تأخذك مسافة كبيرة نحو شمس تسير مترددة الخطوات نحو أفولها الحتمي، هكذا تقتضي العادة..، لا يعجبك منظر المدينة وهي تغرق في سواد لا يليق بها، تهمس في أذنك قائلة: "لو أني أعرف خاتمتي...ما تمدَّنتُ..."... تشعر أن كل الذين يخرجون من كهوفهم المكيفة إلى الشارع الرئيسي، مسلوبون من آدميتهم، وأن طفولتهم لم تكبر على صدور أمهاتهم...لأن المدينة تبنتهم في يومهم السابع...تراهم يتسابقون نحو مقاهٍ لم يعد يهمها غير أن تزيد من جرعات إدمانهم في لائحة المشروبات التي تقدم على طبق من أنثى...وتلك النادلة كم كانت تأسر بجمالها لو أنها لم تضف "لامونت" على كحلها المسطر بعناية..تقف أمامي باسمة "أش تشرب أخويا؟"، يركبني هوس الأشياء، كيف أنزل عند رغبتها في ضرورة أن أشرب شاياً يُعدُّ في الغياب...وأنا والغياب لم نتحالف بعد، ولم يرض أحدنا على الآخر، فكيف يا قدري هان عليك أن تسوقني إلى هذا الموقف وأنا طفل أُمِّي على دوام الحال ولم أشرب يوما شاياً إلا وفيه رائحة أصابع أمِّي...أيتها النادلة الجميلة إني لم أفطمْ بعدُ، وإني اليوم صائمُ...قالت : هان عليك الصومُ واليوم إنك عندنا لمقيمُ... إلى أمّي:"...لشايك مذاقاتٌ ساحرة حين أتحسس قائمة كل المشروبات...أغفو فأقول للنادل: "شكراً...لا أريد !!" ...ثم أتذكرُّ أني في مقهى أو مطعم...اعتذر للنادل يهمهم في قرارة نفسه، لا آبه له لأنه لم يذق يوما "شاي أمِّي"...انصرف وآثار رحيق شاي أمي على شفتاي ألعقه في شوارع مُدن هي الأخرى تشربني على مهلٍ منقطع السُّكَّر...وكلما جن جنون اللّيل، أفتح "فايسبوكي" ألقي سلامي على أمّي، ثم أبدأ في البكاء: فكيف يا أمي نُسكنُ بكُلِّك...وكيف يا أمّي نصبرُ على دُنىً بلا سكّر غداة الرحيل...