وأنا طفل في نهاية عشريتي الأولى أقف على حافة طريق اتفاريتي قديما ( شارع الحسن الثاني بمدينة السمارة حاليا ) حينما كان الكولونيل الدليمي و عبروق و بنعثمان يتعمدون استعراض وحداتهم من " أحد" و" الزلاقة " و" الارك "على المواطنين الصحراويين المدنيين بمن فيهم الأطفال مثلي آنذاك ، والتي كان الهدف منها ربما زرع الإحباط لدى المتعاطفين مع ذويهم في البوليساريو ، لا تزال كلمات الجنود وهم يرمون لنا ببعض علب السردين التي في كانت في اغلبها على حافة انتهاء الصلاحية، تطنطن في أذني : " كولوا السردين اصحراوَ ما عمر دين أمكم شفتوه "، وكم كنا نتعجب نحن الأطفال من كلامهم النابي من جهة ، ومن جهة أخرى من ادعائهم بأننا لم نعرف علب السردين من قبل، وكم كنا نسخر منهم ونحن نقارن مابين مذاق علب السردين وبقايا مخزون علب التونة والسردين التي تركها الأسبان واحتفظ بها آباؤنا للأيام العسيرة ... ولحد الآن كغيري من أقراني إن كان أولئك الجنود تصرفوا بشكل اعتباطي أم كانوا ينفذون الأوامر؛ فان كانت الأولى فتلك مصيبة وان كانت الثانية فالمصيبة أعظم، وكلما كبرنا كانت المقارنات تكبر ... ولا يزال اغلب المغاربة إلى اليوم يمنون علينا العديد من " الامتيازات " حسب زعمهم، على اعتبار إن تلك "الامتيازات" توجد فقط بإقليم الصحراء، لكن اغلب هؤلاء أيضا يتجاهلون التركيبة الديمغرافية الحالية للإقليم، فلو عرفوا أن كل خمس ولادات بينهم واحد فقط من أب صحراوي ، وان السكان الأصليين (المقبولين في لوائح الأممالمتحدة سنة 1999 و أبناؤهم ) لا يمثلون أكثر من 20% ، لعرفوا أن الاستفادة ان صحت ستكون فقط في حدود النسبة ؛ أي ا ن أي مجهود تنموي تقوم به الدولة المغربية لن تستفيد منه الساكنة الأصلية إلا في حدود تلك النسبة ، وهو ما يظهر جليا في ميدان الصيد البحري حيث ان 2m و في إطار تغطيتها لبرنامج حكومي يسعى إلى النهوض بقرى الصيد سنة 2002 ، أحصت حوالي 92000 بحار من بوجدور حتى داكمار، وهم بطبيعة الحال لن أقول اغلبهم بل جميعهم ليسوا صحراويين . وهو ما أكدته أيضا تصريحات وزير الداخلية امحند العنصر يوم 05/05/2013 في تصريحاته أمام البرلمان في إطار توضيحاته رداٌ على تصاعد حدة المظاهرات المطالبة بتقرير المصير والتي رفعت خلالها اعلام اليبوليساريو من الحجم الكبير بمدن العيون وبوجدور والسمارة، حينما أكد إن سكان مدينة العيون يصلون إلى 240 ألف نسمة ، بينما النسبة التي تتظاهر منهم لا تتعدى حسب قوله 200 شخص ... إلا انه اغفل حقيقة هوية أولئك المتظاهرين. إن الامتيازات التي يتباها بها المغاربة على الصحراويين والتي تتمثل في : الضريبة المرفوعة عن المحروقات بمرسوم وزاري سنة 1978 يمكن أن يتم إلغاءه في أية لحظة ، والمواد الأساسية المدعمة ، والإعفاء من الضريبة على القيمة المضافة على الشركات والأصول التجارية ، والدمج المباشر في الوظيفة العمومية، كشف مخيم اكديم ازيك عن إن الساكنة الأصلية لا تستفيد منها . فرفع الضريبة على المحروقات تستفيد منه فقط الشركات العاملة في مجال نقل الأشخاص والبضائع من والى الشمال والتي لا بد لها من ترخيص تتحكم فيه جهات رسمية وغير رسمية ، وأغلبيتها مملوكة لحد الآن لغير الصحراويين . بينما المستفيد الأول من المواد المدعمة هو المعامل التي تصنع تلك المواد لتبيعها لمكتب الوطني للشاي والسكر أولا ، ثم الوافدون على الإقليم ثانيا وهم في أغلبيتهم ثلاثة أصناف : موظفون صغار ، وتجار صغار والثلث الأكبر هم من ضاقت بهم سبل العيش شمالا وتم تحفيزهم في مراحل معينة على النزوح جنوبا تحت تأثير دعاية ممنهجة تظهر الصحراء كمجال خصب للفرص ( مثلا مدينة العيون نزح نحوها السراغنة و عروبية بني ملال بحكم أن العامل السابق "صالح زمراك" ينحدر من هناك بينما السمارة نزح نحوها البنكريريون والرحامنة ) . وبالنسبة للضريبة المرفوعة عن الشركات والأصول التجارية فان أرقام السجل التجاري بالمحكمة الابتدائية للعيون والسمارة والداخلة مخيفة مقارنة مع عدد السكان ، الشيء الذي يؤكد إن ما يزيد عن 95% من الشركات و الأصول التجارية تعمل خارج الحدود الجغرافية للإقليم تهربا من الضريبة على القيمة المضافة وهو ما جعل وزير المالية تحت ضغط الأزمة الاقتصادية يوحي بفرض التصريح بتلك الضريبة لأول مرة منذ سنة 1976 . وفي سنة 2000 وخلال اجتماعات حاملي الشواهد مع لجنة حكومية للنظر في ملف العاطلين عن العمل ، على خلفية أحداث العيون شتنبر 1999 ، حلف احد العمال المعروفين بادعائهم للانتماء للإقليم يمينا وهو في حالة غضب بان الاستفادة ستكون باسم الصحراويين لكن المستفيد هم المغاربة ، والناظر إلى لوائح الدمج المباشر لسنة 2000 و 2003 و 2005 و 2007 و 2011 سيعرف لا محالة إن ذلك العامل قد أدى يمينه ويمين من أوحى له بتلك الفكرة ،ولم تلزمه كفارة أيمان . إن من الأكيد انه في غياب نص دستوري واضح يحدد الحقوق السياسية (من يحق له الترشح والتصويت ) ، والحقوق الاقتصادية والاجتماعية (خصوصا الملكية العقارية ) ، يبقى المستفيد الحقيقي من ثروات الصحراء التي لطالما أنكرها المغاربة حكومة وشعبا ( الصحرا اش فيها غير الرملة ) ، ليس الصحراويون ذوي الأصل (الأقلية ) بل هم المغاربة الوافدون على الإقليم (الأكثرية)، كما انه يعطي مصداقية أكثر للطرح الذي قامت عليه ولا تزال تتمسك به الجبهة الشعبية لتحرير الساقية الحمراء وواد الذهب . ومن المعروف انه عبر سنوات النزاع استطاع كبار ضباط الجيش وكبار الموظفين والعمال والولاة خلق نظم محلية فائقة الفعالية في اقتسام الثروة تحت مسميات استفادة الأعيان والمتعاملين مع الأجهزة الأمنية .... إلا انه مع مرور الزمن أصبحت مسالة استفادة الساكنة الأصلية من الثروة الطبيعية للمنطقة هي عمق المشكلة وهو ما عبر عنه تقرير المجلس الاستشاري الاقتصادي والاجتماعي من جهة و ركز عليه أيضا المبعوث الشخصي للامين العام للأمم المتحدة كريستوفر روس . أما الامتياز الجديد فهو حقوق الإنسان في الصحراء تحت مجموعة من المسميات وتحت العديد من الحيل والتمويهات ، وشخصيا كنت على وشك إن اقتنع بذلك من خلال تغير التعامل الأمني مع الساكنة الأصلية في السنوات الأخيرة ، لولا حدثين بارزين وهما : اكديم ايزيك وارتداداته على المحيط الإقليمي والجهوي والدولي أولا، وثانيا وقوف المغرب ضد تمتيع المينورسو بمراقبة حقوق الإنسان في مخيمات تندوف؛ والتي لا تزال الدعاية الرسمية تصف سكانها بالمحتجزين ، وفي الإقليم الذي تواصل زعمها باحترام حقوق الإنسان فيه . و أول ارتداداته عودة الحيوية بقوة لمظاهرات الصحراويين المطالبة بتقرير المصير بشكل أكثر تنظيما ( أصبحت منظمة في توقيتها (الخامسة مساءا)، وطريقة وقوف منظميها (من صفين على جهة واجدة من الرصيف مع سلسلة بشرية من المنظمين تمنع المتظاهرين من الوصول إلى الشارع العام) ، وحجمهم ونوعيتهم ( راشدون ) ومكانها (شارع السمارة محل بداية أي تظاهرة )، بينما عادت الدعاية الرسمية المغربية لسيمفونيتها القديمة لكن هذه المرة على مسؤولية الولايات والعمالات ( احتلال الملك العام، إعاقة السير، سيارات غير مرقمة، إصابات في صفوف قوات الأمن...)، بينما تغفل بشكل فظيع الإصابات في المدنيين، واهم من ذلك التحقيق في الجهات التي تبدأ في رمي الحجارة (أليس من الممكن إن تكون هناك جهات تتدخل في الوقت المناسب بين الطرفين لإعطاء مبرر ملموس للقوة العمومية للتدخل)، خصوصا وان مظاهرات الجمعة 26/04/2013 والسبت استمرت زهاء الساعتين بشكل سليم. وأكثر من ذلك العودة من جديد لنقاش شرعية التمثيل من خلال العودة إلى تمثيلية شيوخ القبائل (هم مجموعة من المنتخبين سنة 1974 إبان الفترة الاستعمارية الاسبانية اعتبارا منها لعدم استقرار السكان الأصليين في المدن بشكل تام )، والمنتخبين الحاليين . إن تطور الأحداث بالصحراء ، قبل وبعد تصريحات وزير الداخلية أمام البرلمان ، لن يمر دون حدوث ارتدادات ربما يكون أسرعها الشرخ الذي صنعه حزب الاستقلال حين أعلن انسحابه من الحكومة ، وهو القرار الذي لا يمكن اتخاذه بسهولة واستقلالية تامة كما يتصور للكثيرين ، خصوصا وان حزب الاستقلال يشن هذه الأيام حملة غير مسبوقة على الجزائر، و يتنقد بشكل لاذع أداء الحكومة في ملف الصحراء ، فيما يشبه العودة إلى الحملة الدعائية التي قادها نفس الحزب في ستينيات القرن الماضي ضد موريتانيا قبل أن يعترف الحسن الثاني باستقلال هذه الأخيرة سنة 1969 في مؤتمر الدول الإسلامية المنعقد بفاس . وهكذا عود على بدء؛ كلما زاد الاحتقان في منطقة النزاع، عادت الدعاية الرسمية والشعبية المغربية، لنفس التناقض: الصحراء مغربية / مشكل الصحراء، الصحراويين الوحدويين/ المغاربة ، ثروات الإقليم/ استثمار الدولة المغربية في الإقليم؛ تماما كما عشنا ونحن صغار ظروف المسيرة الخضراء " السلمية " في الدعاية الرسمية " .. والواد وادي يا سيدي ..." بينما كانت الجيوش تمر أمامنا وصوت الرصاص يطوق مسامعنا من كل الجهات نهارا، وزئير محركات جيبات الدرك الملكي، وصوت نقيرهم على الأبواب (حالات الاختطاف التي شهدتها المنطقة نهاية السبعينيات ) يقض مضاجعنا بالليل .