يشكل النقاش حول الديمقراطية وكل ما يتعلق بها، كمفهوم وكوسيلة وكغاية ونمط نظام الحكم، إحدى أهم المواضيع التي استأثرت بالحظ الوافر من انشغالات الفكر الإنساني الحديث عامة في كل مجالاته وتخصصاته، وبشكل أخص في القرون الأخيرة. وإذا اختلفت تمظهرات هذا النقاش من قطر إلى أخرى ومن سياق إقليمي او دولي ووطني إلى اخر، إلا أن جوهر القضية يبقى واحدا. وجوهر القضية هذه يمكن تلخيصه في السؤال المحير جوابه للإنسان منذ الأزل وهو حول تدبير الاختلاف بين بني البشر حيث يجمعهم أرض واحد ولغة وعادات وأهداف مشتركة، وخاصة بعد ظهور مفهوم الدولة والحكم والسلطة. لقد عاش الإنسان تجارب كثير، كما جرب اليات شتى محاولا إيجاد أقرب السبل والطرق نحو العيش الكريم والسعادة إما في إطار فردي أو في إطار جماعي صغيرا كان ذلك أو كثيرا. وخلال القرنين الماضيين فقط، التاسع عشر والعشرين، عرف العالم الغربي منه على وجه الخصوص انتفاضات وثورات وانقلابات جاءت نتيجة لتدمر شعبي أو رغبة في تحقيق عيش كريم لشعب معين او لفئة ما. وبعد أن جرب الإنسان أنظمة سياسية مختلفة في طريقة الحكم ولتدبير الاختلافات الإيديولوجية والفكرية فقد توصل إلى فكرة مفادها ان الديمقراطية هي السبيل الأمثل، وليس الوحيد، لتدبير الاختلاف بطرق سلمية وحضارية لصيانة الحقوق وأداء الواجبات عبر الاختيار الشعبي المباشر عن طريق الانتخابات. ولذلك تعرف الديمقراطية، من بين ما تعرف به، والتي يعود أصل استعمالها أول مرة كمفهوم إلى العصور اليونانية الغابرة، بأنها حكم الشعب نفسه بنفسه. الان وبعد أن جربت دول عديدة والتي تعرف عادة بالدول الديمقراطية خاصة في الطرف المتقدم من العالم، أليس من حقنا ان نعيد طرح السؤال الجوهري على أنفسنا نحن بني الإنسان حول هذا الموضوع الشائك: هل الديمقراطية وسيلة أم هي غاية في حد ذاتها؟ فإذا كانت غاية، فهذا معناه ان الدول الديمقراطية قد استكملت مهمتها، لكن فلماذا المعاناة والآلام والآمال لا تزال مستمرة وفي كل يوم بشكل أقوى وأشد؟ أما إذا كانت وسيلة فينبغي طرح سؤال اخر وهو لأية غاية أو وسيلة تقود؟ ليس لدي جواب جاهز لهذه الأسئلة، أو قل لا أريد أن أفرض جوابا على القارئ الكريم. لكن مما لا شك فيه أن مثل هذه التساؤلات تتحمل مئات الأجوبة لان كل شخص قد يجيب عنها من منطلقه الخاص حسب همومه ومطالبه ومستواه العلمي ومطامحه في هذا الوجود، وقد تلخص الإيديولوجية ذلك، او رسالته الكبرى في هذا الحياة. الديمقراطية نمط وطريقة حديثة في الحكم مثلها مثل الاشتراكية والديكتاتورية والملكية والجمهورية وقد نجد نظاما يجمع بين نمطين او أكثر فتجد نظاما ملكبا وراثيا، مثلا، يدعي أنه نظام ديمقراطي، رغم انه يضرب عرض الحائط إحدى أهم المبادئ الأساسية الديمقراطية وهو التداول السلمي على الحكم وفق الاختيار الشعبي الحر وليس وفق التوريث المفروض. وللديمقراطية اليات ووسائل، ولذلك لا يمكن القول بانها وسيلة كلها. الهدف الذي ظهرت من أجل تحقيقه الديمقراطية، كما سبقت الإشارة، هو تحقيق أهداف ومطالب إنسانية لم تستطع أنظمة سياسية سابقة تحقيقها إما بشكل كلي أو بشكل جزئي. وهذا معناه أنها لا يمكن ان تعد في حد ذاتها غاية. وإن كانت في لحظة من اللحظات بالنسبة للشعوب ينبغي ان تكون هدفا للتخلص من الاستبداد والديكتاتورية كما هو الشأن بالنسبة للشعوب العربية في اللحظة الراهنة. الإنسان جاء لهذه الحياة من أجل رسالة محددة. هذا ما لا يختلف عليه اثنان. لكن ما طبيعة هذه الرسالة؟ هذا هو السؤال الذي اختلف وختلف عليه اكثر من اثنان. ولقد حاولت الفلسفات والإيديولوجيات الجواب عن تساؤلات من هذا القبيل وتطلب ذلك سنين وأجيال وبحوث وجهد كبير. لكن، في نظري ليس هناك أقوى جواب من الذي قدمه الإسلام لغاية وجود الإنسان في هذا الكون وهي الاستخلاف في الأرض والاستعداد لما بعد هذه الحياة. وإلا فمن الواجب علينا ان نتسائل: هل رسالة السابقين واللاحقين هي العيش والأكل والعمل والبحث والموت وانتهى كل شيء؟ لا. هناك اكثر من هذا. وإلى جانب ذلك فالإنسان في هذه الحياة له حاجيات ومطالب هناك ماهي مادية ملموسة كالأكل والشرب والصحة والوظيفة والدراسة والتنقل ... باستطاعة الحاكم والدولة ان تلبيها له إذا توفرت الإرادة، ومنها ما هو معنوي روحي أبدا لا تستطيع الدولة وإن كانت ديمقراطية ان تلبيها له كاملة. ومن بينها الجواب عن الأسئلة المحورية المرتبطة بوجوده، وأصله والغاية منها، ومصيره، و... إذا استطاعت الديمقراطية ان تحقق وتقدم الأجوبة الشافية والعملية لهذه المطالب الحقيقية كاملة وشاملة في شقيها فأنعم بها من مطمح ووسيله وغاية. فلا مشاحة في التسميات أنذاك. أما إذا ام تستطع واكتفت فقط بالسعي لتحقيق الماديات والانشغال بالمطالب الهامشية، رغم أهميتها احيانا او كما يبدو، فلنا في عالم اليوم أكثر من عبرة. وها هو ذي المجتمعات الغربية الغرقة في الماديات عقودا يبعث لنا في كل يوم برسالة واحدة بطرق وعبر مختلفة: الحياة المادية كلها تعب ومتاعب، فيا أيها الإنسان استيقظ، فلأمر عظيم وجليل خلقت.