الكلمات عاجزة كأنها في عراء لا يسنده سوى الذهول. الصمت أيضا مثل سرير نهر جاف. الحياة شاحبة تشبه مساءَ خريف غامض في قمة جبل. وحده الموتُ يُنازع الكبرياء ويركب البحر. يأخذ الفارس ويترك القوس ووصيته. * طاب يومك بويا الأموي.. كيف أنتَ في الحياة الأخرى؟ * هل صدّقتم أنني رحلتُ عنكم. الموت يا رفاقي مجرد غفوة من اختار المشي فوق الحدود الصعبة للزمن (قال بدون اندهاش). * "خريفنا يدنو من الأبواب"، ماذا نفعل بانتصاراتنا إن أخلفنا موعد الزرع. نفتقدك َ كلما حلّ الليل وصوتك يقول: "دعوني أغفو في القيلولة ثم أنهض.. فزمننا يوم واحد طويل". * أنا لم أمت بعدُ، وأقول للذين يشيعون ذلك ما قاله المتنبي:[ كمْ قد قُتِلتُ وكم قد متُّ عندَكُمُ** ثمّ انتَفَضْتُ فزالَ القَبرُ وَالكَفَنُ]( قال مبتسما وبحماس). * أتقول إن الموت مجرد استعارة في سقف الزمان العالي، وما تبقى سفح وكهوف، ليل ونهار، صمت وكلام. نحن في ومضة لا نعرف كيف نفسرها رغم أن تاريخنا كله كان تفسيرا لومضة واحدة. * أنتَ تتكلم بصوت القلب المنفطر. لا تنكسر. لا تحزن. * نعم. لا.. فقط أحسستُ بالوحشة وأنا أنظر إلى صورتك. * سأنتظركَ، سأنتظركم جميعا.. وسنتحدث طويلا ونحكي حكايتنا للملائكة. الحكاية: كنتُ أسعى ،دائما، لكتابة رواية استلهم فيها سيرتك فأختار الفجر لقراءة وتأمل رحلة گلگامِش أو سيرة بويا صالح والمتنبي وابن تومرت وابن خلدون وابن أبي محلي وكل الفقهاء والثوار والصلحاء والمجاهدين، فأجد فيك ما تفرق في غيرك من القدامى والمعاصرين، في الفكر والممارسة. لم أستطع تحويل المدّ الهائل من الوقائع والمعارك والتفاصيل إلى تخييل، فقد بدا الخيال قصيرا وقاصرا أمام سيرتك العامرة بالحياة..والفصل الوحيد الذي كتبته أو جزء منه بالأحرى توقفتُ عن الاستمرار فيه ، ربما لأن الخيال لم يقنعني في رسم صورتك كما أنتَ.. شامخ القدر، عفيفا، شجاعا وأمينا. ما أكتبه من حديث وإبداع ومن تأليف يُعبر عن رؤاي ووجهة نظري في كل شيء يحيط بي ويشغلني، سواء تعلق بالكتابة أو بالمجتمع أو بالتاريخ ،عبر نوافذ يومية من حياتي أو حياة من أحبهم، هي إطارات لجعل السياق موضوعيا. * أنا، يا بويا،لا أجيد حفر الأنفاق للكلمات ولكني أحب أن يكون لي نهر استحم فيه باستمرار، بمياه متجددة أرمي فيه رمياتي وكل ما أبدعه من سفن وبواخر ..أتركها تسير لتصل إلى شواطئ أخرى يقبلها من يقبلها ويرميها بالحجارة أو النار من يرميها. * قلبكَ المنفطر هو من يتكلم.. ها قد رميتَ في قلبي شرارة. * أنتَ تعرف أني لستُ شاعرا ولا مؤرخا لأختزل إحساسي في مجاز ضارب أو حدث محدد.. أنا فقط واحد من سلالة الفلاحين الذي اختاروا عرق جبينهم مطرا لما يفلحون. الفصل الوحيد الذي كتبتُ تضمن عنوانا مؤقتا وهو: "قوس الفجر"، أسميتُك فارس لضرورات لم أقف عليها بالتحديد. وضعتُ للفقرة عنوانا :الفجر يفك أزراره : "ساعات قليلة على فجر بداية الأسبوع الثالث من شهر نونبر الهادر. ظلام مكثف وغامق تتأبط ذراعاته الهلامية غيوم ثقيلة هبطت على كافة السهول. وقد استمر فارس يخترق بسيارته الطريق الضيقة، بأضواء لم تُغير من قوتها، وهو متجه نحو خلوته التي اختارها قبل سنوات معدودات، بعيدا عن مدينة الدارالبيضاء بنحو مائة كلمتر. لم يأخذ النوم منه شيئا وهو يسوق بنفسه مخترقا امتداد الظلام والضباب والصمت، وهذا جزء من رمزية حياته التي يريدها بعينين مفتوحتين لأكبر وقت ممكن.. يضغط قليلا على زر المذياع دونما أن يُغير من نظراته الملتصقة بشعاعات نور السيارة الممدد مثل لسان مشتعل، ثم ينتبه، وبنفس الحركة يضغط على زر زجاج الباب الأيمن حتى تتسرب منه أدخنة سجائره المتعاقبة. لم يتبقَّ على وصوله سوى خمسة كيلومترات في ممر غير مُعبد يقود نحو خلوته في ذلك الفضاء، وسط حقول تنظر إلى السماء على الدوام وبيوت الفلاحين المتناثرة وقبة السماء المنذورة لحراسته. أمامه مقبرة الأجداد التي تستفيق ليلا لتتأمل تحولات العالم، وخلفه قبة الولي الصالح سيدي ميّة ، وما بينهما حفيف النّخيلة الذي يتراقص خفية. الساعة تشير إلى الخامسة صباحا. مذيع الإذاعة الوطنية يسرد مجموعة من الأخبار على شكل فلاشات سريعة، أهمها كلامه عن مواصلة جلسات الاستماع إلى شهادات معتقلين مغاربة تعرضوا للتعذيب من طرف الدولة المغربية. ابتسم خلسة وهو يحوّلُ من نظرته إلى المذياع في لمحة سريعة كما لو أنه يبغي رؤية ما يقال.. ثم يغير، درجه أعلى، من سرعة السيارة، دون أن يتطاير الغبار خلفها. الغبار الذي أحس بثقل عبَّر عنه بالنهوض خلف العجلات مباشرة، قيد أنملة، ثم السقوط مباشرة، فالذرات فوق كاهلها ثوبان من رائحة الظلام والندى. حينما أوقفَ محرك سيارته ونزل منها، حاملا محفظته وبعض الجرائد والمجلات، لم ينتبه لنباح الكلاب والحركات الأولى الخجولة للدجاج والبط. رفع رأسه إلى السماء ينظر إلى آثار عقود مرت من حياته أثقل من قرون تعود به إلى جهاده جوار الأنبياء، تمزقت ثيابه ونعاله لكن روحه مرسومة بخط مغربي لم تستطع الغيوم تغييبها. تقدم دون التفات، وقد نسيَ أضواء السيارة مشتعلة، فهو ما زال قويا رغم كل الهيتات التي مرت عليه. يحتفظ بجمال هيبته وذكائه السريع ونُكَته التي تخفي في أي لحظة جبالا من الغضب السعير. دخل البيت. طلب فنجان قهوة سوداء، ثم لبس جلبابه الصوفي وطاقية رمادية … ثم هَمَّ بدخول مكتبه، لكنه توقف قليلا أمام الباب، كونه يشعر في كل مرة برهبة وخشوع، فهو يحب أن يصلي الفجر هناك. لمعتْ عيناه كما لو تذكر شيئا يشدُّه إلى التذكرات لمّا دخل المكتب، خصوصا متى التفتَ نحو الصور الأربعة الكبرى المثبتة على الجدار العريض. تقدم منها يتأمل دون أن يشغل ضوء المكتب… جمال عبد الناصر، عبد الكريم الخطابي، المهدي بنبركة، غيفارا…وفي جزء مقابل من المكتب صورة له بالأبيض والأسود وهو دون العشرين، مقتطعة من إحدى المجلات الفرنسية، يبدو فيها وسط مظاهرة شعبية في مواجهة عساكر فرنسيين. مكتبة مطرزة بكل أنواع الكتب بدءًا بالسيرة النبوية وكتب المتصوفة والفقهاء إلى تآليف الفلسفة والماركسية والقومية ..والروايات والدواوين الشعرية ؛وفي جزء آخر تتراكم ملفات ومقررات وصور وشرائط. جلس على الكنبة في استرخاء وسط الظلام. وضع رجليه على الطاولة الأمامية، وعلى وجهه ما تزال مسحة خشوع مستمر وهو يتأمل سيولا رقيقة تهبط عموديا على زجاج النافذة المقوسة والمطلة على الحديقة قُبالة شجرة الرمان. همَّ بإشعال سيجارته في هدوء، فلم تسعفه الولاعة ثم يرمي بيده اليسرى باحثا عن عود كبريت مرمي على حافة الطاولة. تمدد مرة أخرى. أرجع رأسه إلى الخلف. أغمض عينيه مثل محارب تاريخي يحمل بيمينه كفنه المُطهَّر، وبشماله قوسه الأبدي. هو الآن في قيلولة ليلية، سيعود بعد قليل إلى ساحاته المفضلة، وهو من خَبَرَ حروب نصف قرن، في كل مرة كان يدخل حربا يهرق على جنباتها كل دمائه، ولا تكاد تنتهي حتى يجد من يدفعه إلى ساحات أخرى فيضطر إلى توزيع دمه حصصا حصصا. قام في الظلام، ببطء ودون تردد، أخرج ألبوم صور ظل يحفظه بعيدا أسفل مكتبه، كأنه سرّه الذي يضمد جراحه، صورته مع فاطمة الشاوي يضحكان وكأن الذي التقط الصورة خلسة كان يدرك أنها ستكون بلسما لروحه الحارقة، يقلب الألبوم ثم يعود إلى نفس الصورة يتأملها كأنه يراها أول مرة. صورة أخرى لها محاطة بأبنائها محمد والمهدي وغيفارا وسناء ومعاوية، يبتسمون أمامه وهو يأخذ لهم تلك الصورة. التفتَ يرى ما جرى في البداية ارتخى على الكنبة وعاد بذاكرته إلى ثلاث سنوات بعد استقلال البلاد، فرآها أطول جنازة صاخبة لتوديع حصة كبرى من الدم والأحلام المعمدة بمشاعره ونواياه، صار يفرك كل ما اعتقده قادما فلا يجد غير حبات يابسة وأشواك تلهو وسط ساحات فارغة.. سقط فيها كل الشهداء – بعلمهم أو بغير علمهم- فسَادَ رسلٌ مزيفون يصنعون الأوهام الأكيدة سعيا لإدخال البلاد من الوهم الأصغر إلى الوهم الأكبر. – إني أشك هل قاومنا وجاهدنا من أجل الحرية، أم من أجل جزيرة من الدسائس والتصفيات ؟ تساءل بنفسٍ قريبةٍ من الحزن وهو إلى جانب صديقه. – علينا أن نحفظ بعض الأمل في ما سيأتي… – (قاطعهُ وهو يهم بالانصراف) ألم تحضر اجتماعات النقابة ؟ وكيف يستبعدوننا… نحن حطب وتبن فقط… – المهم أننا حققنا الاستقلال والنصر. (مد يده إلى جيب سرواله يبحث عن شيء ما، وهو يعلم أنه لن يجد شيئا، لكنه ظل يبحث ليتوقف ويقول): – يا صديقي، حققنا النصر الذي يخفي الهزيمة. هيا، إننا نفتقد شيئا عظيما في ما نحسه ولا ندركه. -ألم تقل لي بأننا مع المهدي سنمتلك حريتنا بأيدينا. -نعم، هيا الآن، إلى الدارالبيضاء فلنا موعد معه هذا المساء. *** ستكون هذه الرجات المعلومة التي بدأ يحسها فارس بعقله وشعوره بداية تشكل وعيه بالتناقضات وبمجرى الوهم المغربي بشعاراته في واقع لم ينضج، وانشغل بأسلوب ضاج بالاقتتال ما دامت مساحة الحوار والإنصات والاختلاف منعدمة. سيفهم أن الاقتتال بين جزء كبير مما تبقى من رجالات المقاومة هو حلقة في مرحلة تصفيات عدمية تحركها الأهواء والزعامات والحسابات البسيطة والمعقدة بفعل ذاتي وسلطوي، داخلي وخارجي، ثم أدرك أن أولى ملامح الكآبة سببها السلطة ومن يطمحون إلى الاستحواذ لوحدهم عليها. شعر فارس بأن المهدي بنبركة قد فهم حركات واختلالات المرحلة، لذلك كان يحضر كافة محاضراته بالبيضاء والرباط ويحاول أن يلتقط إجابات عما يجري وماذا يمكن أن يفعله. كان مأخوذا به وبديناميته و صدقه ورغبته الصريحة في بناء الحلم الجماعي الذي صار يتهدم يوميا. مثلما ظل منبهرا بسيرة محمد الرسول وكافة الأنبياء المجاهدين والعلماء والفقهاء ،وبسيرة الخطابي وغيفارا، وبسير الفلاحين البسطاء الذين إن ضحكوا أوغضبوا، سيان، تهتز الأرض من تحت أقدامهم. من أكون من بين هؤلاء؟ يقول في نفسه ملتفتا نحونا . التخمينات التي رسموها أم الأفكار النورانية أم لحظات التملص من الإحباط في صيف اليوم الطويل الصاهد بدون شتاء؟. كل يوم يمر، تزداد ضراوة العبث في اللوحة دهشة، فالسعار حول السلطة فاض في مجاري لاهبة، والتصفيات اشتعلت في الرطب واليابس ..في الزمن والعباد ..في المكان والحقيقة والأحلام والرماد. – هل يمكن للثوري أن يتحول إلى مجرم بين مرحلتين ؟ أم إنهم كانوا صورة يمكن لأي مواطن بسيط أن يكونها وأكثر (قال في نفسه). ثلاث سنوات، بعد الاستقلال، كانت كافية لاكتمال مشهد خارق في فقدان السيطرة على الطموحات وعلى محو كل الخطوات السابقة بارتجاف كبير وجفاف يطول القلب والحلق والرؤية، وفارس في هذه السنوات يسير بخطوات الذهول وسط دورة الزمان الأولى وقد تمخضت عن النصر هزائمه المتربصة بكل الثواني والأيام. – لم أعد أرى شيئا، ساحة النزال لغير ما وُجدت له. الحرية، جنازتنا المجهولة، فقدوا السيطرة وفقدنا الطريق لا حميدة لا فلوس (عاد، يقول في خاطره). *** خرج بلباسه الأبيض أمام الباب الكبير المُطل على الحقول، وعصارة التعب بادية على وجهه وباقي جسده، لكن نظرته لم تفقد حرارتها. وضع يده اليسرى على شُجيرة الخوخ القريبة، وظل يمدد نظراته بعيدا دون أن ينتبه إلى جريان الزمن السريع والمطرد. رجعَ بسرعة إلى مكتبه ينظر في عناوين الجرائد المغربية، ليعود بعد ذلك إلى الكتابة.. يكتب ست صفحات، يقرأها مصححا ومضيفا وحاذفا، ثم يبعثها عبر الفاكس ويجري بضع مكالمات هاتفية، ولا يعود إلا ليحرر بعض الكتابات أو يُدوّن بعض الأفكار في دفتر صغير، وكلما تعب بعد ساعات جارية، يطلب فنجان شاي ساخن بسكر قليل، ثم يتمدد قليلا على الكنبة، يدخن سيجارته ويرتشف شايه. بقي لفترة متمددا، وفجأة كما لو أنه أحس بشعاعات في السماء تجري إلى مراقدها الأزلية، قام إلى الباحة الخارجية. مشى ثم توقف قرب شجيرة اللوز الناضجة بنوارها القادم . التفت بسرعة فبدت نظرته في اتجاه المساء المسفوح ذهبا بعيدا.. بين آخر السماء وحقول الله التي زرعها رحمة للعالمين .كَمَشَ يديه ثم بسطهما راميا كما يفعل الفلاحون في بذر الزرع.. وأغمض عينيه. هل يريد أن يزرع التذكر في محاريث النسيان ؟أم يبذر الفجر القادم في عش الغروب القدري؟