رُفِعت الأقلام وجفَّتِ الصحف التي كتبتُ عليها أحلامي وأحلام كل سُلالتي الممتدة منذ مازغ الأول، مؤسس تامزغا وتامسنا، إلى نفسي المتبخرة ضيما وحزنا. اللهم تبِّث عزيمتي وصبري وارفعْ عني الحَزَن حتى أرى بصفاءٍ الآتي الذي هو في علمكَ وحدك. الإحساسُ شُعورٌ خاصٌ لا يهُمُّ سوى صاحبه. الآن أدركَ أنه يملكُ أحاسيسه الساخنة بمذاقاتها التي لا تكرر نفسها. لم يكنْ، أبدا، يَعْنيهِ أن يكتبَ لأحدٍ بعينه. بل، ودائما، يكتبُ لجهة كاملة خرجتْ منها روحه وإليها ستعود. الإحساس والذاكرة والرّوح: أنفاقٌ تقودُ إلى دلالة رمزية في حياته، تُخفي أكثر مما تبوح. كانت الحياة بالنسبة إليه من ثلاثة عناصر متداخلة: المطر والتراب وبويا . الآن وقد انتقلَ بويا من الأرض إلى السماء، فقَدَتْ حياته أهمَّ ركيزة من ركائزها؛ فماذا بعدُ؟ خَفَتَ شوقه الهادر، وصارت روحه هباءً مستسلما لمُراودات الأحلام. الساعة الثالثة صباحا يومٌ موحش. بل هي أيام ماهدة لهذا اليوم الذي لا مفرَّ منه، سيعرفُ منذ فجره الظالم نهاية حياة كاملة؛ وحينما سيمضي اليوم.. في غروبه الثقيل، وبالتحديد ما بين الغروب والهبوط الآثم للظلام، كان هنالكَ ضوء يترنّحُ مثل الروح، يتوق لإبقاء النهار مديدا في الزمان؛ ضوء رصاصيُ اللون بمذاق الفراق والوحشة. قدرُ الإنسان أن يعيشَ بالذاكرة ، خزَّانُ كل شئ .وكلما امتلأنا نجدُ فُرصًا كثيرة لنحيَا بما تختزنُه ؛ وبمفاتيحها نُفسرَ ما لا نجدُ له سبيلا . تعودُ ذاكرتي إلى خيالنا الجمعي، فأرى صورا سريعة، بالأبيض والأسود، لمدينةِ سطات وهي ما تزال حقلا شاسعا تتوسطه القصبة الإسماعيلية وبجوارها ضريحُ أحد كبار فقهاء وأولياء المنطقة، سيدي الغليمي، وما عداه عيون ونوايل وزرائب وعراصي وسوق أسبوعي، وشتات تواريخ منسية لدواوير تولد وتموت. خلف القصبة بأمتار معدودة، يمرُّ وادي بوموسى، القادم مثل ثعلب شارد من سهول أولاد سي بنداود وربما أبعد. وخلفه بقليل، توجد قبة وليّ آخر، سيدي بوعبيد، ممن جعلوا سطات أرضا مُباركة تُطلِعُ النار من جوّان الماء، ويجلسُ فيها الملاك إلى جوار الشيطان. أمَّا هناكَ، في تلك الكُدية العالية، حيث استقرَّ رجالُ أولاد عروس الملثمون القادمون من الصحراء، توجد مولاتنا لالة ميمونة، الحاملة لأثقال الشفق في صدرها العاري، راقدة في انتظار ساعة نهوضها لترى كل شيء! هنا وهناك، في نُقط هندسية معلومة، تقفُ قِببٌ أخرى في اتجاهات مختلفة: سيدي بوعبيد، سيدي عبد الكريم، سيدي مخلوف، سيدي ارنون، لالة رحمة.... ومع مطلع كل فجر باكر جدا (وفجر الشاوية هو غروب متأخر تملّصَ من كفّ الليل الخرافي)، يخرجُ الدراويشُ، الفُقْرا، من النوايل بجلاليبهم المصنوعة من غيوم بعيدة (أشبه بأدخنة احتراق عَمْدي لحقول كِيفِ كتامة وشعير أولاد سليمان، وأكباد الفقهاء)، محمولة على أكتاف رياح أطلسية، في زهو تتهادى؛ يخرجون من النوايل، من كُدْيات العروسيين والسكوريين وأولاد ايدر، ليهبطوا مُتمايلين.. غرقى ككل أيامهم في غُبار نفس الشوق وصداه الذي لا يتوقف، وكلما وصلوا وادي بوموسى، بأيديهم يرفعونَ جلاليبهم حتى لا يصلها ماء الوادي، والذي يحسبُ نفسه النهر المعلوم وقد انشقَّ فاسحا لهم مريرة برية. هابطون من النزالة وميمونة أو صاعدون من البطوار القديم، متشوِّقون في سيرهم الحثيث للوصول إلى قبة بويا الغليمي، حارس الأنفاس المتحيرة، متعمدين جعل أكتافهم تَحْتَكُّ بالحائط قبل الولوج، وكأنها حركة مُقدسة في سِجِلِّ العُرف الأزلي. في دخولهم، تكون عيونهم سادرة (بدلالتها التاريخية لا الصوفية) مُغْمَضة بنظرات مغشي عليها، تأبى النظر إلى بويا المُمَدّد، في ميتته منذ نهاية العقد السابع من القرن الثامن عشر، مُتخيلين أو حالمين أنه جالس في انتظارهم ليؤمهم إلى نهار جديد في حياة قديمة، يُلبسهم قفاطين الداريْن. مع خروج الدراويش (الذين استعطفوا الله أن يحفظ أهل سطات والشاوية من كل الكوارث الظاهرة والخفية، ويأتيها بحكام وولاة في قلوبهم الكثير من العقل والرحمة) يُصادفون فلاحين يقودونَ بهائمهم الناعسة إلى السوق، وجزّارين يسرعون في مشيهم نحو الكُرنة؛ وبين هؤلاء وأولئك، يمرُّ محمد بن عبد السلام، شاب في الخامسة عشرة من عمره، طويل القامة بملامح رجولية. ورغم ذلك، لم ينسَ التفاتَتَهُ المعهودة إلى القبة ورميه السلام الطيب عليها. (قبْلَه بسنين، مرَّ من نفس الطريق، وفي نفس الوقت تقريبا، عبد السلام بن خليفة، وقبله خليفة بن محمد.. وهكذا حتى يأتي دوري ودور أبنائي وحفدتي، نحمل نفس السلام بنفس الخشوع). في هذه السن، قبله بسنة واحدة فقط، ورُفقة والده سي عبد السلام، وأخته فاطمة وزوجة الأب، هبطوا من أحد دواوير أولاد ايدر إلى «فيلاج سطات» للاستقرار، بعد مُغامرات جدِّنا عبد السلام في حروب قاتلة بقبائل احْمَر، خارج الشاوية ولسنوات طويلة. يواصلُ محمد (ولد عبد السلام)، سيره مُستقيما.. وكلما رمى بخطواته الواثقة فرُّ الظلام مهرولا من أمامه فاسحا له بريقا جديدا. صباح الخير آ بويا !! (أقول له وأنا- لحظتئذ - نُطفة في ملكوت الله، تنتظر ترتيبات القدر الآتي لكي أكون ابنه في الترتيب السادس من عشرة أخوة، اثنان – فتيحة وحسن - توفاهما الله في المهد، والثالث، سمير، أخذه الله وهو في العشرين من عمره). من المتكلم؟ شكونْ؟ التفتَ محمد بن عبد السلام مُجيبا الصوت الموحَى به من فضاء القبة، متوقفا ثم مُواصلا سيره وقد خامرته بعض الريبة. (عدتُ أقول له مناديا وأنا روح نطفة، بعيدٌ عنه بعقود في ملكوت الغيب) أنا يا والدي!! . أنا من سيكونُ ابنك في منتصف الستينيات من القرن العشرين، وأنتَ في أوج قوتك ومجدك... أنا شُعيب، الفتى الأسمر والطويل، الحامل لأقدار القبيلة في جبينه. أنا آبويا.. انتظرني. مواصلا سيره، ومباشرةً عاودَ الالتفات بعدما بعُدَ عن القبة، مُتبسما وقد تهللت أساريرُ وجهه. حقيقة أبدية عاش بويا، محمد بن عبد السلام المزداد حوالي سنة 1914، زمنه كاملا كما يعيشه رجالات الشاوية في السلم والحرب. يستفيقُ يوميا، صيفا وشتاءً، في الثالثة صباحا، يُلاقي ربه في تلك اللحظات الساكنة، قبل أن يخوض حروب النهارات الطويلة، هي وقائع وأيام أثقل من أية حروف خفيفة تُدوِّن لحظاتها. عاش منذ ولادته في أكثر من مسار إلى غاية الساعة الثالثة صباحا، بالضبط، من يوم الأربعاء سادس عشر فبراير ألفان وإحدى عشر هذه حقيقة أبدية. *** وأنا في ضيعتنا، ذات سبت، في عشويةِ نهاية فصل الربيع بعمر لا يتجاوزُ إثنى عشر عاما، ممدد على ربوة عالية كأنها سجادة روحانية بكل الألوان. في ذلك الخلاء مُحاط بأغنام ترعى غير عابئة بما يدور في السماء أو في رأسي. وتَصادَفَ أنْ كان والدي، محمد بن عبد السلام، مُتغيبا عنا منذ ثلاثة أيام في مهمة من مهامه التي تفرضها مهنته كفلاح، وقد تعوَّدَ من حين لآخر السفر دون أن يُخبر أحدا. وأنا مُمددٌ (كنت بالتأكيد، وأنا في تلك السن المبكرة، غير معنيّ بالغروب ودلالاته التي لا تفوتني اليوم)، وجهي إلى السماء بعينين مُغمضتين. أفكرُ مُرتعبا في ما إذا وقعَ لوالدي مكروه ولم يَعُدْ.. تصورتُ حياتي من دونه ضياعا مُطلقا، رُعبٌ جعلني أرتعشُ ثم أفتح عيني بسرعة طاردا مثل هذا التفكير من رأسي. (أنهضُ مستعجلا لطردِ الفكرة من رأسي، تاركا الربوة بما فيها، قاصدا فرسي التي اشتراها لي والدي من سوق السبت. ارتميتُ فوقها كما تعوّدتُ، لكنني هذه المرة كنتُ خائفا مُرتعبا، فيمّمتُ وٍجهتي نحو الغروب المتدفق ببطء قدري، الآسر أيضا، وكأنني مُدرك – لا محالة – آخر جرعة من روحه الرخية والمتعبة والحزينة، في غرقها الدَّامي؛ كلانا يركض بطريقته في استعجال خُرافي: الزمان والمكان والفكرة ثم أنا وفرسي... لا سرج ولا لجام، وإنما هي لحظة تبللت، حتى ارتابت من عرقنا وكِلانا يُمنّي النفس بالوصول إلى آخر أبواب الغروب قبل الإغلاق فنغرق – معا- (بخوفي القديم وحزني الآن) وننسى، لنطلع في الفجر القادم مع رجوع بويا من سفره). نفسُ الإحساس ظلَّ رابضا وساكنا بداخلي إلى جوار الطفل ذي الإثنى عشر عاما، والذي كانت واقعيته مدخلا سحريا إلى عوالم التخييل. إحساس حيٌّ لم يمت إلى أن واجهته أمامي صارخا يوم الأربعاء سادس عشر فبراير ألفان وإحدى عشر ميلادية، الموافق لعيد المولد النبوي، الثاني عشر من ربيع الأول ألف وأربعمائة واثني وثلاثين هجرية وسط ظلام ليس هناك أظلم منه. ماتَ بويا، محمد بن عبد السلام، رضي الله عنه. ضاقت نفسي. دمعت عيناي مدرارا، ارتميتُ عليه أقبله وهو بارد لا يتحرك. هل نسيَ أنه لسبع وتسعين عاما، كان شامخا فوق التراب، والآن حان موعده ليعودَ شامخا تحت التراب ويستريح. تراب الشاوية الذي ساحت دماء السلالة فوقه دفاعا، نأكل منه ونحيا ونمشي عليه حُفاة للإحساس بأننا ننمو مثل القمح والشعير ولمّا نموت، نُدفن عراة لنشعر بنفس الشعور. لم يمرضْ طويلا.. أسبوع واحد فقط. وفي خيالي بقناعة أكيدة، بأنه سيُعمّرُ طويلا إلى المائة والعشرين عاما، باعتبار أن جدّي عبد السلام بن خليفة، قدّسَ الله روحه، تجاوز المائة وعشرة سنوات، كما كل أجدادي ما لم يخطفهم الاغتيال أو الأمراض الفتاكة. أين ضاعت كل تلك السنوات الأخرى، وقد تركتَ فرسكَ مربوطا في السْمار؟ منذ حوالي سنة، شعرَ ببعض التّعب، فصرتُ أذهب إلى سطات مرتين إلى ثلاث مرات في الأسبوع؛ ومن حين لآخر كان هو من يأتي إلينا بالدارالبيضاء. أقضي برفقته النهار كله لا أفارقه، كأني ظله المُريد، بالبيت والمقهى والضيعة، نتحدث في الماضي والحاضر والآتي؛ نفاوضُ ونخاصمُ ونضحك... نعيش في يوم واحد حياةً بألف عام. أليس كذلك آبويا؟ الفارس يعتذر عن معاركه يوم الجمعة الذي سبق يوم الأربعاء، قضيتُ اليوم بجواره بعدما تناولنا فطورنا، دعوته للخروج إلى المقهى ثم الضيعة– كما تعوّدنا من قبل – ؛ لكنه اعتذر، هذه المرة، كما لم يفعل من قبل، وبقيتُ إلى جواره بعدما قررت المكوث بجانبه وقطع هاتفي؛ سلمني بعض الوثائق وأوصاني على أمي وباقي أخوتي وعلى مريم، كما أوصاني بزوجتي وأولادي وأكد كثيرا على زينب... قبل أن يأخذ نَفَسًا ويغفو، ثم يقول لي وأنا صامت إلى جواره، يوصيني على الأرض التي هي أحبُّ إلينا من الدماء التي تجري في عروقي. غالبتُ نفسي التي تكاد تهزمني، فتدمع عيناي وهو من علّمني أن الرجال لا يبكون. إنه يُرتبُ معي حياتي من دونه، يُهيئني للخلافة دون آن يذكر ذلك بالصريح.. ولكنه يقول لي بأن الحِملَ ثقيل وطريقه طويل .وقبل هذا التاريخ بحوالي شهر ونصف، ونحن عائدان من الدارالبيضاء.. حكى لي جزءً من حياته الذي لم يُسمِعهُ لنا من قبل؛ روى لي الأسباب التي دفعته للانخراط جُنديا في الحرب العالمية الثانية وما وقع له هناك. وهو الذي لم يكن أبدا يُحب الحديث عن نفسه، وإنما كنت أسمع شذرات من سيرته، متفرقة، من بعض رفاقه القدامى. محمد بن عبد السلام أبُ جيل كامل من البسطاء والفلاحين والرجال، وصديق مُعلم حكيم، أميٌ لا يعرف القراءة أو الكتابة، لم يلج أبدا مسيدا أو مدرسة، يتيم الأم من جدتي الطاهرة القديسة أم القديسات الطاهرات الورعات، فاطنة بنت الطاهر الحَمْري، ابنة أحد أكبر ثوار قبائل احمر في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. ابنها البكر الوحيد الذي خلفته من سيدي عبد السلام، ثم تلد بعده فاطمة وتموت. - هل تسمعني ... أنا فخور بك بويا، كنتُ دائما أحبُّ تقبيل يدكَ بامتنان كما أشعر الآن مع أبنائي. كنتُ أتمنى أن أموت قبلكَ، تاركا لكَ زوجتي وأبنائي في عُهدتكَ.. تُربيهم كما ربَّيتني وتدربهم على الحياة كما علمتني وتستكمل معهم ما كُنّا ابتدأناه حينما تكلفتُ بمهمة تفاوضية مع الفلاحين؛ وكم كنتُ أشعرُ بالعزة حينما يقولون لي بأن بويا لم يشأ أن يتمم معهم عملا حتى أكون حاضرا. هو من علمني كيف أحَوِّلُ الهزائم إلى انتصارات، وعلمني أن شروع الآخر في الإنصات والتفاوض هو لجام الانتصار. ألست ورقة الزمن الصعب؟ ألم تكن فاطنة بنت الطاهر هي أملنا في الحياة كما كان عبد السلام وخليفة ومحمد وعبد الله وشعيب وعلي... بويا الحنين؛ وحده الموت الذي لم أستطع التفاوض معه. أسبوع إلى جواركَ عجزتُ عن إقناعه بالعدول عن مُراوغتك وترككَ بجوارنا عقودا أخرى. نمْ الآن ! فقد عشنا بُسطاء قانعين، وإذا كُنّا لم ندرك ما كان علينا إدراكه فلِأنّنا نعلم يقينا أنه سيطلعُ من صُلبنا من سيكون له شأن عظيم. يوم رأيتُكَ في السماء في منتصف النهار، صلّينا على جُثمانه الطاهر بمسجد الزاوية البوعزاوية القريب من بيتنا والمجاور للمقهى التي كنا نجلس بها. ثم توجهنا إلى مقبرة سيدي أرنون، جوار الملعب البلدي وسط عراصينا التي سرقتها الدولة منا جِهارا. قبل الدفن بساعتين، كنتُ قد توجهتُ إلى المقبرة لرؤية المكان الذي سيأوي والدي، فأشار المُكلف إلى ثلاثة قبور مُتَجاورة، حفرها حديثا، كأنه يطلب مني أن أختار واحدا، فأشرتُ إليه بالقبر الأوسط. وحينما واريناه التراب، كان الحزن يملأني والإحساس باليُتم قد استبدَّ بي، وهو أمرٌ ليسَ عليَّ إظهاره، لكنني رفعت رأسي إلى السماء وتمنيتُ كما لم أتمنّ من قبل في كل حياتي، لو يَقبلُ الله ربي العلي القادر على كل شيء، أمنيتي بلسان صدقٍ ويجعل القبر الذي على يمين قبر بويا من نصيبي، فأتمددُ إلى جواره خالدا مُخلّدا، وكما كُنا في الحياة، في موتنا أيضا، نتسامر ونُقرر في كل شيء في ذلك الخلاء الرّحب؛ نُقسم نهاراتنا الأخروية إلى قسمين، واحد بجوار الواحد القهّار، نعبدُه ونستغفر لأهالينا الأحياء، والقسم الآخر نطوف فيه على سلالتنا من الأموات، نعرف منهم التاريخ وما جرى. ووحدي أعرف أننا سنقضي أغلب أوقاتنا مع جدتي التي نحبها أكثر من نفوسنا، ولية الله الطاهرة فاطنة بنت الطاهر... الوحيدة التي ستروي لي ما أريد. وهناك أستأذنُ ربي الواحد الأوحد فأكتب عنها رواية، أُفرغُ فيها كل ما أحمله لها من حبٍّ حيٍّ في كل جوارحي. لمْ يشأ ربي تحقيق رغبتي في النوم إلى جوار والدي في رَقْدته، لحِكمة منه لا أعلمها؛ وكلما زرتُ قبر بويا أقبِّل الشاهدة، كما أقبل يده ورأسه، فأشعر بنفس الإحساس الذي كنتُ أشعرُ به وهو بالحياة. في اللحظة التي كان جسده الطاهر المُسَجَّى يهبطُ إلى مكان العبور، اختلستُ نظرة سريعة إلى السماء فقرأتُ مكتوبا عليها بغيم شاخص: «مكتوب على زُرقة السماء بأحرفٍ من ذهب: على وجه البسيطة لا يبقى من الناس إلا مآثرهم». ثم عدتُ أدفنُ بصري في قبر العبور وسط تكبيرات الفقهاء والحضور؛ وقبل أن يستوي التراب عدتُ أختلسُ نظرة أخيرة من صفحة السماء، فرأيتُ كلمات الغيم تُعانق بعضها البعض، بقدرته القادرة، فتصيرُ صورة لبُويَا على فرسه الذي كان يربطه في السْمار، كلمات ستُمطر في ما سيأتي من شهور وأعوام وعقود وقرون علينا ماءً زُلالا. نظراتي سادرة منكسرة، لا أفكرُ في شيء مُحدد، بل شُلَّ تفكيري وسط الذين يقرؤون سُوَرا من الذكر الحكيم، ولما توارى بُويا خلفَ التراب عاد تفكيري يعمل، وكان أول شيء فكرتُ فيه أني صرتُ وحيدا بدونه، ولن أجدَ اليد المباركة التي سأقبِّلها. لحظة أعنف من الفِطام حيث فقدتُ الحليب الذي يُغذي روحي وتاريخي. (بعد أيام، حينما عدتُ إلى أبنائي ناديتُ على مريم ابنتي، ولية الله، قبلتُها ثم أخذتُ يدها وقبلتها فسارَعَتْ إلى سحبها وارتمتْ تُقبل يدي مرارا وتكرارا وأنا بين السعيد والحزين في حالة لا مفسرة). مَقعدكَ بيننا دائما كثيرٌ من الفلاحين كانوا يُقبِّلون يده حُبا خالصا فيه وليس خوفا أو رهبة، وكنتُ أتمنى أن يفعلوا معي نفس الشيء. في آخر مرة لحقتُ بوالدي إلى مكانه المعتاد بالسوق، وهو يفصل بين المتخاصمين - وكان ذلك قبل حوالي شهرين من وفاته – شربتُ الشاي إلى جواره وحضرتُ كيف تُزفُّ الأحكامُ إلى قلبه فيُلقيها بردا وسلاما لتُطفئَ نار الظالم والمظلوم؛ وقبل أن نُغادر، جاءنا شيخ طاعن فقبَّلَ يَدَ والدي ورأسه ثم التفتَ نحوي مخاطبا، بعدما اقتعدَ أمامنا وأزال شدّه من على رأسه: شوف ْ آولْدْ بويا، الله ينصرك. لو لمْ نخشَ قولهم إننا كفرنا لجعلنا بويا نبيا وحوّلنا المكان الذي يجلس فيه قِبلة لصلاتنا. ضحكنا ونهره والدي، ثم غادرنا وأنا أقول في خاطري ما قاله الشيخ الطاعن. *** بعد ثلاثة أيام، وجدتُ القبرين الفارغين على يمين وشمال والدي قد شغلتهما سيدتان توفاهما الله؛ التي على يمينه أرملة في الثانية والأربعين من عمرها؛ أما التي على شماله فهي بِكرٌ في الرابعة والعشرين من عمرها خانها قلبها فجأة.. وتلك حكمة ربي. عدتُ، قبَّلتُ الشاهدة وأبي ينظر إليَّ وهو يُخفي ابتسامته المعهودة (نفس الابتسامة التي رأيتها على وجهه وهو في الخامسة عشرة من عمره، في ذلك الفجر العجيب بجوار قبة بويا الغليمي وأنا أنادي عليه قبل أن أولد بسنوات طويلة)، وكأنه قرأ ما دار بتفكيري أو أدرك أن الله قد خصَّه بحُوريتَيْنِ تُؤنسان وحدته. في نفس الأسبوع، وأنا مُمدد على الكنبة بمكتبة البيت، في شبه إغماض وسط صمت مُطْبق إلا من تراتيل مقريء رخيم الصوت، صادر عن كاسيت من الغرفة المجاورة، فجأة سمعتُ حديثا دار بين زوجتي وابني علاء الدين الذي كان يتهيأ للذهاب إلى مدرسته. لماذا تترك جَوَارِبَكَ وتلبس جوارب أبيك؟ (قالت له مُعاتبة). أريد أن أمشي بهما مثل بويا في نفس طريقه (ثم ضحكَ بِخفوتٍ حتى لا أسمعه، ولم أسمع ردّا من زوجتي على مِزاحه وإنما عادت إلى انشغالاتها في صمتٍ، فاسحة المجال لصوت المقرئ). فهمتُ من سرعة رَدِّه ولباقته، كأنَّ القول لديه كان جاهزا قبل اثني عشر عاما، قبل ولادته، وربما منذ أن كنتُ في مثل سنه، ممددا على سجاد أخضر بربوة من رُبى أولاد سليمان المزامزة، فزُفَّ إليه من ملاك رحيم. الساعة العاشرة صباحا عدتُ كما كنا، أو هكذا خُيِّلَ إليَّ، أذهبُ مرتين في الأسبوع. أتفقدُ ما أتفقد. فحياتنا هناك غير حياتنا في الدارالبيضاء. أجلس لساعتين مع أصدقائنا نحتسي الشاي قُرب المطحنة المُقابلة لمقهى بوشتى، والمستندة على الزاوية البوعزاوية. وفي الظهيرة تكون فرصة وجبة الأكل للجلوس قرب والدتي نتحدثُ قبل وبعد القيلولة، قبل الانصراف إلى تدابير أخرى. أنا مثل كل الناس في كل هذا العالم، نفقدُ العرَّاب والكاطاليزور فنشعر بفداحة النقص. وأكتشفُ فورا أن محمد بن عبد السلام كان بالنسبة لغيري ملاذا ولي كذلك، مَنْجَمًا للإلهام الذي أستمدُّ منه جوهر قولي في الإبداع... والآن، بعد ذهابه ليستريح، صار الإحساس عندي شبه يقين بانقطاع الزّفّانات عني، فالوسيط بيني وبين خزائن الخيالات الحرة لم يعدْ. حاولتُ الكتابة من بعده، فكنتُ كمن في الهيجاء بدون سلاح، واكتشفتُ أيضا أني صرتُ عنيفا حاسما، رافضا للحلول الوسطى، باحثا عن الحلول المعقدة والصعبة، نابذا كل مقولات السلم والمهادنات؛ تغير أسلوب مفاوضاتي وقررتُ أن أجعل تفكيري نهرا يجري عميقا عميقا إلى اللاقرار؛ حيث: لن أكتبَ، بعد اليوم، فلا أريد لخيالاتي ولغتي أن تكون مُشبعة بغير الرنين الخلاّق لرائحة التراب.؛ لن أسافر إلى أي مكان خارج أسوار الشاوية المقدسة.