الإحساسُ شُعورٌ خاصٌ لا يهُمُّ سوى صاحبه. الآن افهمُ أنني أملكُ إحساسي الخاص بي ، بمذاقه الجارح. لم يكنْ، أبدا، يعنيني أن أكتبَ لأحد بعينه ، بل ودائما أكتبُ لجهة كاملة خرجتْ منها روحي وإليها ستعود . الإحساس والذاكرة والرّوح أنفاقٌ تقودُ إلى دلالة رمزية في حياتنا. * الساعة الثالثة صباحا قدرُ الإنسان أن يعيشَ بالذاكرة ، خزَّان كل شئ وكلما امتلأنا نجدُ فرصا كثيرة لنحيا بما فيها أو نُفسرَ الذي لا نجدُ له تفسير . تعود ذاكرتي إلى خيالنا الجمعي فأرى صورا سريعة ، بالأبيض والأسود ، لمدينة سطات وهي ما تزال حقلا شاسعا تتوسطه القصبة الإسماعيلية وبجوارها ضريح أحد كبار فقهاء وأولياء المنطقة ، سيدي الغليمي ، وما عداه عيون ونوايل وزرائب وعراصي وسوق أسبوعي . خلف القصبة بأمتار معدودة يمرُّ وادي بوموسى القادم مثل ثعلب شارد من سهول أولاد سي بنداود وربما أبعد ؛ وخلفه بقليل توجد قبة ولي آخر ممن جعلوا سطات أرضا مُباركة يتعايش فيها الإنسان والشيطان .في تلك الكدية العالية حيث استقر رجال أولاد العروس القادمون ملثمين من الصحراء ،توجد مولاتنا لالة ميمونة راقدة في انتظار ساقة القيامة .هنا وهناك في نقط هندسية معلومة تقف قِبب أخرى في اتجاهات مختلفة ...سيدي عبد الكريم ، سيدي مخلوف ، سيدي ارنون، لالة رحمة مع مطلع كل فجر باكر جدا ( وفجر الشاوية هو غروب متأخر تملّصَ من كفّ الليل الشائه ) يخرج الدراويش من النوايل بجلاليبهم المصنوعة من غيوم بعيدة ، أشبه بأدخنة احتراق عمدي لحقول الكيف بكتامة ، وهي محمولة في زهو على أكتاف رياح أطلسية .. يخرجون من النوايل من كديات العروسيين والسكوريين وأولاد سليمان ليهبطوا متمايلين ، وكلما وصلوا إلى وادي بوموسى ، بأيديهم يرفعون جلاليبهم حتى لا يصلها الماء .هابطون من النزالة وميمونة أو صاعدون من البطوار القديم ، متشوقون في سيرهم الحثيث للوصول إلى قبة بويا الغليمي ، حارس الليل والنهار ، متعمدين جعل أكتافهم تحتك بالحائط قبل الولوج ، وكأن هذه الحركة هي جزء من المقدس الصامت .في دخولهم تكون عيونهم مغمضة تأبى النظر إلى بويا الممدد ، في ميتته منذ نهاية العقد السابع من القرن الثامن عشر ، متخيلين أو حالمين أنه جالس في انتظارهم ليؤمهم إلى نهار جديد في حياة قديمة . مع خروج الدراويش ( الذين استعطفوا الله أن يحفظ أهل سطات من كل الكوارث الظاهرة والخفية ويأتيها بحكام وولاة في قلوبهم الكثير من العقل والرحمة ) يصادفون فلاحين يقودون بهائمهم الناعسة إلى السوق ، وجزّارون يسرعون في مشيهم ...وبين هؤلاء وأولئك يمر محمد بن عبد السلام ، شاب في الخامسة عشرة من عمره ، طويل القامة بملامح متجهمة ، ورغم ذلك لم ينس التفاتته المعهودة إلى القبة ورميه السلام الطيب عليها .وقبله بسنين مر من نفس الطريق وفي نفس الوقت تقريبا عبد السلام بن خليفة . يواصل الشاب محمد بن عبد السلام سيره وكلما رمى بخطواته الواثقة يفر الظلام من أمامه فاسحا له بريقا جديدا . - صباح الخير بويا !!( أقول له وأنا نطفة في ملكوت الله تنتظر ترتيبات القدر الآتي لكي أكون ابنه في الترتيب السادس من عشرة أخوة ، اثنان توفاهما الله في المهد والثالث ، سمير ، أخذه الله وهو في العشرين من عمره ). - من المتكلم ؟ شكون ؟ التفتَ محمد بن عبد السلام مُجيبا الصوت الموحى به من فضاء القبة ، متوقفا ثم مواصلا سيره وقد دخلته بعض الريبة . - ( عدتُ أقول له مناديا ) أنا يا والدي .انا من سيكون ابنك حينما تكون في الواحدة والخمسين من عمرك ، في أوج قوتك ومجدك . مواصلا سيره وهو، ومباشرة عاودَ الالتفات بعدما بعُدَ عن القبة ، متبسما وقد تهللت أسارير وجهه. * حقيقة أبدية عاش بويا ، محمد بن عبد السلام ، المزداد حوالي سنة 1914 زمنه كاملا كما يعيشه رجالات الشاوية .يستفيق يوميا ، صيفا وشتاءً، في الثالثة صباحا ، يُلاقي ربه في تلك اللحظات الساكنة ، قبل أن يخوض حروب النهارات الطويلة ، هي وقائع وأيام أثقل من أية حروف خفيفة تُدوِّن لحظاتها . عاش من ولادته في أكثر من مسار إلى الساعة الثالثة ،بالضبط ،من يوم الأربعاء سادس عشر فبراير ألفان وإحدى عشر...وهذه حقيقة أبدية . *** وأنا في ضيعتنا ، ذات سبت، في عشويةِ نهاية فصل الربيع ، بعمر لا يتجاوزُ إثنى عشر عاما .ممدد على ربوة عالية كأنها سجادة روحانية بكل الألوان ، في ذلك الخلاء مُحاط بأغنام ترعى غير عابئة بما يدور في السماء أو في رأسي .وتَصادفَ أنْ كان والدي محمد بن عبد السلام مُتغيبا عنا منذ ثلاثة أيام في مهمة من مهامه التي تفرضها مهنته كفلاح ، تعوَّدَ من حين لآخر السفر دون أن يُخبر أحدا. وأنا مُمددٌ، بالتأكيد غير معنيّ ، بعدُ في تلك السن بالغروب ،وجهي إلى السماء بعينين مغمضتين .أفكرُ مُرتعبا في ما إذا وقعَ لوالدي مكروه ولن يعود .. تصورتُ حياتي من دونه ضياعا مُطلقا ، رعب جعلني أرتعشُ ثم أفتح عيني بسرعة طاردا مثل هذا التفكير من رأسي. نفسُ الإحساس ظلَّ رابضا ثقيلا بداخلي إلى جوار الطفل ذي الاثنى عشر عاما الذي كانت واقعيته مدخلا سحريا إلى عوالم التخييل. إحساس حيٌّ لم يمت إلى أن واجهته أمامي صارخا يوم الأربعاء سادس عشر فبراير ألفان وإحدى عشر الموافق لعيد المولد النبوي، الثاني عشر من ربيع الأول ألف وأربعمائة واثني وثلاثين وسط ظلام ليس هناك أظلم منه . ماتَ بويا ، محمد بن عبد السلام ، رضي الله عنه .ضاقت نفسي .دمعت عيناي مدرارا ، ارتميتُ عليه أقبله وهو بارد لا يتحرك . هل نسيَ أنه لسبع وتسعين عاما كان شامخا فوق التراب ، والآن حان موعده ليعودَ شامخا تحت التراب ويستريح . لم يمرض طويلا.. أسبوع واحد فقط ، وفي خيالي بقناعة أكيدة ، بأنه سيُعمّرُ طويلا إلى المائة والعشرين عاما، باعتبار أن جدي عبد السلام بن خليفة قدّسَ الله روحه قد تجاوز المائة وعشر سنوات ،كما كل أجدادي ما لم يخطفهم الاغتيال أو الأمراض الفتاكة . أين ضاعت كل تلك السنوات الأخرى ؟ منذ حوالي سنة شعر ببعض العياء، فصرت أذهب إلى سطات مرتين إلى ثلاث مرات في الأسبوع ؛ ومن حين لآخر كان هو من يأتي إلينا بالدارالبيضاء . اقضي برفقته النهار كله لا أفارقه ، كأني ظله المُريد ، بالبيت والمقهى والضيعة ، نتحدثُ في الماضي والحاضر والآتي ؛ نُفاوض ونخاصم ونضحك ...نعيش في يوم واحد حياة بألف عام . أليس كذلك آبويا ؟ * الفارس يعتذر عن معاركه يوم الجمعة الذي سبق الأربعاء، قضيت اليوم بجواره بعدما تناولنا فطورنا ، دعوته للخروج إلى المقهى ثم الضيعة? كما تعوّدنا من قبل ? ؛ لكنه اعتذر ،هذه المرة ، كما لم يفعل من قبل، وبقيتُ إلى جواره ؛ سلمني بعض الوثائق وأوصاني على أمي وباقي أخوتي وعلى مريم ،كما أوصاني بزوجتي وأولادي وأكد كثيرا على زينب ...قبل أن يأخذ نفسا ويغفو، ثم يقول لي وأنا صامت إلى جواره، يوصيني على بعض أصدقائه من الفلاحين ... غالبتُ نفسي التي تكاد تهزمني ، فتدمع عيناي وهو من علّمني أن الرجال لا يبكون . إنه يُرتبُ معي حياتي من دونه ..وقبل هذا التاريخ بحوالي شهر ونصف، ونحن عائدان من الدارالبيضاء.. حكى لي جزءا من حياته الذي لم يُسمِعه لنا من قبل ؛ روى لي الأسباب التي دفعته للانخراط جنديا في الحرب العالمية الثانية وما وقع له هناك وهو الذي لا يحب الحديث عن نفسه وإنما كنتُ أسمع شذرات سيرته متفرقة من بعض رفاقه القدامى . كان محمد بن عبد السلام أب جيل كامل من البسطاء والفلاحين والرجال ، وصديقا معلما حكيما ، أميٌ لا يعرف القراءة أو الكتابة ، لم يلج أبدا مسيدا أو مدرسة ، يتيم الأم من جدتي الطاهرة القديسة أم القديسات الطاهرات الورعات فاطنة بنت الطاهر الحمري، ابنة أحد أكبر ثوار قبائل احمر في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين . - هل تسمعني ...أنا فخور بك بويا ، كنتُ دائما أحبُّ تقبيل يدك بامتنان كما أشعر الآن مع أبنائي . كنتُ أحبُّ أن أموت قبلكَ وأتركُ لك زوجتي وأبنائي في عُهدتكَ ..تُربيهم كما ربَّيتني وتدربهم على الحياة كما علمتني وتستكمل معهم ما كُنّا ابتدأتاه حينما تكلفتُ بمهمة تفاوضية مع الفلاحين ؛ وكم كنتُ أشعرُ بالعزة حينما يقولون لي بأن بويا لم يشأ أن يتمم معهم عملا حتى أكون حاضرا . هو من علمني كيف أحَوِّلُ الهزائم إلى انتصارات ، وهو من علمني أن شروع الآخر في الإنصات والتفاوض هو لجام الانتصار . ألستُ ورقة الزمن الصعب؟ألم تكن فاطنة بنت الطاهر هي أملنا في الحياة كما كان عبد السلام وخليفة ومحمد وعبد الله وشعيب وعلي... بويا الحنين ؛ وحده الموتُ الذي لم أستطع التفاوض معه، أسبوع إلى جوارك عجزتُ عن إقناعه بالعدول عن مراوغتك وترككَ بجوارنا عقودا أخرى . * يوم رأيتُكَ في السماء في منتصف النهار ، صلّينا على جثمانه الطاهر بمسجد الزاوية البوعزاوية القريب من بيتنا والمجاور للمقهى التي كنا نجلس بها .ثم توجهنا إلى مقبرة سيدي أرنون، جوار الملعب البلدي وسط عراصينا التي سرقتها الدولة منا جِهارا. قبل الدفن بساعتين، كنتُ قد توجهتُ إلى المقبرة لرؤية المكان الذي سيأوي والدي ، فأشار المكلف إلى ثلاثة قبور متجاورة، حفرها حديثا ، كأنه يطلب مني أن أختار واحدا ، فأشرتُ إليه بالقبر الأوسط . وحينما واريناه التراب كان الحزن يملأني والإحساس باليُتم قد استبدَّ بي ، وهو أمر ليسَ عليَّ إظهاره ، لكنني رفعتُ رأسي إلى السماء وتمنيتُ كما لم أتمنى من قبل في كل حياتي ، لو يقبل الله ربي العلي القادر على كل شيء ، أمنيتي ويجعل القبر الذي على يمين قبر بويا من نصيبي فأتمدد إلى جواره خالدا مُخلّدا ، وكما كُنا في الحياة ، نتسامر ونُقرر في كل شيء في ذلك الخلاء الرحب ؛ نُقسم نهاراتنا الأخروية إلى قسمين ، واحد بجوار الواحد القهّار ، نعبده ونستغفر لأهالينا الأحياء ، والقسم الآخر نطوف فيه على سلالتنا من الأموات نعرف منهم التاريخ وما جرى ..وأعرف أنني كنتُ سأقضي أغلب أوقاتي مع جدتي التي نحبها أكثر من نفسنا ، ولية الله الطاهرة فاطنة بنت الطاهر ... الوحيدة التي ستروي لي ما أريد . لم يشأ ربي تحقيق رغبي ، لحكمة منه لا أعلمها ؛وكلما زرتُ قبر بويا أقبِّل الشاهدة ، كما أقبل يده ورأسه، فأشعر بنفس الإحساس الذي كنتُ أشعر به وهو بالحياة . في اللحظة التي كان جسده الطاهر المسجى يهبطُ إلى مكان العبور ، اختلستُ نظرة سريعة إلى السماء فقرأتُ مكتوبا عليها بغيم شاخص : «مكتوب على زرقة السماء بأحرف من ذهب : على وجه البسيطة لا يبقى من الناس إلا مآثرهم «. ثم عدتُ أدفن بصري في قبر العبور وسط تكبيرات الفقهاء والحضور ؛ وقبل أن يستوي التراب عدتُ أختلس نظرة أخيرة من صفحة السماء، فرأيت كلمات الغيم تتداخل ،بقدرته القادرة فتصير صورة لبويا ،ستُمطر في ما سيأتي من شهور وأعوام وعقود وقرون علينا ماء زلالا . نظراتي سادرة منكسرة ، لا أفكر في شيء محدد ، بل شُلَّ تفكيري وسط الذين يقرأون سُوَرا من الذكر الحكيم، ولما توارى بويا خلف التراب عاد تفكيري يعمل وكان أول شيء فكرتُ فيه أني صرت وحيدا بدونه ولن أجد اليد المباركة التي سأقبلها . لحظة أعنف من الفِطام حيث فقدتُ الحليب الذي يُغذي روحي وتاريخي .( بعد أيام ،حينما عدتُ إلى أبنائي ناديتُ على مريم ابنتي ، ولية الله ، قبلتها ثم أخذت يدها وقبلتها فسارعت إلى سحبها وارتمتْ تُقبل يدي مرارا وتكرارا وأنا بين السعيد والحزين في حالة لا مفسرة ) . * مقعدكَ بيننا دائما كثير من الفلاحين كانوا يُقبلون يده حبا خالصا فيه وليس خوفا أو رهبة ، وكنتُ أتمنى أن يفعلوا معي نفس الشيء . في آخر مرة لحقتُ بوالدي إلى مكانه المعتاد بالسوق، وهو يفصل بين المتخاصمين - وكان ذلك قبل حوالي شهرين من وفاته ? شربتُ الشاي إلى جواره وحضرتُ كيف تُزفُّ الأحكام إلى قلبه فيلقيها بردا وسلاما لتُطفئَ نار الظالم والمظلوم ؛ وقبل أن نغادر ، جاءنا شيخ طاعن فقبَّل يد والدي ورأسه ثم التفتَ نحوي مخاطبا، بعدما اقتعدَ أمامنا وأزال شدّه من على رأسه : - شوف ْ آولْدْ بويا، الله ينصرك .لو لم نخشَ قولهم أننا كفرنا لجعلنا بويا نبيا ولجعلنا المكان الذي يجلس فيه قبلة لصلاتنا . ضحكنا ونهره والدي ، ثم غادرنا وأنا أقول في خاطري ما قاله الشيخ الطاعن . *** بعد ثلاثة أيام، وجدتُ القبرين الفارغين على يمين وشمال والدي قد شغلتهما سيدتان توفاهما الله ؛ التي على يمينه أرملة في الثانية والأربعين من عمرها ؛ أما التي على شماله فهي بكر في الرابعة والعشرين من عمرها خانها قلبها فجأة وتلك حكمة ربي . عدتُ قبلتُ الشاهدة وأبي ينظر إليَّ وهو يُخفي ابتسامته المعهودة ( نفس الابتسامة التي رأيتها على وجهه وهو في الرابعة عشرة من عمره ، في ذلك الفجر العجيب بجوار قبة بويا الغليمي ) ، وكأنه قرأ ما دار بتفكيري أو أدرك أن الله قد خصه بحوريتين تُؤنسان وحدته . في نفس الأسبوع ، وأنا ممدد على الكنبة بمكتبة البيت، في شبه إغماض وسط صمت مطبق إلا من تراتيل مقريء رخيم الصوت ، صادر عن كاسيت من الغرفة المجاورة ، فجأة سمعتُ حديثا دار بين زوجتي وابني علاء الدين الذي كان يتهيأ للذهاب إلى مدرسته . - لماذا تترك جواربك وتلبس جوارب أبيك ؟(قالت له مُعاتبة ). - أريد أن أمشي بهما مثل بويا في نفس طريقه ( ثم ضحكَ بخفوت حتى لا أسمعه ، ولم أسمع ردا من زوجتي على مزاحه وإنما عادت إلى انشغالاتها في صمتٍ، فاسحة المجال لصوت المقرئ ). فهمتُ من سرعة رده ولباقته، كأن القول لديه كان جاهزا قبل اثني عشر عاما ، قبل ولادته وربما منذ أن كنتُ في مثل سنه وكنتُ ممددا ،مثلما أنا الآن على سجاد أخضر في ربوة من ربى أولاد سليمان المزامزة ، فزّفَّ إليه من ملاك رحيم . * الساعة العاشرة صباحا عدتُ كما كنا ،أو هكذا خُيِّلَ إليَّ ، أذهبُ مرتين في الأسبوع .أتفقدُ ما أتفقد .فحياتنا هناك غير حياتنا في الدارالبيضاء . أجلس لساعتين مع أصدقائنا نحتسي الشاي قرب المطحنة المُقابلة لمقهى بوشتى ، والمستندة على الزاوية البوعزاوية .وفي الظهيرة تكون فرصة وجبة الأكل للجلوس قرب والدتي نتحدثُ قبل وبعد القيلولة ،قبل الانصراف إلى تدابير أخرى . أنا مثل كل الناس في كل هذا العالم ، نفقد العراب والكاطاليزور فنشعر بفداحة النقص.واكتشف فورا ان محمد بن عبد السلام كان بالنسبة لغيري ملاذا ولي كذلك ، منجما للإلهام الذي استمد منه جوهر قولي في الإبداع ... والآن بعد ذهابه ليستريح صار الإحساس عندي شبه يقين بانقطاع الزّفّانات عني ، فالوسيط بيني وبين خزائن الخيالات الحرة لم يعد . حاولت الكتابة من بعده فكنتُ كمن في الهيجاء بدون سلاح ، واكتشفتُ أيضا أني صرتُ عنيفا حاسما ، رافضا للحلول الوسطى ، باحثا عن الحلول المعقدة والصعبة ، نابذا كل مقولات السلم والمهادنات ؛تغير أسلوب مفاوضات وقررت أن أجعل تفكيري نهرا يجري عميقا عميقا إلى اللاقرار ؛ حيث: - لن أكتبَ، بعد اليوم ، فلا أريد لخيالاتي ولغتي أن تكون مشبعة بغير الرنين الخلاّق لرائحة التراب .؛ - لن أسافر إلى أي مكان خارج أسوار الشاوية المقدسة . [email protected]