مع تحيات المبدع عبدالله عدالي الزياني الحلقة20 عندما مات أبي، كان الليل بهيما مسودا مبرقا مرعدا مخيفا. حدث ذلك في دوار أولاد بوخدو، و قرر أعمامي أن يدفنوه في بني موسى حسب وصيته، و هي قبيلته الأصلية. حملوا نعشه على حمار أخضر عال يشبه البغل، و ما أن تحرك الموكب حتى انفجرت النجوم ضياء و انبلج صبح جديد في ليل بهيم. -"احنا شرفا أولدي ورثنا المعجزات و البركات من سيدنا داوود إلى سيدي بوستة الحداد. و لكن..هذا زمن آخر لم تعد تظهر فيه لا بركات و لا معجزات! و كلا كيلعن زمانو! أذكر شيئا واحدا ظل مطبوعا في ذاكرتي، لم أنسه حتى اليوم. حدث ذلك أيام ما كان يسمى بالهربة لكبيرة. كنت في حوالي السادسة أو السابعة، لا أذكر سني بالضبط، و أنا أتبع أمي أجري وراءها و هي تخطو خطوات واسعة بقامتها الفارعة الطول. كل أخوالي كانوا فارعي الطول يشبهون أعمدة التليفون اليوم. تنحني نصفين و تقطع الذرة من قصبه العالي، تضعه في حضنها و تشير إلي أن اسكت. برز رجل ملتحي قصير القامة متين البنيان بيده عصا قصيرة غليضة الرأس. هوى على كتف، فسقطت على وجهها في التراب. صرخت من الرعب: - واميّا!! أنّتْ أمي لكنها لم تصرخ. أصدرت أنينا مكبوتا و استوت جاسة. همست: -ولدي جيعان أسيدي! رفع العصا مرة ثامية و هوى بها على كتفها الأيمن و صاح: -أنا عندي تسعة جيعانين! سقطت أمي على وجهها و أنّت بصوت خافت ثم تمددت بطولها الفارع على الأرض. ارتميت عليها و أنا أصرخ و أبكي: -أميّا واميّا!! بكيت و بكيت. من يومها لم أتوقف عن البكاء حتى أدركت العشرين من العمر. و تزوجتك أمك. أصبحت رجلا رغم أنفي و لم يعد البكاء ممكنا في عالم الرجال. الرجال صخور صماء لا تنزّ ماء و لا تقطر منها دموع. حدث ذلك في إحدى ضواحي مديونة حيث كنت أتبع أمي إلى لا مكان، أسير و إياها إلى لا مكان، نبيت في أي مكان. تحمل على كتفها هدّونة بالية ممزقة نتغطى بها ليلا و ترتدي تحتية مليئة بالثقوب و تغطي رأسها بخرقة وسخة. كنا حافيين معا. كنت أرتدي تشامير لم يعد له لون من أثر الأوساخ و الاهتراء و لم نكن نتوقف عن السير و الترحال بلا قرار و لا دار و لا استقرار. تحفر أمي الأرض بأظافرها و تنبش المزابل بحثا عما نأكله. ليلا، تضمني إلى صدرها القاسي و نحن نتمدد على التبن و نتغطى بالهدونة. لم أدفأ أبدا. كنت باردا مقرورا على مدى الأيام حتى و أنا رجل. باكيا جائعا، سألتها: -فين دارنا ياميّا؟ ضمتني لصدرها بقوة، بكت و لم ترد. في أسفارنا الطويلة وصلنا قلعة مديونة. أبراج عالية ذات بوابة بدفتين. يخرج منها جنود بألبسة و عمامات حمراء راكبين جيادا عالية و يرفعون سيوفا لامعة، يتقدمهم فارس يحمل راية حمراء وسطها نجمة خضراء متهدلة ترتخي على قضيب نحاسي يلمع تحت الشمس الحارقة. أعتقد أن أمي رسمت خطة محكمة للاستمرار على قيد الحياة. لم نكن نتكلم أو نسأل بعضنا. ما كان بيننا هو اقتسام ما نحصل عليه من الأكل، إذا كان ما نعثر عليه يسمى أكلا. أمي العالية الطول الكالحة الوجه، عندما تعثر على شيء نأكله، تتوقف عن مشيها السريع الطويل الخطى الذي يجعلني أجري رغما عني، تجلس على الأرض و تمد حجرها المثقوب الوسخ و تضع فيه "الأكل"، قشور برتقال متعفنة، عظام دجاج و كسرات خبز جافة تشبه الحجر و أشياء لا أعرفها. ركزت قاعدة الحياة تحت أسوار القلعة التي كانت الأزبال ترمى من فوق أسوارها. المشكلة الكبرى التي كنت أواجهها هي العطش الذي يصيبني كلما أكلت شيئا. نادرة هي الآبار و الجفاف يخيم على الدنيا. لا أذكر أنني رأيت مطرا يسقط و لسنين طويلة. الآبار القليلة كانت محروسة بالسلاح من طرف أهلها أو سكان الدوار و الموت مقابل شربة ماء. قالت أمي أن أغصان الذرة تجمع قطرات الندى أثناء الليل و من يقترب منها يلق ما لقيته أمي، و قد يموت و لا تابع أو متبوع. أفواج الناس تملأ الخلاء و الطرقات الجانبية و لا أحد يدري إلى أين يتجهون و لا أين يتوجهون. ماشون مهرولون، أطفال و نساء و رجال بلا ملامح و لا أمتعة و لا مواشي و لا لغة. لم يكن أحد يتكلم أو يكلم أحدا. كانوا يسيرون فقط، مثلنا أنا و أمي، إلى لا مكان في سفر لا ينتهي و يأس لا ينتهي. صباح يوم بارد، ارتجت الدنيا و قامت القيامة نهارا. لم أكن قد نمت ليلتها. كنت ظمئًا و مقرارا. الأكل الذي ابتلعته يتكوم في معدتي كالحجر، لأنني لا أستطيع هضمه و أنا أبتلعه بسرعة لشدة الجوع. أحيانا أرميه في فمي دون أن أنظر إليه أو أميز نوعه أو أنظفه مما علق به من أعولد و تراب. الجوع ينهشني و لا يترك لي فرصة تفحص ما آكله. أثناء الليل و أنا أتكور في حضنها البارد، أهمس؛-أميّا!! مناديا إياها لأتأكد من بقائها على قيد الحياة. تحرك ذراعها الطويل و تلفّه حول عنقي دون أن تتكلم. بإحساس الأم تعرف ما أريد و تجيبني بتلك الضمة دون استعمال اللغة. تلك الليلة تربصت بسور القلعة. فقد ضبطت موعد رمي الأزبال من فوق السور من الجهة الشرقية. فتحت ثوب التحتية المثقوب و بدأت تجمع كل شيء استطاعت أن تضعه في حجرها بسرعة و خوف. تبعتها إلى حيث ننام، و رمت على الأرض كل ما تمكنت من جمعه. لم نأكل منذ يومين، و الأزبال ترمى كل ثلاثة أيام. حرارة الشمس الحارقة تصيب الأزبال بالتعفن، فااصاعد منها رائحة تسبب لي المغص و القيء. أصبحت بين نار الجوع و ألم المعدة و كلاهما لا اختيار لي فيه، أن أجوع و أموت، أو آكل العفن الذي يسبب لي تلك الآلام الحادة التي تجعلني أتلوى و أنا منبطح على الأرض متأوها، فتدلك أمي بطني بيدها التي ترشها ببصقها لكي يسهل انزلاقها على جلدي. يوم مشؤوم ذلك الصباح البارد الذي كان برده يتسرب إلى عظامي كالسموم. جسد أمي ذو العظام البارزة لم يستطع أن يسرب الحرارة إلى جسمي رغم ضمها لي و الهدونة الوسخة التي تلفّنا معا. لم أنم حتى آخر الليل و لم توقظني باكرا. فتحت عيني في رعب على صوت انفجار و هدير يشبه الرعود و دخان كثيف يتضاعد من وراء ذلك المرتفع الذي يفصلنا عن البحر. تقول أمي، الذي لا يعلم ما وراءه إلا الله. تحفزت للطوارئ القادمة. انتصبت واقفة بقامتها العالية متطلعة نحو البحر. تساءلت في همس: -واش هذا يوم القيامة آخر الدنيا؟ اللهم الطف بنا!! بعد برهة، رأيت باب القلعة ينفتح على مصراعيه و تخرج منه فرقة الجياد ذات السروج المزركشة الألوان يمتطيها نفس الرجال بالنياشين و السيوف و الرايات و البنادق..و توجهوا نحو البحر الذي لا أعرفه و حيث يتصاعد الدخان و الرعد. هتفت أمي في يأس و هي تحدق في اتجاه الدخان: -هذا سخط الله جديد، ما كفانا اللي احنا فيه! جلست على تراب الأرض و دفنت رأسها بين ركبتيها. لم تبك و لم تدمع أو تتأوه. لم أرها تبكي طوال حياتي. كانت قاسية الوجه و لا أحد يستطيع قراءة ملامحها الجامدة. تصاب بالألم فتكزّ على أسنانها في صمت و دون تعبير. قال لي أعمامي؛ أنني كنت صورة من أبي الوسيم الوجه و الملامح و تفاصيل الجسم. كم كانت أمي بشعة و بلا عواطف و لا قلب! كنت أتساءل عندما كبرت، ماذا أحب أبي في هذه المرأة؟ نسيت أنني زوجوني أمكم و لم أخترها. هي لعبة شبيهة بالقمار تحتمل الربح و الخسارة و القبول بالمقسوم. بعد ساعات من الخوف و الترقب و التوقع، توقّع القيامة كما قالت أمي، تراءت لنا أفواج من البشر و هي تنزل المرتفع الفاصل بيننا و بين البحر. أمواج بحر هائج بكل الألوان و الأحجام، جموع الهاربين في اتجاهنا. حزمت الهدونة على ظهرها و شدتني بقوة من يدي و تسمرت واقفة متطلعة متحفزة لكل شيء. الأمواج البشرية تقترب بسرعة البرق. الناس يجرون دون التفات بكل ما يملكون من قوة تتضاعف مع الخوف مما يحدث و لم يستطع أحد أن يفسره إلا سخط الله الذي لا يقاوم. تسقط أعداد كبيرة و هي ببعثر أو تداس بأعداد أكبر. لا أحد ينتظر أحدا أو يلتفت نحو الآخر. اقتربت الجحافل أكثر فأكثر، فجرّتني أمي بقسوة وراءها و هي تنطلق جارية نحو السور الشرقي للقلعة لتحتمي من الطوفان القادم من الغرب. أدركت أن لا أحد يلتفت إلى ما يحدث في الجانب الآخر. الأمواج الهاربة تنطلق في اتجاه واحد هو الأمام مدفوعة بالرعب المهاجم من الخلف. انفجر صوت من بين الجموع صارخا: -النصارى يا عباد الله! النصارى كالو الدار بيضا و حرقو المرسى! كالوها كلها! تصايحت الجموع: -واحنا في حماك يا رسول الله!! برز رجل من الجمع و هو يجري بقوة جعلته يتجاوز الجموع و تبرز عمامته الخضراء العالية رافعا مصحفا و هو يصيح دون أن يتوقف: -الله أكبر! النصارى يا عباد الله! النصارى في أرض الإسلام! و جاهدوا في سبيل الله! و لكنه لم يتوقف و لم يلتفت. تجاوزنا الجحافل الذين لم يتخلف منهم إلا العاجزون عن الجري. جرتني من يدي و يدأنا نجري كذلك عبر تلال الشاوية في اتجاه سهول تادلة عائدين من حيث أتينا. كانت فرقة الخيالة قد عادت مثيرة الغبار وراءها و خيلها تدوس بقايا الهاربين، متجهة نحو القلعة حيث اختفت ة أقفلت الأبواب وراءها. جرينا النهار كله دون توقف و تلك الأصوات المخيفة تطاردنا فيكبر فينا الفزع الذي نستمد منه طاقة الجري أكثر فأكثر. في البداية تبولت، فانطلق البول على فخدي و رجلي ثم أصابني الإسهال فانطلق كل ما في معدتي برائحة كريهة و بألم استولى على جسدي أولا ثم على بصري ففقدية الرؤية ثم الوعي و غبت في ظلام انتشر نهارا في يوم سمي من طرف أهلي " الهربة الكبيرة " تلك بداية حياتي التي تمنيت ألا تكون. حتى اليوم ما زلت أستشعر القشعريرة و أصوات القصف و الرعد كلما تذكرت ذلك اليوم الأسود و نحن نجري دون وعي فاقدين الإحساس بكل شيء إلا الرغبة في النجاة من ذلك الرعب الذي يطاردنا من الخلف و نحن لا نعرف عنه شيئا. كنا ككل الهاربين، نجري هربا من الموت و نحن نواجه المجهول المختفي وراء كل خطوة من خطوات الهروب الكبير. فتحت عيني و أدرتهما حولي. الظلام كثيف يستولي على الدنيا. أهم ما في الوجود هو وجود أمي بجانبي، بدونها مل أنا إلا ميت دون كفن. هي عالمي الذي أتنفس و أرى به. تجمع ركبتيها الطيلتين كعادتها و تدفن رأسها بينهما. تتمايل يمينا و شمالا و هي تبدو كشبح لا ملامح له. مددت يدي الشبه المشلولة و وضعتها على ركبتيها و همست: -أميّا!؟ انتفضت من هول المفاجأة. ارتمت علي و عانقتني بذراعين قاسيتين و همست بصوت كالفحيح: -أنت حيّ أوليدي!؟ كانت الهدّونة البالية تغطي جسدي الذي تحسسته فوجدته عاريا. تحسسته مرة أخرى فإذا به مليء بالتراب. استولى علي الرعب و انفجرت في غريزة الحياة. هل حاولت أمي أن تدفنني حيّا معاقدة أنني متّ؟ استويت جالسا محاولا أن أتشمم الرائحة الكريهة التي انطلقت من جسدي و لكنها اختفت. تعودت عيناي على الرؤيا، فإذا بنا بجانب جدار دار في الخلاء الموحش. لقد اختفت الأصوات التي كانت تصدر عن الهاربين و ليس هنا إلا دنيا غارقة في صمت رهيب. سألتها في همس: -فين التشامير أميّا؟ أجابت: -عامر وسخن، راه جاك الوجع و ما كاين ما. أدركت أن أمي نظفت جسمي بالتراب لتزيل عنه تلك الرائحة الكريهة. كان الليل ساخنا و لم أشعر بالبرد الذي كان يطحن عظامي في آخر مرة. لقد ابتعدنا عن البحر. أوقفتني و أشارت إلي أن أسكت، فقد تناهى إلينا صوت ما من داخل الدار التي كنا نستند إلى جدارها. انسللنا مبتعدين و أنا أمشي بجانبها عاريا كما ولدتني. أحسست بالعطش يشدني من حلقي و لكنني لم أتكلم. جسدي ما زال مهدودا و يلفني تعب فظيع. كلما خطوت خطوة، أحسست بالحصى يؤلم اليتاي و مع ذلك كنت أمشي دون أن أتكلم. لم أكن أدري أين تتوجه أمي و ماذا تريد أن تفعل أثناء سيرخا الذي لا وجهة له. فقد كانت تتجنب الدواوير و الخيام التي كانت صامتة كالموت. لم نعد نسمع ثغاء و لا مواء و لا نباحا، يبدو أن العالم الحي كله أصابه الرعب و شارك في الهروب. لم نعد نسمع الانفجارات و لم يعد هناك هاربون. فجأة توقفت و أصاخت السمع. جلست القرفصاء و أرسلت نظراتها في الظلام. لقد اكتشفت شيئا ما لم أعرفه. شدّتني من يدي و غيرت وجهة السير في اتجاه اليسار. مشينا عدة دقائق، فتراءت لي دار عالية الجدران تشبه أسوار قلعة مديونة. خطت نحو الباب العالي الذي كان نصف مفتوح. يبدو أن الدار كانت خالية من أصحابها الذين فروا من الفارين. سحبتني من يدي و تشللنا إلى الداخل. كانت دارا هائلة مثل الخوف، لم أر مثاها من قبل. أربع دويريات عالية الجدران و الأبواب. دخلنا قبة طويلة إلى حد لم أتمكن من تحديد جانبها الآخر، مفروشة بزرابي سميكة غاصت فيها أقدامنا و لو أننا لم نستطع تحديد ألوانها في الظلام. همست أمي: -زرابي خنيفرية، دويرية بحال تعت بويا. جرتني من يدي إلى باحة الدار، فهي تعرف أننا لسنا في حاجة إلى زرابيو بحثها سيكون عن القوت للبقاء على قيد الحياة و الاستمرار في الجري و الهروب، الهروب إلا لا مكان. رفعت عيني إلى السماء، فقد برز القمر بوجه صبوح مضيء، أنار الدار الكبيرة و دلّ أمي على ما كانت تبحث عنه. تراءت لنا غرفة كبيرة مسودة جدرانها الخارجية من آثار الدخان، هذه هي الكشينة التي كانت تبحث عنها أمي. اتجهت إليها بسرعة مجنونة و هي تسحبني وراءها. في ضوء القمر، رأينا قلالا كبيرة مسندة إلى الجدران و خوابي مختومة بالطمي متبثة في حفر. هجمت على واحدة منها و ضربتها بمنصبة الكانون فانفجر منها طحين أبيض ناصع. مدت يدها إلى صحن طيني و غرفت به الطحين ثم إلى مقراج متبث على علاّق اختطفته و بدأت تخلط الطحين. كانت أمي تعمل بسرعة مجنونة و كأنها في سباق بين الموت و الحياة. جلست على الأرض و مدت رجليها و الصحن بينهما و همست بصوت مبحوح: -كول، كول!! يتبع.......