عبدالله عدالي الزياني: 13 وضعت القلة و تبعتها. كعادتها، عندما تستغرق في التأمل و هي واقفة، تعقد يديها خلف ظهرها. اتجهت نحو الرجل الممتطي الحمار. اقتربت منه بخطوات ثقيلة و هي تتأمله. و كانفجار غير مرتقب، صاحت أمي بأعلى صوتها: -و هذا سيدي احمد ولد الدار الكبيرة! وا ولد حمادي ڭاسم! و ارتمت على الرجل تعانقه بعد أن ترجّل عن الحمار. لأول مرة أراها تعانق رجلا، فالسلام يتمّ بتبادل تقبيل الأيادي حتى مع أخوالي. سيدي أحمد بدا مخالفا لما وصفته لي أمي. رجل محطم بلحية رمادية طويلة و رزة عالية وسخة. جلابة بُنّية بعشرات الخروق و بَلغة لم يعد لها من لون إلا الشكل. لقد انتهى سيدي أحمد و لم يعد منه إلا ما ورثه عن أبيه آدم، شكله كبشري. وصل أبي و هو يجري حافيا. بُوغث بصياح أمي و هو لا يدري ماذا حدث. فوجئ بمنظر أمي و هي تعانق الرجل و تقوده نحو الدار. بسرعة البرق، أدرك من الرجل و التمى معانقا و باكيا و صائحا: -سيدي أحمد خويا اللي ما بحالو خو! أمام الباب، انتبهت إلي أمي و جرّتني من يدي لتقدمني للرجل قائلة بفخر: -هذا الولد اللي ولدتو بعد ربع بنات! و عانقته و كأنني أعانق أبي و رائحة جسمه تخنق نفسي. تطلع إلي بعينين معمشتين و همس: -تبارك الله على الرجّالة! احتفال أهلي بسيدي أحمد لم يحدث قط في دارنا. فقد تزعمته أمي بفرحة نادرة و أصرّ أبي أن يعلن خبر فرحته على العالم كله. بعث بأحد أبناء عمي لشراء حولية و عزم أهل الدوار و كأنه يشهدهم على الاهتمام بالرجل الذي أنقذهم في يوم لم ينقذ فيه أحد. بدوري امتطيا الدراجة النارية و اتجهت نحو المدينة لأشتري الخضر اللازمة للعشاء. اخترت كسوة و جلابة بيضاء و بلغة صفراء و عدت بسرعة لأجد أبي في إحدى غرف الدار مقفلا بابها يساعد سيدي أحمد على الاغتسال. طرقت البا و مددت له الكسوة و أمي تصيح: -رحبا بخونا، شوف آش جاب ليك ولدي! لما خرج من الغرفة، نظيفا حليقا مرتديا الملابس، بدا كأمير أندلسي. أطلقت أمي زغرودة طويلة و هي تنظر إليه مستحييا، خافضا رأسه في إذلال، يتمتم: -الله الله على الخاوة اللي ما بحالها خاوة! بعد صلاة المغرب، توافد أهل الدوار ليكتمل الاحتفال و تبادل حكايات الزمن القديم الذي عاشت فيه أمي بوعدها الحار قطران! في اليوم التالي، أسمعَنا سيدي أحمد قصته المرة زقوم. بعد أيام من رحيل أهلي، توفيت أخته لالا فاطنة. بعد ستة شهور، أصيب بالمرض و لم يعد يقوى على العمل في مناجم الفوسفاط. انتقل إلى الدوار ليسكن في داره و حده، بعد أن طلّق زوجته التي رفضت البقاء معه. بدأ يبيع الأرض ليعيش و جرّب كل المهن، الخياطة و العطارة و الحجامة...و لم يفلح في أي منها، حتى داره الكبيرة باعها و استقر في نوالة و سط الدوار. أخيرا استسلم لعناد القدر و المرض، و لم يعد يقوى على شيء. لم ينس الناس كرمه، فخصصوا له قدرا من الزكاة السنوية يستعين بها على العيش و تزويده بالأكل. نظر إلى أبي في أسى و قال: -سيدي أحمد! نحمد الله و نشكرو اللي جابك لينا حتى نرد ليك خيرك اللي ما يتنسى، ابق معانا حتى تموت معانا، هذاك البيت خاوي هو ليك. كل و اشرب و تكسى حتى يفرقنا الله سبحانه. اغرورقت عينا الرجل دموعا و شهق و بكى ثم همس: -كن عرفتكم من قبل ما شفا العذاب اللي عشت. غدا إن شاء الله نمشي نقضي شي مصالح و نرجع السوق الجاي. أراه أبي الغرفة ليؤكد له ما اقترح عليه: -هذا بيتك أسيدي أحمد واحن اهلك. قبل أن يسافر في اليوم التالي، عانقته و دسست في يده ورقة مالية من فئة مائة درهم. حدق فيها و هتف مستغربا: -من سنين طويلة أولدي ما جات في إيدي فلوس بحال هذي! اغرورقت عيناه و هو يعانقنا واحدا تلو الآخر و أبي يدس في يده شيئا ما. قال و أبي يساعده على امتطاء حماره العالي: -لاربعا الماجية إن شاء الله، أنا معاكم هنا! و ذهب. مرّ موعد عودته و لم نره. في الأسبوع الثالث، استقصى أبي خبره من أهل ورديغة. لقد مات سيدي أحمد! فإثر وصوله أصيب بحمى لمدة يومين، و في اليوم الثالث وُجد ميتا في النوالة وحيدا. عثر أهل الدوار على ما أعطيته و أبي، فاستعمل لشراء الكفن و الدفن. عند وصوله، جمع أهل الدوار و أخبرهم بالاستقبال الذي خصصناه له و قال في فخر: -أنا غادي نعيش مع خويا العميري و اهلو حتى نموت! انتهت حياة احمد ولد عيشة، و بقيت ذكراه في حياة أهلي كرمز من رموز الخير على الأرض، تسير جنبا إلى جنب مع النكران و الشر. ظلت قصته في ذاكرة أمي ظلال ماض لا يريد أن يموت، مملوء بأشباح أيامها السوداء، في حين كان أبي يرى فيه امتدادا لنور يبقى مشعا مهما حلكت الدنيا. تتنهد أمي تنهيدة حارة ملتهبة كهبوب رياح الشرڭي: - أحياني على ليام و ما عملاتو فينا، كنت نسحاب عمرني ما نشبع. تنحني على الأرض و هي جالسة، تركع ثم ترفع يديها إلى أعلى و تهتف: -نحمدوك و نشكروك يا خالق الدنيا و الدين و النعمة. لم تُنكر و لم تتنكر لنعمة الخالق و هي تقارن ما فات بما هو حاضر. تواصل حكيها الشبيه بسفر من القطب إلى القطب. كان الوداع بيننا و بين سيدي أحمد شبيها بمأتم في تلك الليلة التي أضيفت إلى الزمن المر الذي لا ينسى. مدّ يده إلى جيبه و أخرج عددا من الريالات. قبل أن يتكلم، سبقه أبوكم و هتف: -بالطلاق ما ناخذ منك شي، أنا عندي شي بركة، اللي قنع شبع. قال سيدي أحمد: -كن عندكم علاش تهزو القيطون خذوه تسترو به. هتف أبوكم: -نهزو على اكتافي! أنا سمعت بلاد الشاوية ما فيها هذا السخط. نمشيو تمّا و نلقطو الزرع حتى يفرج الله. ككل الأيام كان سفر الليل موعدنا مع القدر الذي لم يكف عن مطاردتنا. طوى أبوكم القيطون و دسّه في خيشة و لفّ ركائزه و أوتاده بحبل. خبزت ما تبقى من طحين لففته في منديل و جمعت الفراش القليل و دسست كل شيء في كيس حملته على ظهري. رفع رأسه إلى السماء ليحدد اتجاهنا إلى أرض الشاوية، ثم همس: -من هنا.. و خطونا من جديد نحو المجهول بعد أن طُردنا من أرض ورديغة التي عشنا فيها أجمل الأيام. كانت فاطنة الكبيرة و رابحة تسيران بخطو لا يؤدي إلى أي مكان و أبوكم يحمل القيطون على أكتافه و فاطنة الصغيرة بين ذراعيه. تجنبنا الدواوير و المساكن لكي لا نثير نباح الكلاب و الشبهات. الآبار التي صادفنا في طريقنا ليس لها حبال و لا دلاء، إما لأنها جافة أو أن أصحابها يحمونها من أمثالنا. قال و هو يحث الخطى: -زيدو قبل ما تطلع الشمس الحارة و ما عندنا ما. كان يسير في إصرار و صمت دون أن يئنّ من حمله. و كنا نسير في طريق غير مرسوم بنهاية أو هدف. كل ما علينا هو موصلة السير دون طرح أسئلة. إلى أين و إلى متى؟ أتحسس الخبز في الكيس و كأنه سيطير أو يتبخر. قال يائسا: -احنا باقين فين كنا، ما تحركنا. عندما لاحت طلائع الفجر، حادينا مساكن خريبڭة التي بدأ النصارى يشيدونها. لما تجاوزناها، بدت الأرض خلاء ممتدا على مدى الأفق، سوداء جرداء إلا من نباتات بَعّاج المشوكة و السدرة و الحصى و الصخورة الصلدة. كل شيء كان صامتا، نحن و الأرض و السماء و القدر الذي يقرر ما يريد دون احتجاج من أحد. مشينا طويلا دون توقف و كأننا مطاردون، و طلع الصباح و لم ينر وجوهنا صباح. أول أشعة الشمس أرسلت على ظهورنا ألسنة من لهب بلا نسمة ريح و نحن نتجاوز منطقة ورديغة. بدت لنا على البعد خيمة سوداء تتلألأ تحت سراب الحرارة. قال: -زيدو انشوفو هذيك الخيمة. بدأت فاطنة الصغرى تبكي من العطش. كنا نسير بخطى حثيثة و هي تبدو قريبة و لكنها لا تقترب و كأنها هاربة منا. مشينا حوالي ساعتين و لما اقتربنا صاح أبوكم: -واهل المكان! برز من تحت ستارها رجل طويل القامة و اللحية ملفوف في سلهام، جعله الوسخ يبدو بكل الألوان، يحمل في يده بندقية بوحبّة، صاح: -اشكون انتما واش ابغيتو؟ قلت في استعطاف: -اسيدي البنيات عطشو، اعطينا شوية الما الله يسقيك من الجنة! شخر الرجل ساخرا: -الجنة! فين هي الجنة؟ الما؟ فين هو الما؟ اشكون انتما؟ أجاب أبوكم في استعطاف: -احنا بني عمير اسيدي. خفض الرجل رأسه و لان لسبب ما و قال: -زيدو! أدخلنا الخيمة بعد أن أنزلنا الأحمال. كانت صغيرة و مفروشة بحصير مهترئ و فيها أشياء معدودة؛ زربية عتيقة و وسائد محشوة تبنا، مقراج أسود على علاّقات حديدية و مغارف خشبية و بُرمة سوداء و خابية ماء فوقها غطاء من الدوم و كوب من الطين. جلسنا على الحصير و بدأ يسقينا ماء. شربنا حتى انتفخت بطوننا في حين رفض أبوكم أن يشرب. وضع أمامنا طبقا من الدوم فيه خبزة شعير سوداء مخبوزة في الرماد. قال: -منذ أكثر من عشر سنين، كانت امرأتي عاقرة، نصحوني الناس نزورها مولاي بوسكري، ولي العاڭرات. و ذهبنا. بعد شهور حملت بولد. منين جاها الوجع ما كان معايا حد. ما عرفت ما ندير. ماتو بجوج! قدر الله. من تمّا ما بقيت تزوجت. هذا لارض خلاها ليا بويا الله يرحمو. ما بغايت نفرط فيها. على وجه مولاي بوسكري انتما ضيافين حتى للصباح. زمن اكحل هذا! الله يرحمنا! قال أبوكم: -كنا في ورديغة حتى سلط الله سخطو. لا زرع و لا ما و لا ابهايم! سمعنا الشاوية فيها الرحمة. ما عارفين فين غاديين. أجاب الرجل: -منطقة بن أحمد ما زال فيها شوية الخير. الصباح نوضو بكري. نعطيكم ڭربة صغيرة ديال الما لهذا البنيات على وجه الما اللي شربت من واد ام الربيع. كان الرجل كالح الوجه متفجر العينين بتقاسيم بشعة و أنف معقوف، و لكن طريقته في الحديث تبرز طيبوبته. يتحرك في الخيمة منحنيا و البندقية لا تفارقه، قال: -ما كاين أمان القطاطعية و الشفارة في كل مكان. تمشيو بالليل احسن. رفع ستار الخيمة و هو يشير بأصبعه إلى جبل يبدو في الأفق: -هذيك جمعة رياح قرب سيدي نادر و انويدر، يمكن تلقاو شي حد هناك تمشيو معاه. باقا الحصايد تاعت القطنية و الزرع. اقترحنا عليه أن ننصب القيطون بجانب الخيمة لننام فيه فلم يمانع. بدا كبيرا بما في الكفاية ليسعنا كلنا، و الأكثر أهمية هو الستار الأمامي الذي كان يسدّ بأصداف حديدية. كان أبوكم قد تخلص من الأوتاد تخفيفا من الثقل، و لذلك ربطنا أطرافه الأربعة بأحجار ثقيلة. جمعنا القش و فرشناه على الأرض ثم نشرنا عليه الهَدّونة فأصبح القيطون غرفة كاملة. بدأت حرارة الشمس في الاشتعال فازداد عطشنا. قال حجاج و هو اسم الرجل: -أنا غادي نجيب الما من الضاية، إلى تعطلت ما تقلقو. الما في الخابية شربوه. لم يكن له أي طعم، فقد كان من ضاية آسنة، لكنه كان يساعدنا على تبليل حلوقنا. حرصت على توفير الخبز الذي كنت أخبئه في حضني. و كان هاجس فقدان الخبز يدفعني لتحسسه باستمرار. الثلاث سنوات في جنة ورديغة لم تمح من ذاكرتي رعب الجوع في قبيلتنا على مر السنين. الجو في القيطون منعش قليلا. بين المرة و المرة تهب نسمات خفيفة من الهواء، قال أبوكم إنها آتية من البحر. لأول مرة أسمع بالبحر. سألته: -واش هذا دوار و لا قبيلة؟ أجاب بجد: -هو نص لارض. بحال الواد و لكن ماء مالح ما يتشرب. ما شفتو و لكن سمعت به. حوالي العصر، عاد حجاج و هو ينوء تحت ثقل قربتين من جلد الاعز. واحدة صغيرة قال إنها لنا و الثانية كبيرة أفرغ جزءًا منها في الخابية و علق الباقي على ركيزة الخيمة. لم نخبره بالخبز الذي كان معنا. حوالي المغرب قدّم لنا نفس الطبق بخبزة و صحن من السمن و أكلنا كل شيء. قال أبوكم : -غادين نرتاحو شوية و الصبح نمشيو بكري. إلى ما شفناك الله يكثر خيرك. أجاب الرجل: -نمشي معاكم حتى تعرفو الطريق. كان أبوكم شاردا صامتا لم يتكلم كثيرا. تمددنا على الهدونة و سددنا أزرار ستار القيطون. حشرنا البنات بيننا زيادة في الاحتياط. فقد حدثنا حجاج عن عمليات خطف الأطفال من طرف عصابات لم ندر ماذا يفعلون بهم. كنا نتقلب يمينا و شمالا. الليل صامت كالموت، لا أصوات و لا أضواء و لا نباح و كأنّ الدنيا جامدة لا تتحرك في تلك الأرض. رغم الإرهاق و ألم القدمين من أثر المشي الطويل لم أنم. توسدت الخبزات و أنا أتحسسها و كأنها ستهرب مني. الخبز هو القدر الذي يتحكم في كل شيء، الحياة و الموت و المصير. لم نكن نملك شيئا آخر غيره. لم أكن أعرف كم من الفلوس يخبئ أبوكم معه. بالنسبة لي، الخبز هو الثروة و المصير. كنا لا ندري ماذا سيحدث غدا و نحن نسير من مكان إلى مكان. و آهٍ من الخبز و الخبز و الخبز!! ككل الأيام، أصبحت نجمة الصبح بلمعانها الأخاذ على الكون، طالع شؤم علينا و نحن نستيقظ استعدادا للمسيرة التي لا وجه لها. السير إلى لا مكان و لا اتجاه. الدنيا تغرق في صمت شبيه بالآخرة. استيقظ حجاج و هو يسمع حركتنا ثم قال: -آجيو تاكلو شوية السمن و الخبز باش تشدو الطريق، جيبو الدريات. كنّ ما زلن مستغرقات في النوم و أبوكم يكشف عنهن القيطون لطيّه. كصبح نهاية العز في ورديغة، اقتسمنا الحمل الذي أضيفت إليه قربة الماء التي علقها حجاج على ركيزة الخيمة الخارجية لتبرد. أكلنا ثم انطلقنا و حجاج يسير أمامنا بخطى سريعة. راحة ليلة البارحة و الأكل و وجود الرجل معنا، أعطانا قوة جديدة للانطلاق. الموكب صامت لا يسمع إلا صوت تعثرات الأقدام بأعواد أو أشواك أو أحجار. مشينا طويلا و لساعات دون أن نلتفت. فاطنة الكبيرة يجرها أبوكم من يدها و هي تئن في حين كان يحمل فاطنة الصغيرة بيده الأخرى و أنا أحمل رابحة في ظهري. لما طلع الصباح، توقف حجاج و أشار إلى الأفق قائلا: -شفتو هذيك الكدية العالية و جنبها كدية صغيرة، هذاك سيدي نادر و نويدر، وتمّا جمعة لرياح. تبقاو بخير. قال أبوكم: -الله يجازيك على خيرك. و التفت الرجل عائدا. نظرنا إلى بعضنا في صمت ثم واصلنا السير. مشينا طويلا حتى انتصف النهار. فوق رابية عالية تنتصب قبة بيضاء أمامها شجرة نبق جاف عُلّقت عليها تمائم و قطع قماش و شعر و أحزمة بكل الألوان. هتفت لأبيكم: -الله! هذا ولي، خلينا نرتاحو بجنبو في الظل. وافقني في صمت و تخلص من أحماله و انهار على الٍض لاهثا. أفرشت الهدّونة في الجانب الضليل من القبة التي كان بابها مقفلا بقفل أسود كبير. وضعت يدي على قوس الباب و هتفت: -احنا في حماك يا ولي الله عاونا على هذا لبنيات! ابتسم أبوكم في أسى و هو يسمع توسلي و همس: -الحي ما صاب ما يعمل للحي، واش يعمل الميت للحي؟ استنكرت قوله و صحت: -أعوذ بالله! لا تكفر! حرّك رأسه و لم يجب. الشمس في عز اشتعالها و الدنيا خالية من حولنا. شربنا من القربة و أكلنا القليل من الخبز. تطلعت إلى ذلك المرتفع الذي أشار إليه حجاج، فبدا بعيدا غاصا في السراب الذي يغلف الأفق البعيد. قال أبوكم: -السوق يتفرق مع العاصر واحنا ما نوصلو حتى المغرب، نبنيو القيطون و نباتو حتى الصباح. شعرت بالخوف و قلت: -القيطون ابيض و ما يجيب غير لبلا، نفرشوه و نعسو فوقو. ما كاين برد. لبنات نغطيهم بالهدّونة على النجوم. كانت جدتك تقول لي؛ النوم تحت النجوم يشق العظام. ها نحن أصبحنا نعيش تحت النجوم، تشق فينا و منا ما تريد. كنا ندور مع الشمس للاحتماء بظل القبة حتى المغيب و قضينا الليل في العراء تحت النجوم التي تشق العظام. لم نر طلوع نجمة الصبح، فقد انتشر ضباب خفيف غلّف الكون و حجب الرؤية. قال أبوكم ملتفا حواليه: -هذا الضباب ما يخلي وراه إلا العافية تشعل! انطلقنا في ليل بهيم بنفس الحمل و نفس السير و الأحاسيس. السير إلى لامكان. أعتقد أننا انطلقنا في منتصف الليل، فعندما انكشف الضباب و لاحت أشعة الشمس، التفت وراءه و قال: -احنا فتنا سيدي نادر و انويدر. آش غادي يعطينا لحجر؟ ظهرت مجموعة من المساكن و النوايل و الخيام و قطعان المواشي و ناس في حركة ذؤوبة. كانت أرض الشاوية تتداخل فيها الفصول و يختلط الربيع بالخريف. بدت حقول الذرة و الفول و الجلبّان و الخضر..ما تزال تصر على خضرتها و حصائد القمح و الشعير ما تزال مكسوة بالسنابل. شهقت و قلت: -الله يا رب هذي أرض الخير! أجاب: -الى كان في اصحابها خير. رأينا على البعد بئرًا علقت فيه جرّارة و دلو و حبال. حدّق فيه و قال: -من البير نعرفو القبيلة. و اتجهنا نحوه. عندما اقتربنا قال: -سيري انت وانا نبقى مع الدريات. اتجهت نحو البئر و هو يبعد قليلا عن المساكن. وضعت رجلي اليسرى على صخرة البئر و مددت يدي إلى الحبل لأسحبه، و إذا بي أسمع صوتا قادما من ورائي يشبه فحيح الأفاعي. و صوت أبيكم يصرخ: -واعنداك الكلب! واعنداك الكلب! لما التفت كان الأوان قد فات. قفز الكلب الأسود الضخم الجثة على ساقي و غرز أنيابه في لحمي و جرّني، فسقطت على ظهري و هو يسحب لحمة ساقي بأنيابه حتى سقط شحمه على أصابع رجلي. رمى أبوكم كل شيء و جرى نحوي كالمجنون محاولا إمساك الكلب من فروته و رأسه و لكنه لم يتمكن. و في محاولة ثانية، ارتمى عليه بكل جسمه و أمسك حنجرته محاولا إبقاء فم الكلب إلى أسفل ليتجنب عضّه. كان قد ترك ساقي بعد هجوم أبيكم. و اشتد الصراع بينهما، الكلب الضخم في حجم نمر يحاول التخلص من القبضة التي تشد حنجرته و أبوكم الذي صبّ كا أحاسيسه المتناقضة، الغضب و الثورة و الحقد على الزمن و المصير و المجهول و المحنة التي لا يتوقف زحفها، على ذلك الحيوان المتوحش. في صراعه مع الكلب لم ينتبه إليّ. كنت قد انبطحت بطولي، و أنا أعوي مثل ذلك الحيوان من أثر الألم البشع الذي خلفته أنيابه في ساقي. قطعة الشحم البيضاء ما تزال فوق أصابع رجلي و هي ترتعش. و أخيرا، جلس فوق جثة الكلب يمسك حنجرته بيد و باليد الأخرى يحاول إبعاد رجليه الأماميتين عن بعضهما ليفقده قوة الحركة. تهاوى و جحظت عيناه و أبوكم ما زال يضغط بحقد على حنجرته. صدرت منه آخر حركة على شكل سعلة، و انطفأت عيناه. فجأة، رأيت عددا من الأشخاص يجرون نحونا حاملين المناجل و العصي. صحت في أبيك: -واعنداك راهم جايين! وقف بسرعة و انحنى واضعا يديه تحت جسمي و رفعني من الأرض و جرى بي نحو أخواتكم الباكيات.سحب ركيزة القيطون من الحزمة الملفوفة بحبل و أمسكها من وسطها بيديه الاثنتين و وقف متحفزا عاضًا على شفته السفلى و عيناه جاحظتان في الجمع المهرول نحونا و أنا منبطحة على الأرض أتلوى و أصرخ من الألم. اقتربوا أكثر و صاح واحد منهم يرتدي جلبابا قصيرا و نعلا: -لحمار تاع بوك قتلت الكلب احسن منك! تحفّز أبوكم و لم يجب. ارتفع صوت آخر بغضب: -والله يا بوك اليوم لا فلتي من ايدينا! تأخر أبوكم خطوة إلى الوراء متحفزًا مكشرا و همس بصوت كالفحيح: -اللي راجل يقرب مني! أنا معاكم واحد واحد حتى آخركم. شوفو آش اعمل كلبكم في مراتي! شفتو شحمتها! شفتو ساقها! إلى كلب عندكم احسن من بني آدم، اشكون أصلكم يا أصل الكلب؟ ثم صرخ بصوت مرعب: -واشكون أصلكم يا أصل الكلب!؟ بدأ غضبهم يتلاشى واحدا واحدا و هم يخفضون رؤوسهم خجلا. كنت ما زلت ممددة على الأرض و الألم البشع يتسرب إلى كل جسمي. كان شبيها بلسعة العقرب التي جرّبتها مرات. لم أكن أتصور أن شحم بني آدم أبيض كندفة القطن. استويت جالسة و أنا أحرك رجلي للتخلص من الشحم العالق بها. تقدم رجل منهم و قال بخجل: -سامحنا أسيدي ما عرفنا آش اللي جرى لهاد الولية! يالله معانا للدوار نداوي رجلها و يرتاحو هاد البنيات. ردّ أبوكم في غضب: -غير بعدو منّا! خليونا نمشيو في حالنا! انحنى عليّ و جذبني حتى استويت واقفة على رجل واحدة. انسحب الرجال خافضين رؤوسهم و اتجهوا نحو الدوار. لم يعد في إمكاني أن أحمل أي شيء من الأمتعة، القيطون و الهدّونة و صرة الخبز و فاطنة الصغيرة و قربة الماء. قال أبوك: -يالله نمشيو لبني عمير. زقوم بلادي و لا عسل البلدان! بلا قيطون. رمى الركيزة و انحنى على صرة الأمتعة و فاطنة الصغيرة و انطلقنا و أنا أقفز برجل واحدة. عدنا من حيث أتينا. قال: -الفلوس اللي عندنا نركبوا بهم لولاد هاتن و نمشيو عند اعمامي لولاد زيان. يتبع........