قال الدكتور عمر محمود بنجلون إن هناك توجها لإضعاف مهنة المحاماة في المغرب، لما "تمثله من قوة مضادة مستقلة". وأوضح بنجلون، وهو محامي بهيئة الرباط، أن الهدف من وراء هذا التوجه هو "إضعاف هذه المهنة النبيلة كآخر قلعة لبناء الوعي الجماعي والتأثير على المؤسسات". وتساءل بنجلون، في حوار خص به موقع "لكم"، عشية انعقاد "جمعية هيئات المحامين بالمغرب"، "كيف للمجلس الأعلى للسلطة القضائية كهيئة دستورية ملزمة بالحياد و الفوقية أن تصدر بيانا ضد المحامين ؟ أو لجمعية قضاة أن تهدد المحامين؟"، و "كيف لإدارة سجون أن تشتكي بمحامين ؟". وشدد بنجلون على وجود إرادة قوية تهدف إلى تحجيم دور الدفاع والمحاماة. وفيما يلي نص الحوار: ينعقد المؤتمر المقبل ل "جمعية هيئات المحامين بالمغرب"، أعلى هيئة تمثيلية لمهنة المحاماة، في سياق مطبوع بتراجع على المكتسبات الحقوقية التي حملها دستور 2011، ما هو الدور الملقى على هذا التنظيم الكبير خلال مؤتمره المقبل لجعل نضالاته المهنية تنتصر لدولة الحق والقانون؟ تسلل إلى الجسم المهني وعي مزيف يريد فصل المهنة عن طابعها الحقوقي من أجل إبعادها من رسالتها الكونية. المحاماة مهنة ذات طابع مسيس بغض النظر عن الخلفية الأيديولوجية، مسيس بالمعنى النبيل كون المحاماة تدافع عن المساواة والمناصفة و لحرية والكرامة والحق. فهي توجد على واجهات الترافع تصنع العدالة الاجتماعية والحقيقة كل يوم. تتميز المحاماة و إطاراتها المهنية بوعي جماعي قوي وريث لأزيد من قرن من النضال ضد الاستعمار و سنوات الرصاص، أفرزت مع مرور الزمن الحقوقي و السياسي طلائع من شتى المدارس الفكرية والسياسية، لعل جمعية هيئات المحامين بالمغرب كهيئة منبثقة من المجالس المهنية للمحامين خير تمثيل على هذه السيرورة التاريخية. فلما تتخلى المحاماة عن رسالتها الكونية بعلة انحسارها في الشأن المهني التقني، فهي تُضعف نفسها بنفسها. لذلك على الهيئات المهنية أن تستعيد دورها التاريخي لبناء دولة الحق والقانون بالمشاركة في إرساء قواعد العدالة وأسس تشريعية جديدة تنسجم مع منظومتها القيمية المقررة في الإطار الحقوقي الدولي والدستوري. في نفس السياق يبدو أن ثمة توجها للإجهاز على المحاماة لإضعافها، كيف تقرأ هذا الهجوم الممنهج ؟ فعلا هناك توجه لإضعاف مهنة المحاماة لما تمثله من قوة مضادة مستقلة تشارك السلطة القضائية وتؤثر على التشريع من خلال طابعها السياسي واجتهادها القضائي والعلمي. من جهة هناك توجه عالمي يريد اختزال المحاماة في قطاع خدماتي صِرف كما تقترح ذلك منظمة التجارة العالمية، ومن جهة أخرى نقف عند ظواهر الهجوم على المحاماة من الناحية الرمزية والمهنية والاقتصادية والتشريعية. الهدف هو إضعاف هذه المهنة النبيلة كآخر قلعة لبناء الوعي الجماعي والتأثير على المؤسسات. يأتي الاستحقاق التنظيمي في سياق أزمة مهنية غير مسبوقة تعيشها مهنة الدفاع، تنذر بخطر انهيار الأوضاع المادية للمحامين ونسف مكانتهم الاجتماعية، كيف تتصور مقاربة المشاكل التي تعرفها المهنة؟ علينا تشخيص هذه المقاربة في ثلاث واجهات. أولا الواجهة الرمزية، التي تقدم زملاء للرأي العام من أجل وضع المهنة تحت رحمة "المحاكمة الشعبية" من جهة، وضغط التهديد من جهة أخرى من خلال البيانات الصادرة عن هيئات إدارية ومدنية ودستورية. فادا كان من أدوار النيابة العامة – كمحامية الحق العام وخصم شريف لهيئة الدفاع- أن تتواصل مع الرأي العام في شأن القضايا الرائجة ، فكيف للمجلس الأعلى للسلطة القضائية كهيئة دستورية ملزمة بالحياد و الفوقية أن تصدر بيانا ضد المحامين ؟ أو لجمعية قضاة ان تهدد المحامين ؟ أو إدارة سجون ان تشتكي بمحامين ؟ قد نستخلص من كل ذلك إرادة قوية في تحجيم دور الدفاع و المحاماة. ثانيا و من حيث الواجهة الاقتصادية، هناك ضرب صارخ للمحاماة من خلال التطاول على قاعدة "احتكارها للقانون". فالمنافسة الغير مشروعة للمهن المجاورة وتضخم مكاتب "التحصيل والاستشارة" وإغراق المهنة والسيادة القانونية بما يسمى "المكاتب الدولية"، تلخص تحولا جوهريا في الأرضية المادية للمهنة من أجل إضعافها والتحكم فيها. لذلك وجب إعادة ترميم البيت الداخلي للمحاماة من اجل مواجهة هذه المخاطر بحزم وذكاء عبر كل الآليات المتاحة. وهذان "الورشان" يمهدان لتدخل المناهضين للمحاماة من الواجهة التشريعية، وذلك من خلال مشاريع تعديل قانون المهنة وقانون المسطرة الجنائية والمدنية، يقلص من دور الدفاع بعقلية تريده مجرد صورة في آلة تحكمية لا مجال لغير السلطة التقريرية فيها. من خلال تشخيصكم لواقع المحاماة ما العمل في رأيكم لتجاوز الوضع الراهن؟ تحدثت عن ثلاث واجهات تحارَب فيها المحاماة من أجل وجودها، وهو ما يفرض علينا النضال من اجل تطويرها وتقويتها وليس الحفاظ، فقط، على استمرارها، و ذلك عبر سياسة جريئة تتجلى في التصدي للتشويش الاقتصادي الممنهج ولو باللجوء للمساطر القضائية كهيئات ذات صفة، ومحاربة الاحتكار الخارجي والداخلي، وتوفير غلاف مالي شامل للتامين الصحي والمعاشي والمهني لكل المحاميات والمحامين، والتفاوض على نظام ضريبي ينطبق على الطابع المدني والاجتماعي الأصيل لمهنة المحاماة، من أجل تقوية الذات المهنية من الناحية الاقتصادية والاجتماعية. لنذكر كذلك بأن المحاميات والمحامين هم عدديا ونوعيا قوة فكرية وقانونية وأخلاقية عليها أن تنظم ذاتها وتتوحد لتقول كلمتها وتعبر عن مواقفها كشريك بل ومصدر للعدالة والتشريع والاجتهاد، ليستوعب الجميع، عن طريق التوعية والقانون، أن المحاماة سلطة قائمة مكتملة الأركان تُعد ركيزة من ركائز دولة الحق والقانون السير المؤسساتي السليم. كان هناك مطلب بدسترة المحاماة لتعزيزها و حصانتها و الارتقاء بها إلى المنظومة الدولية المؤطرة لها، فهل ما زال هذا المطلب قائما؟ أكيد أن هناك إطارات مدنية متعددة للمحامين فعاليات مهنية وفكرية وسياسية تطالب بدسترة المحاماة من أجل إقرار مبدأ الشراكة في بناء العدل ودولة الحق والقانون. على خلاف تونس التي استطاعت فيها مهنة المحاماة الولوج إلى النص الدستوري ونيل جائزة نوبل في السلام، ما زلنا في المغرب مبعدين من بعض المؤسسات الدستورية ذات الصلة ونواجه الصعوبات الممنهجة المشخصة في ذكرته سابقا، بالرغم من الأدوار الطلائعية التي لعبتها المهنة في بلدنا والمعاهدات الدولية التي تمنحها مكانة اعتبارية عالية وحصانة صريحة وقوية. وسيكون من الإصلاحات الهامة في بلدنا أن تأخذ المحاماة مكانتها في الدستور المغربي لتفادي التربص المحيط بها وإقرار الموازنة داخل المنظومة المؤسساتية المغربية.