لقد أصبح هناك شبه اقتناع تام لدى غالبية رجال ونساء الدفاع أن هناك حالة فراغ كبيرة تنتاب الجسم المهني للمحاماة، وأيضا إحساس بنوع من الخوف أصبح مترسخا في عقول وأفعال الكثير من الزملاء ممن لا حول لهم ولا قوة وأصبحوا يحتاجون لمحامين يدافعون عنهم. وكل ذلك لأن القناعة السائدة حاليا في أوساط المهنيين هي أن المؤسسات لم تعد قادرة على إفراد الحماية اللازمة لهم، وحتى تضامن الزملاء أصبح مشروطا بعدم تجاوز الخطوط الحمراء وعدم التضاد مع الأجهزة الحاكمة التي تدبر القطاع بطريقة دقيقة ومبدعة بهدف تدجين المهنة وبت الخوف والرعب في نفوس ممارسيها. ورغم أن لكل وجهة نظره في حالة الفراغ والخوف الذي تعيشهما مهنة الدفاع، بين من يحمل المسؤولية للمحامين كأشخاص ومؤسسات وبالتالي يعتبر أن المسؤولية ذاتية، وبين من يحمل المسؤولية لعوامل خارجية تتربص بالمهنة وممارسيها. إلا انه في حقيقة الأمر فإن هناك أسباب ذاتية وموضوعية كلها اجتمعت من أجل تكريس الأزمة وترسيخ الخوف لدى المحامين، رغم أن أساس مهنة الدفاع هو الشجاعة والقوة والصلابة حتى يكون المحامي بمثابة ذلك الحصن الحصين الذي يحمي حقوق وحريات المواطنين ويسهر على التطبيق السليم للقانون. ويمكن التدليل على حالة الخوف والفراغ الذي تعيشها مهنة المحاماة بجميع مكوناتها أفرادا ومؤسسات، بالشعور الذي أصبح مترسخا لدى العديد من الزملاء والزميلات الذين أصبح همهم الأساسي هو مصالحهم الضيقة وطريقة عمل مكاتبهم الخاصة وما يدره حساب الودائع من أموال أصبحت في نظرهم هي أساس المهنة وعمودها، وليس الدفاع عن حقوق ومصالح الناس الفردية والجماعية. كما أن الحس التضامني أصبح غائبا بين الزملاء فأيا ما كان الاعتداء والظلم الذي يتعرض له أي زميل أو زميلة لا تجد إلا قلة قليلة من المقربين إليه من يتضامنون معه مع الكثير من التحفظ، بحكم ترسخ ثقافة الخوف التي أصبحت تتحكم في مواقفهم، و قد لاحظنا ذلك في محاكمة نقيب للمحامين لم يحضر معه للتضامن والمؤازرة سوى بضع أنفار من الزملاء. كما أن الإحساس بعدم أهمية تدبير الشأن المهني العام وتركز العلاقة فيما بينهم وبين المؤسسات المهنية التي تدبر مجال المحاماة في كونهم مجرد أوراق وأرقام إنتخابية تتم تحيتها وتقبيلها ومعانقتها فقط في فترة الحملة الانتخابية جعل الزملاء والزميلات يشعرون بنوع من الإحساس بالدونية وعدم الأهمية، وبكون مصالحهم المهنية والحقوقية والاجتماعية لا يمكن أن يحميها أو يرعاها أحد غير أنفسهم. وهذه الثقة المفتقدة بين الزملاء فيما بينهم، وبينهم وبين المؤسسات المهنية زادت من حدة الخوف لدى المحامين وجعلتهم يدركون أكثر فأكثر أن لا ملجأ لهم إلا إليهم، فهم أجدر بتحقيق الحماية والقوة والعيش الكريم لأنفسهم، أكثر من أي شخص أو مؤسسة أخرى. ولعل تراكم هذا الخوف والتوجس من الحاضر والمستقبل، لا يعود فقط إلى الأسباب الذاتية المذكورة أعلاه، ولكنه يرجع أساسا إلى أسباب موضوعية أصبحت مفروضة على مهنة المحاماة، وتعمل على إضعافها وتأزمها والتقليل من شأنها وتحجيم أدوارها الحقوقية والحمائية داخل المجتمع. ويمكن أن نستشف ذلك بسهولة كبيرة حينما نتأمل مسار المحاكمات الحقوقية الأخيرة، وطريقة تدبيرها الذي يتعارض مع أبسط قواعد المحاكمة العادلة، ودور الدفاع الضئيل فيها الذي تجرد من الحصانة والإستقلالية والنزاهة وجنح إلى الفنطازيا والفلكلور والبوز، مما جعل هذه المحاكمات عبارة عن صورة مصغرة معبرة عن الأزمة العميقة التي تعيشها مهنة الدفاع. كما أن ما ترتب عن هذه المحاكمات من تهديدات لزملاء، بل والوصول إلى متابعتهم وعرضهم على أنظار القضاء لمجرد تعبيرهم عن أراء ومواقف تدخل في إطار حرية الرأي والتعبير وحصانة الدفاع، كل هذا ساهم في زيادة منسوب الخوف لدى الزملاء لا سيما أمام إحساسهم بعدم قدرة مؤسساتهم المهنية على حمايتهم وحماية الممارسة المهنية الحقوقية والجريئة. ناهيك على أن الإطار القانوني الجديد الذي يطبخ في دهاليز وزارة العدل، تشهد مشاريعه الأولية الكثير من التراجعات والتضييقات على مهنة المحاماة، بشكل سينقص الكثير من قوتها الحقوقية ويضعف قوتها الإقتصادية والإجتماعية. إن النقاش حول قانون مهنة المحاماة يوضح أيضا حقيقة الخوف المتسرب داخل الجسم المهني، فإضافة إلى أن بداية النقاش حوله كانت مباشرة مع بداية العطلة القضائية حيث يحتاج المحامين إلى أخد قسط من الراحة بعيدا عن الهموم المهنية التي تطبق على أنفاسهم طيلة أحد عشر شهرا، فإن النقاش يبدو ضيقا و بعيدا عن المقاربة التشاركية التي يجب أن تستحضر أثناء تحضير ومناقشة هذه القوانين النخبوية كقانون المحاماة، إضافة إلى أنه حتى على مستوى النقاشات المطروحة يظهر أنه مرتكز على الأمور الثانوية والهامشية أكثر من الأمور الأساسية التي تقوم عليها مهنة الدفاع. فمناقشة مقتضيات تتعلق بالشهادة التي تخول الولوج إلى المهنة هل هي الإجازة أم الماستر، هو نقاش عقيم ولا فائدة منه، على اعتبار أنه لا فرق بين الاثنين سوى أن الماستر أصبح أغلب أبناء الشعب محرومين منه لما أصبحت تعتمد عليه الجامعات من معاييرغير موضوعية في تحديد الطلبة الناجحين في الماستر، وبالتالي فهذا المعطى سيشكل ظلما مزدوجا لهذه الفئة التي حرمت من استكمال دراستها في الماستر، وستحرم بالتبعية من إمكانية الولوج إلى مهنة المحاماة. ولذلك فتركز النقاش حول المؤهل العلمي وتناسي النقاش الأهم حول الحصانة والاستقلالية والاحتكار، هو بداية تطبيق للخطة المراد بها إضعاف مهنة الدفاع وذلك من خلال إلباسها لباس قانوني على المقاس، يجعل منها مهنة تقوم بدور مساعد وثانوي بعيد عن أي ريادة حقوقية وسياسية وإجتماعية، لأنها أضحت تمارس عملها تحت طائلة التضييق والخوف. ناهيك عما تضمنه ميثاق منظومة العدالة من مقتضيات سلبية كعدم الحسم في موضوع احتكار الدفاع من طرف المحامين وتوسيع اختصاصاتهم خاصة أمام تضاعف عدد المحامين في العقود الأخيرة، مما جعل بعض المهن القضائية وغير القضائية تتطاول على مهام المحامين، ونذكر في هذا الخصوص مهنة الكاتب العمومي الذي أصبح محاميا واقعيا لا يلزمه إلا ارتداء البذلة، وأيضا مهنة المفوضين القضائيين الذين لم يعودوا ينفذون فقط المساطر التي تدخل في إطار المختلفات، ولكنهم أصبحوا يقومون بهذه المساطر رأسا من خلال كتابتها ووضعها لدى صندوق المحكمة وانتظار الأمر المختلف وتقديم طلب تنفيذ، وفي النهاية يصلون إلى المرحلة التي تجسد اختصاصهم الأصيل وهو التنفيذ. كما لا يمكن نسيان الدور الذي أصبح يقوم به العدول ليس في توثيق العقود فحسب ولكن أيضا في ممارسة المساطر الشرعية ومزاحمة المحامين في هذا الاختصاص، وأيضا من خلال الأضرار باستقلالية الأجهزة المسيرة للمهنة من خلال حشر عناصر قضائية في المجالس التأديبية للمحامين. ونفس الأمر جاء به مشروع قانون المسطرة المدنية عندما أقر مبدأ عدم إلزامية الدفاع في بعض القضايا التي يقتات منها المحامين المبتدئين والبسطاء، بحيث أصبح للأشخاص المتقاضين إمكانية الترافع لصالح أنفسهم، وهو ما سيقلص من مجال عمل المحامي وسيضعف بشكل مباشر مهنة المحاماة. وأخيرا وليس آخرا نذكر بما جاء مشروع قانون المسطرة الجنائية من مقتضيات تعارض بشكل كلي مصالح المحامين وخاصة ذلك الإجراء الذي شرعن التجسس على مكاتب المحامين بتواطؤ بين الموكلين سيئي النية والسلطات القضائية المختصة، وكل هذه المستجدات التشريعية تؤكد شيئا واحدا هو زيادة منسوب الخوف لدى المحامي وذلك عن طريق تفقيره وإرهابه والحد من حريته في الممارسة المهنية، بشكل يجعله غير قادر على الدفاع عن نفسه فما بالك أن يستطيع الدفاع عن حقوق ومصالح موكليه. هذا الإضعاف القانوني والتشريعي يواكبه إضعاف أيضا على المستوى المؤسساتي، ذلك على أنه بغض النظر عن النقاش المطروح حول وجود أو عدم وجود عناصر قضائية داخل المجالس التأديبية للمؤسسات المهنية، فإنه أصبحت هناك قناعة لدى العديد من رجال ونساء الدفاع على أن النيابة العامة أصبحت أكثر قدرة على حماية المهنة والدفاع عنها، وللأسف هذا الرأي جاء من بعض أعضاء المجالس الذين من المفترض أنهم يعلمون بشكل جيد حقيقة المشاكل الفردية والجماعية التي تطرح على المجالس المهنية، كما أن هذا الرأي يتبناه الكثير من الزملاء الذين أصبحوا يعاينون أن بعض النقباء وأعضاء المجالس أصبحوا يلجئون إلى تصفية الحسابات مع زملائهم لأسباب شخصية وليس مهنية، وبالتالي أصبحت لهم قناعة أن الحماية القضائية هي أفضل من الحماية المؤسساتية لمجالس المحامين، وبالتالي لا يعارضون وجود مجالس تأديبية مختلطة مثلما اقترح ذلك ميثاق إصلاح منظومة العدالة. كما أن الضعف المؤسساتي يظهر أيضا من خلال ثقافة البيانات والتنديدات التي أصبحت أهم آلية يتم العمل بها على مستوى الكثير من الهيئات وخاصة على مستوى جمعية هيئات المحامين بالمغرب، بدل اتخاذ المواقف الجريئة والحاسمة في الكثير من القضايا التي تحتاج إلى الحسم واستعمال الآليات التأديبية من أجل إعادة الأمور إلى نصابها كل ما كانت هناك حاجة إلى احترام القانون وأعراف وتقاليد هذه المهنة النبيلة. ولعل الضعف برز بشكل أكبر حينما نحاول تلمس مواقف المِؤسسات المهنية إبان مناقشة القوانين المرتبطة بمهنة المحاماة والتي لها علاقة مباشرة بمصالح المحامين، وكيف يظهر على أن السلطات الحكومية تفرض ما تريده من دون الاكثرات بمواقف الهيئات التي تبقى مجرد اقتراحات غير ذات أهمية، وقد ظهر ذلك بالأساس مؤخرا حينما تمت مناقشة قانون التغطية الصحية الإجبارية للمهنيين وغير الأجراء ونظام المعاشات للمهنيين وغير الأجراء، وتبين جليا كيف كان دور المؤسسة المهنية هزيلا وغير مؤثر، وكيف عملت السلطة الحكومية على فرض وجهة نظرها ووضعت المحامين في سلة واحدة مع مهن أخرى لا ترقى إلى خطورة وأهمية مهنة الدفاع، وجعلت تدبير هذا الجانب الحساس يخرج من يد المؤسسات المهنية. وهذا الأمر يرسخ أيضا مبدأ الخوف لدى المحامين، خوف من الحاضر ومن المستقبل. كما أن منسوب الخوف زاد لدى المحامين حينما لاحظوا أن القضاء أصبح أكثر قوة ونفوذا حينما أصبح مستقلا، ولا سيما على مستوى القضاء الواقف، ذلك أن النيابة العامة أصبحت لا تترك أي فرصة إلا وتعبر عن قوتها ونيتها في فرض السيطرة على جميع المهن القانونية والقضائية المرتبطة بقطاع العدل، وقد ظهر ذلك جليا في العديد من بياناتها وتقاريرها، وهو شيء ستكون له تبعات سلبية لا محالة على مهنة المحاماة، لا سيما على مستوى الاستقلالية والحصانة، وبالتبعية فإن هذا الأمر يرسخ أيضا قيمة الخوف لدى رجال ونساء الدفاع الذين كانوا يفتخرون دوما باستقلاليتهم، وبتدبيرهم الذاتي لأمورهم المهنية بعيدا عن تدخل أي سلطة أو تحكم من أي جهة قضائية وإدارية. الدكتور خالد الإدريسي