في خضم التحولات الجذرية في تونس ومصر، ودوي التغيير في العديد من البلدان العربية الأخرى، يظهر بلد عربي واحد كثيف السكان مستقرا نسبيا : إنه المغرب. ففيما تكافح أمريكا تحديد استراتيجية من أجل إشراك الشعوب العربية في تطلعاتها المشروعة، وفي الوقت ذاته تحافظ على الاستقرار في المنطقة العربية، فإن المغرب يقدم مثالا جديرا بالاهتمام. لماذا بقي المغرب، إلى حد كبير، بمنأى عن الغضب الشعبي والمظاهرات العارمة التي صارت هي القاعدة في أرجاء العالم العربي؟ فالحكومة معيبة وما يزال ثمة الكثير من العمل يبنغي القيام به حتى يستطيع المغرب ولوج القرن الواحد والعشرين بشكل صحيح. ومع ذلك، نجد الحكومة أيضا مستقرة في الأساس. وهذا يعود لأسباب عديدة. السبب الأول يتعلق بجانب فريد في الثقافة السياسية المغربية التي لا يمكن لأكثر البلدان العربية تسكانا أن تحاكيها بسهولة. ففي منطقة يصعب فيها الحصول على مشروعية سياسية، نجد المغرب يخضع لحكم ملكي عمره ثلاثة قرون من التاريخ الطويل في البلاد. إن مؤسسة المخزن، التي تعني باللهجة المغربية : السلطة الإدارية للمملكة، تحظى بشعبية تاريخية بالبلاد. فهي جزء من تركيبة الثقافة المغربية، التي تتماهى فيها موسيقاه وفنه مثلما تتماهى فيها مؤسساته السياسية ومؤسسات المجتمع المدني. ثم إن الملك محمد السادس هو نفسه يتمتع بشعبية كبيرة، لاسيما لدى الفقراء في المدن والقرى على السواء، حيث أنهم، إلى حد كبير، يعتبرونه بطلهم. لكن الملك الشاب، خلال حكمه طيلة أحد عشر عاما، لم يكن يرضى بالارتكان إلى أمجاد تقاليد أسرته. فعلى العكس، بذل جهودا مضنية لمقاومته وانقلابه على الميول الديكتاتورية لوالده الراحل الحسن الثاني، الذي عرفت سنوات حكمه ب "سنوات الرصاص". فقد بدأ محمد السادس حكمه بالاستغناء عن مدير الأمن السيء السمعة الذي خدم والده طويلا واستبدله، لأول مرة، بشخص مدني. وقد فعل ذلك، على خلفية تنامي قوة المعارضة الإسلامية بالبلاد، وتشكيلة من الأحزاب والحركات البعيدة عن السياسة التي تشمل - بشكل غير مفاجئ - امتيازا محليا لحركة الإخوان المسلمين الدولية. وفي غضون أربع سنوات من تولي الملك سدة الحكم، أنشأ لجنة هي الأولى من نوعها في العالم العربي، لجنة الحقيقة والإنصاف، بهدف جبر الأضرار الإنسانية التي نجمت عن ممارسات النظام السابق. وقد تم تعويض الكثير من الضحايا عن معاناتهم السابقة. فللمرة الأولى في التاريخ المعاصر للبلاد، دعا اليسارَ السياسي للانضمام لحكومته في البرلمان. وأجرى انتخابات برلمانية متعاقبة سجل فيها الإسلاميون مكاسب غير مسبوقة وأصبحوا عنصرا مؤثرا في المجلس التشريعي. وخلال الانتخابات البرلمانية الأخيرة، أشادت اليومية الفرنسية "لوموند" بالاقتراع على أنه "الاستثناء المغربي" في المنطقة العربية المعروفة بتقاليد البطاقات الانتخابية المغشوشة. وبرغم وجود مشاكل في نتائج الانتخابات – ترشح 26 حزبا، ما نجم عنه ائتلاف منقسم يقوده وزير أول تقنوقراطي – فالقليلون شككوا في نزاهتها. واليوم في المغرب، فالشوارع خالية نسبيا من المظاهرات الحاشدة لسبب بسيط هو أن الشباب لديهم وسائل أخرى عديدة لتسجيل اعتراضهم على سياسات الحكومة وحتى نظام الحكم نفسه. كما أن النقاشات العامة تبث على شاشة أقوى منبر إعلامي في ملكية القطاع الخاص – حيث تعرض عليها حتى النقاشات حول سلطة الملك التي لم تعد تعدّ من المحرمات. وبصرف النظر عن هذه الإنجازات، تواجه المملكة تحديات كبيرة وستستمر في الاعتماد على الدعم الأمريكي والأوربي في المستقبل المنظور. ولعل التحدي الرئيسي، الذي تنبع منه مشاكل أخرى، هو الفقر الواسع الانتشار، والغياب الظاهر لطبقة وسطى. فقد ورث الملك وضعية اقتصادية حيث الفقر، المدقع في الغالب، هو مصير الملايين من المغاربة. إذ أن العجز الاجتماعي للبلد كبير في مجال الإسكان وأسرة المستشفيات والبنية التحتية الأساسية. إن الفساد الإداري المستشري يذكي المخاوف الشعبية بأن الحكومة غير مؤهلة لتلبية الاحتياجات الاقتصادية للجمهور. وقد ساهمت هذه البيئة كذلك في ازدهار صناعات غير مشروعة، مثل الهجرة غير الشرعية إلى أوربا والاتجار الواسع النطاق للمخدرات، وإضافة إلى ذلك كله : مشكلة الإرهاب. إن النظام الذي وضعه محمد السادس لمعالجة مشكل الفقر يعتمد على نهج الشراكة مع مؤسسات المجتمع المدني. فالموارد المعبأة كبيرة، إن لم تكن غير كافية لسد فجوة الفقر : إذ بلغت وتيرة نمو الاقتصاد المغربي في المتوسط أربعة في المائة على مدى خمس سنوات – وهو أمر معقول بالنسبة لبلد نام، على الرغم من عدم كفايته لتلبية احتياجات السكان الذين يعرفون تزايدا سريعا. وقد سجلت المناطق الحضرية أعلى المستويات. فهي واضحة حتى للعين المجردة، لذلك بدأ الملك في العمل على خطط لإزالة مدن الصفيح وإعادة إيواء ساكنيها في مساكن عامة جديدة. وفي الوقت نفسه، على الرغم من تخلف المناطق الريفية عن الركب، فإن مشاريع نية تحتية جديدة تقدم وعودا بتشغيل جزء مهم من الفقراء في القرى، من خلال بناء مكثف للطرقات والطرق السريعة والموانئ وكهربة القرى ومشاريع مياه الشرب في البوادي. وسيظهر أثر هذه المشاريع في المديين المتوسط والطويل. غير أنه، في أثناء ذلك، يبقى الفقر مولدا للتطرف. إن التحدي الآخر الأكبر للمملكة هو بروز الإسلام السياسي. فمنذ سنوات الثمانينات والتسعينيات، تطور خطاب الإسلام السياسي بشكل كبير، زيادة على نهجه الاستراتيجي الذي صار أكثر واقعية. فعوض تقديم وعود باستعادة فورية للعمل بالشريعة القرآنية، تدعو غالبية الأحزاب الإسلامية اليوم إلى التمسك بالمفاهيم الأساسية الثلاثة : الحرية والعدالة والتنمية. وفي الوقت الذي لم يتخلوا فيه عن معتقداتهم الرجعية الدينية، أدخلوا في خطابهم، بشكل ملائم، مفاهيم الديمقراطية والإصلاحات. غير أن رؤيتهم لم تتغير فيما يتعلق بوضعية المرأة. ولهذا السبب بالخصوص، فإن جهود الحكومة المغربية لزيادة مصداقية الهيئات المنتخبة تزداد تعقيدا بسبب هذه الظاهرة الإسلامية. وعلى الرغم من فوز الإسلاميين بعشرة في المائة فقط من أصوات الناخبين في الانتخابات البرلمانية الأخيرة، فإن حزب العدالة والتنمية، على سبيل المثال، استغل الانقسامات داخل الصفوف السياسية لتشكيل ائتلاف يخدم أهدافه إلى حد كبير. ولا يزال الإسلاميون يستخدمون الخلفية المحافظة للمجتمع المغربي للضغط من أجل تغيير اجتماعي ينحو نحو تطبيق الشريعة. فعلى سبيل المثال، تعبأ الإسلاميون بشكل مكثف لإعاقة "مخطط الملك لإشراك النساء"، وهو سلسلة من التدابير تقدمت بها الحكومة لتحسين ظروف ساكنة البلاد من الإناث. وقد أخذ الملك هذه المخاطر في الحسبان وأنشأ لجنة برلمانية مكلفة بالمضي قدما بجدول عمل الخطة. وكانت النخب المغربية من غير الإسلاميين تخشى من دفن المشروع. وكانت المفاجأة التي تلت هي أن الملك ضغط من أجل تنفيذ الخطة وفاز، على الرغم من جهود الإسلاميين لهزمه. وفي الوقت ذاته، تعهد الملك، من خلال العمل مع الفئة المثقفة في البلاد، بإصلاح الحياة الدينية على نطاق واسع، وتعزيز شكل متفتح ومتسامح من الإسلام، ومحاربة التطرف الفكري والثقافي. وشمل هذا المسعى نشر "مستشارات" دينيات على العديد من المساجد وإعادة هندسة التربية الإسلامية في المملكة، بهدف وقف زحف الوهابية التي هي أكثر الأشكال فتكا – وهي توجه متشدد أخذ يرسخ جذوره في المغرب في بداية الثمانينات لما ضمت السعودية والمغرب جهودهما ضد الشيوعية السوفياتية في أفغانستان. كما اعتمد الملك على غنى التقاليد المغربية المرعية ووظف القيادات الصوفية للبلاد أيضا – حيث إن هذا التوجه الصوفي للإسلام قوي جدا في المغرب – للمساعدة على محاكمة المتشددين. وفي هذا الجو السياسي المستقر والحميد إلى حد كبير نجد، مع ذلك، ائتلافا صغيرا من اللاعبين الهامشيين يعملون على زعزعة النظام، ومعظمهم من خارج البلاد. ويبدو أن الأمير مولاي هشام، أحد أقرباء الملك الذي يقطن برينستون، في نيو جيرسي، يتبنى بديلا للنظام الملكي، يتوافق أكثر مع النظام التونسي في ظل حكم بن علي أو النظام الحالي في سوريا. فمن خلاله من التفكير من خارج البلاد، وطد في الماضي تحالفا مع نادية ياسين، سليلة "حركة العدل والإحسان" الإسلامية المتطرفة، وأعلن بأن المغاربة يجب أن "لا يخشوا من وصول الإسلاميين للسلطة"، كما لو أن التوجه الإسلامي لا يتمتع بالسلطة السياسية بالفعل. لقد جند الأمير مولاي هشام عددا صغيرا من الصحافيين المتعاطفين لمساعدته في قضيته. ومن المؤسف أن لا يعود الأمير إلى المغرب ويدخل المعترك السياسي بنفسه. فعندما يفعل ذلك في نهاية المطاف، سوف يكتشف الفرصة لتقديم قضيته للشعب بشكل مباشر، عوض الاعتماد على الوكلاء، وفي النهاية تعزيز التقدم نحو حكومة حرة وتمثيلية في المغرب. * المصدر: موقع "فوكس نيوز" * أحمد الشرعي هو مدير راديو ميد، وهي شبكة إعلامية وطنية في المغرب، كما أنه ناشر المجلة المغربية الاسبوعية "لوبسيرفاتور"، إضافة إلى النسخة الفرنسية من مجلة "فورين بوليسي" (السياسة الخارجية). وهو عضو في مجلس الأمناء في مؤسسة بحوث السياسة الخارجية، وفي المجلس الاستشاري لمركز الدراسات الإستراتيجية والدولية، كما يعمل في مجلس الإدارة لبحوث الأرضية المشتركة.